إيران فى عين العاصفة/ د.عبير عبد الرحمن ثابت

ثمة حقيقة ماثلة أكدتها الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية على سوريا؛ وهو أن الغرب استطاع فتح ثغرة عميقة بين المصالح الروسية الاستراتيجية وبين مصالح حلفائها الإيرانيين والسوريين ممثلين فى نظام الرئيس بشار الأسد، وأن روسيا لم تستخدم نفوذها الاستراتيجى الدولى كقوة عظمى فى منع تلك الضربات؛ والتى نفذت دون أى غطاء من الشرعية الدولية؛ وهو ما يضع علامات استفهام حول سياسات التحالفات الروسية القديمة المتجددة لروسيا فى الشرق الأوسط، فيما إن كانت امتداد لنفس سياسات التحالفات السوفيتية القديمة؛ والتى  كانت دوما تحالفات تكتيكية قصيرة الأمد لخدمة المصالح السوفيتية الاستراتيجية دون المصالح الاستراتيجية لحلفائها، وهو ما ظهر فى الصراع العربى الاسرائيلى خلال القرن الماضى؛ وأدى فى نهاية المطاف إلى فقد العرب (الحليف الاسترتيجى للسوفيت فى حينه) لتوازن القوة مع اسرائيل؛ وخسارة دول عربية لأراضيها مع خسارة ما تبقى من أراضى فلسطينية فى حرب 67 والتى عرفت بالنكسة.
واليوم نحن أمام سيناريو جديد مشابه فى سوريا؛ حيث تلعب إسرائيل والولايات المتحدة فيه نفس دورهما القديم؛ وفيه نجحت روسيا بتحقيق مصالحها الاستراتيجية والعودة مجددا إلى الشرق الأوسط عبر الأزمة السورية، وقد حصلت على حصتها فى سوريا وذلك عبر ترسيخ وجودها العسكرى فى الساحل السورى بشرق المتوسط؛ علاوة على ترسيخ النفوذ المدنى الروسى عبر استثمارات روسية مدنية وعسكرية مع النظام السورى فى مشاريع استرتيجية طويلة الأمد يراد بها تحصيل القدر الأكبر من مشاريع إعادة إعمار البلاد مستقبلا.
وفى المقابل ثمة نفوذ إيراني مدنى وعسكرى موازى ومتحالف مع روسيا فى تحالف مصالح مؤقت تتباين فيه المصالح الاستراتيجية لكلا الطرفين على المدى البعيد؛ فالروس على سبيل المثال لا يرون فى الإسرائيليين عدوا استراتيجىا بقدر ما هو خصم يمكن التفاهم معه؛ بينما تعتبر إيران إسرائيل عدو يجب إزالته على الأقل فى أدبيات نظامها السياسى، إضافة إلى أن الإيرانيين لديهم أجندة استراتيجية مبنية على أيديولوجية عقائدية فى توسيع النفوذ بالقوة الناعمة عبر دعم النفوذ الشيعى فى مناطق التواجد الديمغرافى الشيعى فى المنطقة، ومن خلال القوة الصلبة عبر تدعيم التواجد السياسى والعسكرى الإيرانى فى المنطقة؛ وكذلك تدعيم القوة العسكرية لإيران والتى تحولت إلى قوة شبه نووية خلال العقدين الماضيين.
والنفوذ الإيرانى بالقوة المرنة والصلبة يطوق تقريبا منطقة الشرق الأوسط؛ فثمة تواجد لإيران بقوة مرنة فى البحرين والمنطقة الشرقية فى السعودية وفى عُمان؛ وإضافة إلى النفوذ الصلب فى اليمن والذى تحول من نفوذ مرن إلى صلب بواسطة جماعة أنصار الله التى تسيطر عسكريا على أراضى الشمال اليمنى؛  وبالتالى طوق النفوذ الإيرانى للجزيرة العربية يتراوح بين القوة المرنة والصلبة، ولكن المحور الأقوى فى النفوذ الإيرانى هو ذاك القابع فى الشمال؛ والممتد برياً من طهران إلى الضاحية الجنوبية وسواحل المتوسط مرورا بالعراق وسوريا ولبنان؛ ويعتبر هذا النفوذ الأقوى لأنه مدعم بكلا القوتين الناعمة والصلبة، فالناعمة تجسدها الأغلبية الشيعية الديمغرافية فى العراق والتواجد الديمغرافى الشيعى فى الجنوب اللبنانى؛ إضافة للتواجد العلوى على طول الساحل السورى؛ أما القوة الصلبة فتجسدها قوات الحشد الشعبى العراقية وفيلق القدس وحزب الله وتلك هى القوى الفاعلة على امتداد هذا المحور؛ وهى قوة استطاعت إقصاء كل القوى المنافسة على الأرض؛ والتى كانت آخرها دولة داعش والجماعات السنية المعارضة فى سوريا؛ ومن قبلها قوات البشمركة فى الشمال العراقى من الموصل وكركوك؛ مما أفسح المجال أمام تفعيل وتعميق نفوذ المحور الإيرانى عسكريا وديمغرافيا؛ كذلك عبر تغير الخارطة الديمغرافية  بهدوء فى كثير من المناطق الواقعة ضمن هذا المحور الآخذ فى التعاظم بفعل القوة الناعمة والصلبة الإيرانية .
وكذلك فإن هذا النفوذ الإيرانى أصبح يمثل خطرا على قوى إقليمية عديدة كإسرائيل بوصوله إلى حدودها الشمالية؛ كما أنه مصدر إزعاج وقلق لتركيا الواقعة على تماس هذا المحور شمالا؛ بالاضافة إلى أنه يمثل خطرا داهما على أنظمة الخليج العربى فى الجنوب؛ وكل تلك الأطراف هى ضمن معادلة النفوذ الدولى للولايات المتحدة؛ والتى ترى فى تهديد حلفاءها خطرا مستقبليا داهم لمصالحها الاستراتيجية، وهنا تبرز الجهود الأمريكية والإقليمية فى تقويض هذا المحور باعتباره خطرا استراتيجىا متصاعد؛ وهو ما ترجم عمليا بمواقف إدارة ترامب من الاتفاق النووى الإيرانى الرافضة له والمهددة بالانسحاب منه فى محاولة لإعادة فتحه مجددا؛ وإعادة صياغته عبر اتفاق جديد يفرض مزيدا من القيود على التمدد الإيرانى فى المنطقة؛ إضافة إلى الموقف الأمريكى المؤيد للتحالف العربى العسكرى فى الحرب الأهلية اليمنية؛ ولكن الادارة الأمريكية تعرف جيدا أن أى تقويض للنفوذ الإيرانى يبدأ فى الأساس بقطع أوصال محور طهران دمشق، ومن الواضح أن الضربات اليوم تدشن إشارة البدء لهذا القطع.
ومن الأهمية هنا الإشارة إلى أن التحالف الروسى الايرانى هو فى الحقيقة شريان الحياة لهذا المحور؛ وهنا تطرح الأسئلة الصعبة فى قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على إقناع الروس بتخفيف الدعم لحلفائها الايرانيين والضغط عليهم لتحديد نفوذهم فى المنطقة ضمن محددات التوافق الدولى للقوى العظمى؛ وبغض النظر عما إذا كانت الضربات الأمريكية اليوم لسوريا وضربة قاعدة التيفور الأسبوع الماضى هى ضربات توافقية روسية أمريكية؛ أم أنها ضربات منفردة ضمن الضغط العسكرى العملى على التحالف الروسى الإيرانى؛ فإننا أمام حدث كبير فى السياسة الإقليمية والدولية فى الشرق الأوسط سيكون له ما بعده نحو رسم خارطة المصالح للقوى الدولية والإقليمية فى الشرق الأوسط لعقود قادمة.
وإيران اليوم فى عين العاصفة؛ لكنها تاريخيا تجيد لعب سياسة حافة الهاوية باحترافية عالية؛ وتستطيع من خلالها حصد أكبر المكاسب بأقل التنازلات؛ والاتفاق النووى خير شاهد على هذه الحقيقة؛ وعليه فإن اللحظة الراهنة تبدو من أصعب اللحظات على المنطقة نظرا لأن نتائج ما يجرى اليوم سيؤسس لمشهد طويل الأمد فى المنطقة، ومن الواضح أن الجميع يدرك تلك الحقيقة؛ ويسعى لإيجاد مكان له تحت الشمس باستثناء العرب الذين على ما يبدو اعتادوا العيش فى الظل حتى لو كان ظل عدوهم التاريخى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق