قضايا الوطن لا تعالج بالأرقام بين أغلبيَّة وأقليَّة، بل تكمُن في الشّعور بالتهميش واللّامبالاة أوّلا، ثمّ الانتقال إلى حالة الصّراع الدّاخليّ ثانيًا. ولعلّ أهمّ نقطة: " إنّ تحوّل الدّولة إلى تبنّي مواقف دينيّة، وتشجيع تديُّنٍ إسلاميٍّ معيَّنٍ ضدّ التَّديُّنِ السّياسيّ، أنتج ظاهرةً مُرافِقَةً هي: شعورُ الأقباط بأنّهم غرباء عن هذه اللُّعبة، في حين أنّهم ليسوا ضيوفًا بل هم مصريّون أصليّون. وفي رأينا، أنّ تراكم هذا البعد الوجدانيّ، وليس التّمييز الذي يُقاس بالأرقام فقط، هو الأمر الأكثر أهميّة في تبلور الهُوِيَّة القِبطِيَّة، وفي مستوى تسييس هذه الهُوِيَّة ". إنّ هذا أخطرُ ما أنتجته مرحلتان ّ مُهمّتين في تاريخنا المعاصر : مرحلة المدّ القوميّ العربيّ الّتي وصلت إلى ذِروة قوّتها في مصر النّاصريّة(1949-1979) وما تلاها، ومرحلة تيّارات الإسلام السّياسيّ في العالم الإسلاميّ، الّتي عايشناها منذ العام 1979 وحتّى اليوم. وفي كلتا المرحلتين، تبلورت " المسألةُ القِبطِيَّةُ " في مصر " على ضوء تطوُّرين مهمّين، هما: تصاعدُ الشّعور بالغُبن الطائفيّ لدى فئاتٍ واسعةٍ من المواطنين المصريّين الأقباط، والثورةُ المصريّة وما يمكن أن تقوم به لإعادة "صوغ العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها في إطار هُوِيَّةٍ وطنيّة مشتركة ".
تُعتبر سنة 1952 حدًّا فاصلًا بين زمنين في الذّاكرةِ القِبطِيَّةِ، فيما جرى لهم على عهود كلٍّ من الرّؤساء الثلاثة : عبد النّاصر والسّادات ومبارك. لقد نُسف كلّ البناء التاريخيّ الّذي استمرّ منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وذَوَت الحقوقُ الجمعيَّةُ، وتعرّضت أوضاع الأقباط للتناقضات، وسُحقت آمالُهم، وضُربت مصالحُ النُخبَة الاقتصاديّة القِبطِيَّة العليا في الصّميم. وكانوا أمام مُتغيِّرَينِ اثنينِ: اندفاع المدّ القوميّ وثورة عبد النّاصر العارمة بعد العام 1956، ثمّ طُغيان المدّ الإسلاميّ الذي اندفع بشكل سريع جدًّا بعد العام 1979. لقد انسحب الأقباط من الحياة السياسيّة بعد شعورهم بالإقصاء وغياب الديمقراطيّة، إثرَ حركة الضّبّاط الأحرار عام 1952، وإلغاء عبد النّاصر للأحزاب السياسيّة واستثنائه الإخوان المسلمين من ذلك. لقد وجد المجتمع المصريّ نفسه أمام قرارات خطيرة، بجعل مادّة الدّين أساسيّة في المدارس، وتأسيس جامعة في الأزهر، وجعل الأزهر أداة طيّعة بيد الحكومة، وإنشاء دار القرآن، إلى غير ذلك من السياسات التي بقيت مستمرّة بكلّ فاعليّة أو أكثر، على عهدَي السّادات ومبارك لاحقًا
بعد العام 1980، ازدادت الهُوَّةُ بين الأقباط والدّولة إثرَ التّشدّد في الخطاب الدينيّ وإقحام الدّين في الدّستور، والاعتماد على الشّريعة الإسلاميّة مصدرًا للتّشريع، واشتراطات الدّولة لبناء الكنائس أو حتّى ترميمها، واستُبعد الأقباط من التّرشيحات، وربّما وَجد بعضُهم مُتَنَفَّسًا على عهد مبارك، مُقارنةً بما كانوا عليه على عهد السّادات، إذ تبلور انفتاحٌ بسيطٌ من الدّولة مع عدم إلغاء أيٍّ من ممارسات عهد السّادات.
وفي هذا السّياق تبرز حقيقة أخرى، هي أنّ الوظائف المهمة في الدّولة، لاتزال مُغلقةً أمام المواطنين المصريّين الأقباط، وأنّ نسبة تمثيلهم في حقول القضاء والإعلام والبعثات الدبلوماسيّة والجيش والشّرطة لا تتجاوز 2%.."
ثمّةَ مصادرُ متنوّعةٌ لشكوى الأقباط من الحَيفِ والغُبنِ، متمثلةً في مناهجِ التّعليم وتجاهل الأقباط وتاريخهم والدّيانة المسيحيّة، والتشديد على الوتر الطائفيّ، وصبغ الحياة المصريّة بالصبغة الإسلاميّة، والتمييز في الخدمة العسكريّة، وتغيير تحيّة العلم الوطنيّ بالقَسَم الإسلاميّ، وتضييق الحكومة على بناء وترميم الكنائس، وتهجير بعضهم، بالإضافة إلى معاناة كلٍّ من المسلمين والأقباط معًا من الأوضاع المأساويّة، ثمّ حالات القتل وتفجير الكنائس وخطف القبطيات عيانا بيانا ، وما كان لها من آثار وتداعيات على بِنية المجتمع المصريّ. كلُّ هذه الأسباب وغيرها، قادت إلى تشكيل جمعيّات و" لوبيات " في الخارج، تناضل بكلّ الوسائل من أجل حقوق الأقباط ومساواتهم مع الآخرين في التّعامل والديمقراطيّة.. إلخ
رؤية من أجل المستقبل
تحديد مواضع الإصلاحات اللازمة لتفكيك التّوتّر المرتبط بالمسألة القِبطِيَّةِ في مصر ما بعد الثّورة، ومن ضمنها مسائلُ الوضع القانونيّ للأقباط وإعلاءُ الهُوِيَّةِ الوطنيّة بديلًا عن الهُوِيَّةِ الدينيّة.. ، وتطوير قانون الأحوال الشخصيّة والميراث، بإصدار قانونٍ خاصٍّ بالأحوال الشخصيّة القِبطِيَّة، ثمّ معالجة جذريّة للتفجيرات التي تَطَالُ دور العبادة،وخطف القبطيات وأن يتمّ استعادةُ المواطنة المصريّة، مع التّشديد على الهُوِيَّةِ المصريّة دون غيرها، وتخفيف الحملات الإعلاميّة والحملات السّياسيّة العدائيّة بين الأقباط والمسلمين، بل إيقافها نهائيًّا، فضلًا عن العمل على انحسار أجواء الغضب على المواقع الإلكترونيّة.. ثم إيقاف هذا السيل من الفتاوى التي تصدرها الجماعات السلفيّة ضدّ أقباط مصر، وهي من أخطر ما يُمارس في المجتمع ضدّ المجتمع نفسه، في ظلّ صمت مُطبِقٍ من الدّولة .
أنّ ملف الأقباط في مصر، بحاجة ماسّة إلى معالجة جدّية، وأن ينتقل الادّعاء إلى توفر النّيّة الصّادقة لتلك المعالجة؛ وإذا لم يكن ذلك متوفّرًا لدى النّظام السّابق، فإنّ أيّ نظامٍ جديدٍ ملزمٌ بالاعتراف بوجود ملف خطير يتعلّق بهُوِيَّةِ الدّولة، إذ لا يكفي وجود تسامح في التّعامل مع الأقباط، بل إلغاء التّمييز والاعتراف بأنّهم مواطنون أصليّون لهم ارتباطهم العضويّ مع مصر وترابها ونيلها.. مدنها وحقولها.. بحرها وصحرائها.. دلتاها وصعيدها.. " ومن هنا فإنّ مفتاح التعامل مع هذا الملف هو المواطنة المتساوية. والديمقراطيّة هي الإطار الملائم لمثل هذه المقاربة... من أجل بناء تاريخيّ مدنيّ يُخلّص بلادهم من كلّ التّناقضات التي حفِلت بها، على امتداد العهود الجمهوريّة السابقة. أنّ مصر بحاجة ماسّة إلى تشريعات وقوانين مدنيّة تراعي مصالح كل أبناء المجتمع، وأن تستفيد من تجربة العراق القاسية بانقسام مجتمعه وتشَظِّيهِ إلى طوائف وملل وجماعات. إنّنا نخشى على مصر ومستقبلها، داعين إلى أن تجد طريقها السّليم في السنوات القادمة لعلها تكون معلمًا على طريق بناء مستقبل مصر، ومعالجة أخطر ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة تعاني منها، وأن تكون هذه رسالة الإنسانيّة والحضاريّة علامةً فارقةً في دروب تقدّمنا وتطوّر أجيالنا القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق