من كان يصدق قبل فترة وجيزة أي يحدث ما هو حاصل هذه الأيام في شبه الجزيرة الكورية. كانت الأجواء قاتمة ومنذرة بوقوع حرب نووية تبيد الأخضر واليابس، وتعيد المنطقة قرونا إلى الوراء. كانت خطب وتصريحات زعيم النظام الستاليني في كوريا الشمالية من النوع التصعيدي والمتوتر والمهدد بمحو كوريا الجنوبية من الخارطة. كان التلويح بتطوير واستخدام القدرات النووية والصاروخية التابعة لنظام "كيم جونغ أون" لا يتوقف لحظة واحدة. وكانت بيونغيانغ ترسل رسائل دعاية خاصة ردا على دعوات سيئول للجنود الكوريين الشماليين بالإنشقاق عبر مكبرات الصوت الضخمة المثبتة في المنطقة الواقعة بين شطري كوريا. كل هذا صار اليوم (أو سوف يصير قريبا) شيئا من الماضي ومن الذكريات التي قد يرويها الآباء الكوريون يوما لأحفادهم.
لقد تسارعت الخطوات الدبلوماسية في الآونة الأخيرة بشكل مدهش لم يتوقعه أكثر المراقبين تفاؤلا. فمن قمة صينية-- كورية شمالية إلى إعلان من بيونغيانغ يقترح عقد قمة ما بين "كيم جونغ أون" ونظيره الأمريكي دونالد ترامب. ومن ترحيب أمريكي بالمقترح الكوري الشمالي إلى تخفيف واشنطون لهجتها ضد عدوتها الآسيوية الكبرى. ومن الإعلان عن زيارة سرية قام بها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية/المرشح لمنصب وزير الخارجية مايك بومبيو إلى بيونغيانغ ولقائه مع كبار مسؤولي الدولة الستالينية المارقة، هي الأولى من نوعها لمسؤول أمريكي رفيع منذ إنتهاء الحرب الكورية في خمسينات القرن العشرين إلى الإعلان عن قرب عقد قمة كورية ــ كورية تسبق لقاء ترامب بالزعيم الكوري الشمالي. ومن قرار بيونغيانغ بالكف عن إطلاق الصواريخ الباليستية وإجراء التجارب النووية إلى إعلان الكوريين الجنوبيين عن إيقاف الدعاية المضادة لجارتهم الشمالية عبر الحدود الفاصلة.
لاشك أن الرياضة لعبت دورا في تخفيف حدة التوتر بين شطري كوريا منذ أن شارك الشطر الشمالي بوفد رفيع المستوى ترأسه رئيس مجلس الشعب الأعلى "كيم يونغ نام" وكان من بين أعضائه شقيقة الزعيم الكوري الشمالي "كيم يو جونغ" في الأولمبياد الشتوية التي إستضافها الشطر الجنوبي هذا العام بمدينة "بيونغ تشانغ ". وكانت الرياضة ــ كما هو معروف للجميع ــ فتحت خطوط الاتصال المقطوعة بين الولايات المتحدة وخصمها الإيديولوجي العنيد ممثلا في الصين الماوية، حيث ساهم ما اصطلح على تسميته بـ "دبلوماسية البينغ بونغ" في عقد أول قمة بين الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون والمعلم ماو تسي تونغ سنة 1972.
لكن الرياضة ما كانت لتنجح لولا توفر عوامل أخرى مثل الإرادة السياسية لدى طرفي المعادلة لنزع فتيل الحروب والأزمات طلبا للسلام والاستقرار، وإن كان هذا العامل أقوى وأقدم وأكثر بروزا عند قادة الشطر الجنوبي.
وتتجلى تلك الإرادة بأوضح صورها في الأفكار التي يتبناها الرئيس الكوري الجنوبي "مون جاي إن" ومحورها التأكيد الدائم على وحدة الأمة الكورية، وضرورة بذل الغالي والنفيس كي تعود كوريا موحدة دون إستحضار ما حصل على مدى العقود الستة الماضية من أساءات وحملات شعواء ومؤمرات ودسائس قامت بها بيونغيانغ ضد سيئول.
ذلك أنه منذ انتخابه رئيسا لبلاده في مايو 2017 لم يكف "مون جاي إن" ــ حتى في ظل أكثر الفترات توترا مع بيونغيانغ ــ عن الإعراب عن إيمانه بوحدة الأمة الكورية، بل أنه أصدر في مطلع العام الجاري كتاباعن حياته ــ على غرار ما فعله معظم اسلافه ــ تمنى فيه أن يعود إلى القرية التي ولد فيها والديه وهي قرية "هونغنام" الواقعة اليوم ضمن أراضي كوريا الشمالية، كي يعيش بها بقية حياته مع والدته البالغة من العمر 90 سنة.
ولا يقتصر هذا الحلم على الرئيس الكوري الجنوبي وحده وإنما هو حلم يتمنى كل سكان الشطر الجنوبي تحققه. وفي هذا السياق كتب الزميل المهتم بمتابعة الشأن الآسيوي "محمد فايز فرحات" في مقال له في صحيفة الحياة (24/4/2018) ما مفاده أنه على الرغم من مرور 65 سنة على تقسيم الكوريتين، فإن مفهوم الأمة الكورية الواحدة لا زال محفورا بقوة في عقول أجيال من الكوريين الجنوبيين والشماليين على حد سواء. وبعبارة أخرى يتحين هؤلاء الفرصة لساعة إعلان السلام الدائم في المنطقة من أجل إعادة لم شمل العائلات المقسمة التي تصل الى نحو مليون أسرة، طبقا للإحصائيات الكورية الجنوبية، علما بأن الكوريتين دشنتا في الماضي برنامجا للم الأسر المشتتة، لم يستمر طويلا بسبب تفاقم الخلافات السياسية.
كم حري بنا في أقطارنا العربية التي تعاني اليوم من وباء الانقسامات الداخلية وإختلال مفهوم الوحدة الوطنية وضمور الولاء الوطني أنْ نستحضر التجربة الكورية لجهة الإيمان العميق بفكرة وحدة الوطن بمختلف أطيافه وتقسيماته المذهبية والعرقية والجهوية، والدفاع المستميت عنها في وجه قوى الشر الداخلية والخارجية التي تسعى إلى بذر الشقاق والفتن داخل مجتمعاتنا وزراعة اليأس والقنوط في نفوسنا.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة أبريل 2018
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق