قد تكون الحمم البركانية قد همدت، لكن النار ما زالت تحت الرماد هذا أقل وصف للوضع السياسي لرئيس الوزراء الأسترالي مالكوم تيرنبول الذي أصبح على يقين أن حياته السياسية قاربت من نهايتها، هذا ما بدى وما أكدته العاصفة السياسية والأعلامية التي رافقت خسارة الحكومة الاستطلاع الثلاثين للرأي على التوالي والتي كانت الذريعة التي اتخذها رئيس الوزراء تيرنبول أيلول عام 2015 للإطاحة بسلفه وغريمه السياسي طوني أبوت والذي بدوره لم يستكن وما زال مصراً على الأخذ بالثأر لإزاحته من منصبه، وغامزاً من قناة رئيس الوزراء عندما تساءل لماذا الأزدواجية بالمعايير فهذا الاستطلاع الثلاثين الذي خسرته حكومة تيرنبول دون انقطاع فهل سيقدم رئيس الوزراء استقالته حسب معاييره الشخصية التي وضعها بنفسه ! تيرنبول اعترف بخطأه لكنه استبعد الأستقالة مذكراً بسجل حكومته في إقرار العديد من المشاريع القوانين تخفيض الضرائب للشركات التي تدخل مبالغ أقل من 50 مليون دولار سنوياً وإقرار تشريع زواج المثليين بالإضافة الى تأمين مئات الألاف من الوظائف.
لقد أصبح من الواضح للقاصي والداني أن الأزمة التي تعصف بالحكومة وحزب الأحرار وحليفه الحزب الوطني لها بُعدان الاول شخصي والثاني عقائدي وأصبحت متجذرة في الطبقة السياسية المحافظة.
على المستوى الشخصي علاقة أبوت وحلفاءه السيئة مع رئيس الوزراء ازدادت حدة بعد الإطاحة ببارنبي جويس من منصبه في رئاسة الحزب الوطني شريك الاحرار في الائتلاف ومن ثم منصبه كنائب لرئيس الوزراء بسبب العلاقة الجنسية التي أقمها مع موظفة في مكتبه (فيكي كامبيان) والتي أصبحت شريكته الان، ويعتقد جويس أن رئيس الوزراء لعب دوراً سلبياً في ذلك الوقت لإقالته مما ولد لديه نوايا ثأرية برزت عندما صرح وبدون مواربة بوجوب إستقالة رئيس الوزراء من منصبه إذا لم يتحسن وضع الحكومة في إستطلاعات الرأي قبل نهاية العام.
اما على الجانب العقائدي فهناك فروقات جوهرية في مقاربة جناحي الحزب لقضايا مثل الانبعاث الحراري، الهجرة، الطاقة والإصلاحات الحزبية التي شكلت جزءاً رئيساً من الاشتباك السياسي في العامين الماضيين.
اولاً، تعتبر قضية الاحتباس الحراري مصدر خلاف دائم فبينما يريد الجناح المعتدل(الليبرالي) في الحكومة الالتزام بالاتفاقيات الدولية (اتفاقية باريس) للحد من الانبعاث الحراري يرى الجناح المحافظ (اليمين) أن ذلك سيكون على حساب الازدهار الاقتصادي في البلاد ويرفض أي نوع من الضرائب على الكربون.
ثانياً، قضية الهجرة يرى الجناح المحافظ بوجوب العمل على تخفيض أعداد المهاجرين بنسبة تزيد على 40% للحد من ارتفاع أسعار المنازل والضغط على البنى التحتية وانكماش المعاشات التي تؤثر سلباً على المستوى المعيشي للمواطنين ويطالبون أيضاً باندماج المهاجرين، بينما يصر الجناح المعتدل على عدم تخفيض أعداد المهاجرين لما لذلك من تداعيات على الاقتصاد الوطني حيث سيكلف الخزينة لحد 5 مليار دولار في السنوات الاربع القادمة، ويعتقد المعتدلون أن المهاجرين يزيدون من الدخل القومي متسلحين بأقوال مجلس المهاجرين الأسترالي بان المهاجرين الجدد قد يظيفون للأقتصاد 1,6 ترليون دولار حتى عام 2050 اي ان نسبة النمو تعادل 5,9% ويؤيد حاكم البنك المركزي الاسترالي فيليب لوي توجه المعتدلين لكنه يشدد على الحكومة لإتباع سياسة اقتصادية جيدة لرفع مستوى المعيشة وليس فقط الاعتماد على الهجرة (صحيفة ذي سدني مورننغ هيرالد 14/4/2018 ص8).
ثالثاً، مسالة الطاقة وارتفاع اسعارها تأخذ حيزاً مهماً من الخلاف بين الجناحين حيث يريد المعتدلون الحد من استعمال الفحم الحجري في توليد الطاقة يشدد المحافظون على تحديث لا بل بناء محطات توليد طاقة جديدة تعتمد على الفحم الحجري لتأمين الطاقة وبأسعار مقبولة لا تشكل عبئاً على العائلات والمؤسسات الصناعية والتجارية، وقد شكلت مجموعة منهم (منتدى موناش) والذي يضم الى طوني أبوت قرابة 20 عضواً برلمانياً محافظاً .
رابعاً، الاصلاحات الحزبية وهي مشكلة تعصف بالحزب لسنوات خلت بسبب عدم إدخال الأصلاحات التي يطالب بها الجناح المحافظ وأعطاء الحق للحزبين باختيار مرشحيهم للبرلمان على أن يكون لكل حزبي صوت بعكس المعمول به حالياً حيث يتقاسم رؤوساء الاجنحة والنخب الحزبية ومراكز القوى حق الاختيار والتي يتحكم بأكثريتها الجناح المعتدل، وكان الحزب قد كلف لجنة برأسة رئيس الوزراء الاسبق جان هاورد لدرس الموضوع وقدم توصيات لم ينفذها الجناح المعتدل الذي يستأثربحصة الاسد بالعرف المعمول به حالياً كما تقدم، مما أدى الى استقالة بعض الحزبيين او التحاقهم بالاحزب الصغيرة كحزب المحافظين الذي اسسه كوري بارنبي الذي انشق عن الحزب قبل عامين، والجدير ذكره ان الحزب في مؤتمره العام الذي عقد في سدني عام 2017 صوت اثنين من أصل ثلاثة من الاعضاء لصالح إقرار الاصلاحات وحول هذا الموضوع كان الكاتب في جريد الاستراليان روس فيتزجيرالد كتب مقالة بعنوان "تيرنبول يواجه اختبار الاجنحة الحزبية" 22/1/2018 والتي تظهر عمق الأزمة التنظيمية داخل الحزب.
للتدليل على عمق الازمة وتداعياتها، أطل رئيس الوزراء الأسبق جان هاورد، والذي يعتبر حالياً المنظر والمثال الاعلى للحزب والمقل من ظهوره الاعلامي بعد خسارته الانتخابات عام 2007، أطل على تلفزيون أي بي سي داعياً زملاءه الى توحيد صفوفهم لان التناحر لا يؤدي الا الى إضعافهم وخسارة الانتخابات القادمة.
لكن تيرنبول الذي عمل على تحييد أهم خصومه من جناح اليمين والحلفاء القدامى لطوني أبوت حيث أعطى أهم واوسع حقيبة أمنية (الداخلية) والتي شكلت حديثاً لبيتر داتون، والخزينة لسكوت موريسون، الطاقة لجوش فرايدنبرغ والمالية لماثيوس كورمن ليضمن بقاءه في منصبه.
لكن، ومع استمرار الازمة بدأ البحث عن البديل لمالكوم تيرنبول فطُرحت أسماء الوزراء داتون، موريسن وجوليا بيشوب وزيرة الخارجية وجوش فريدنبرغ ولكن الاخير تنقصه الخبرة لحداثته في العمل الوزاري، وطبعا يبقى أسم طوني أبوت من الاسماء المتداولة وحتى أن البعض ذهب الى طرح أسم وزير الخزينة الاسبق بيتر كوستيلو الذي استقال من العمل السياسي من خلال إعادة انتخابه في أحد المقاعد الآمنة ومن ثم توليته رئاسة الحزب، ولكن هذه الفكرة لاقت معارضة قوية من رئيس ولاية فكتوريا السابق والقيادي البارز في حزب الأحرار جيف كينت ورغم انتقاده إداء تيرنبول وحكومته رفض كينت الإطاحة بتيرنبول، يشار الى أن كوستيلو نفسه لم يبدي أي رغبة علنية في هذا الموضوع.
مالكوم تيرنبول الذي يصرعلى انه يحظى بدعم زملاءه في مجلس الحزب، لكنه وبدون شك يدرك انه يعيش مرحلة اليأس السياسي وقد جاءت تصريحات وزير الداخلية التي قال فيها إذا جاء ت الفرصة لتولي رئاسة الحكومة فسيكون لي شرف خدمة البلاد، لتؤكد أن تيرنبول غير محصن، وكانت تصريحات مماثلة لوزير الخزينة سكوت موريسن رغم إسرارهما انهما يعملان كفريق سياسي واحد داخل الحكومة!
ويبقى السسؤال بماذا يفكر تيرنبول نفسه، وما هي الخطوة التالية التي سيقدم عليها، هل سيعمل على اختيار او المساعدة في ترتيب من سيكون خلفه ويتنحى قاطعاً الطريق على جناح اليمين، أم يُصر على البقاء حتى يطيحه الشعب إذا لم ينقلب عليه زملاءه؟
لا شك أن تيرنبول الذي يتميز بعناده، والذي تخلى عن قناعاته الشخصية القديمة، وعن مالكوم تيرنبول القديم كما يقول مؤيدوه ومعارضيه والتي بنى عليها قطاع عريض من الأستراليين آمال عريضة عند توليه السلطة( تحويل استراليا الى جمهورية، الانبعاث الحراري وزواج المثليين أُقر بعد الاستفتاء العام الماضي وغيرها من السياسات الليبرالية) لكي يتولى رئاسة الوزراء قد يستمر في عناده والهروب الى الامام وشراء الوقت، لكن ما لا يدركه تيرنبول أنه تحول الى جثة سياسية وان مراسيم التخلص منه تسير على قدم وساق وإن أُعطي بعض الوقت لان الاحرار يعتقدون بأن تيرنبول لن يقودهم في الانتخابات القادمة حسب بيتر هارتشر محرر الشؤون السياسية في صحيفة (س م ه 31/3/2018 ص 34 قسم ما وراء الاخبار) بالإضافة الى الحملة الاعلامية المركزة ضده والتي يقودها الاعلامي القوي الن جونز وغيره من الاعلاميين المحافظين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق