ذكرى وتأريخ: شهران ونصف/ د عدنان الظاهر

16 نيسان ـ 30 حزيران 1978

تم نقلي إلى دائرة لم أجد فيها مكاناً أجلس فيه ولا مكتباً جاهزاً لموظف جديد يحمل عنوانَ ( كيمياوي أقدم ). لم أكن وحدي في هذه المحنة. كان معي أصدقاء وزملاء التدريس في كلية العلوم الدكتور ( عامل عبد الجبار نوفان التكريتي ) والسيدة الدكتورة
( كريمة القرَغولي ). وجدنا أنفسنا ثلاثتنا أشخاصاً كالغرباء غير المرغوبِ فيهم. لا الوسط وسطنا الذي أعددنا حياتنا له ونشأنا وتربينا فيه تدريساً وبحثاً. لا الوجوه هي الوجوه التي إعتدنا أن نراها كل يوم في أروقة قسم الكيمياء وكلية العلوم. نعم، لم يعتدِ علينا أحدٌ ولم نسمع من أحدٍ كلاماً جارحاً أو بذيئاً أو غير لائق. كان صغار الموظفين والموظفات بشكل خاص  شديدي التعاطف معنا يُهرَعون لتنفيذ وتلبية ما نطلب من مسائل روتينية تخص وظائفنا الجديدة. كانت قلوبهم وقلوبهنَّ معنا ولكن…!!! لا أنسى موقفاً إنسانياً ما كنتُ أتوقعه أبداً. من خلال الآنسة ( ليلى ) الموظفة في المؤسسة، وكريمة  طيّار القصر الملكي  المعروف ( حفظي عزيز ) الحليِّ الأصل، أرادت فئة من موظفات المحاسبة والكتابة على الآلة الطابعة رؤيتي، مجرد رؤية. قادتني ليلى الأنيقة والشجاعة وقدمتني إلى هؤلاء النسوة قائلةً (( هذا هو عدنان، دكتور عدنان الظاهر )). حييتهن بحرارة وكادت أن تتساقط الدموع من عيني. ما زال في العراق خّيرات وأخيار. كنَّ يسمعن عني من ذويهنَّ أو يتابعن ما كنتُ أكتب على صفحات جريدة ( طريق الشعب ) من مقالات وتعليقات وسواها. كما لا أنسى تعليق مدير الحسابات في المؤسسة حين راجعته لأمر يتعلق براتبي الشهري. قال هذا الرجل الشريف والنادر وبالحرف الواحد وهو يعلم خلفية ودواعي وجودي وزميليَّ في مؤسسته ( يقولون في العراق جبهة وطنية ! أين هذه الجبهة إذاً ؟ ). أبلغ تعليق سمعته من شخص كنتُ أظنه محسوباً عليهم، على البعثيين أو المستبعَثين إغراءً أو إكراهاً. كان الرجل على حق في سؤاله الساخر، إذ نفذ صدام حسين في هذا الشهر بالذات ( نيسان 1978 ) أحكام الإعدام بحق أكثر من ثلاثين شاباً شيوعياً أو محسوبين على الحزب الشيوعي [[ الحليف !! ]] ممن أمضوا سنوات الخدمة العسكرية الإلزامية حسب إحدى فقرات القانون رقم 80 ( على ما أحسب ). نعم، ما كان أغلبهم يوم صدور هذا القانون في الخدمة العسكرية الفعلية، لكنَّ { صدام حسين } أصرَّ على أن يأخذ هذا القانون أثراً راجعاً فشمل من أنهى هذه الخدمة ومضى لشؤونه المدنية. كان أغلب هؤلاء الفتيان من خريجي الجامعات العراقية. أكمل صدام عرسه الدامي  ـ الذي بدأه بأساتذة الجامعات ـ فاحتفل ثانيةً بمناسبة مولده المشبوه بسفك دماءٍ طاهرةٍ لشباب عراقيين لم يقترفوا ذنباً سوى أنهم كانوا يحملون أراءً أو معتقداتٍ أو قناعاتٍ مغايرة لتلك التي يدين بها حزب البعث الحاكم. أذكر أنَّ قيادة الحزب الشيوعي كانت قد كلّفت الوزير السيد عامر عبد الله أن يقابل على عجلٍ رئيس الجمهورية يومذاك  أحمد حسن البكر. قابله فأعطاه البكر " عهداً قاطعاً " أن يحولَ هو بنفسه دون تنفيذ القرار. نفذَّ صدام قراره في اليوم التالي فرُفِعت الرايات السود على واجهات دور ذوي هؤلاء الشباب وفي بعض مدن وقصبات العراق الحزين والمبُتلى. وطن الجبهة الوطنية والقومية التقدمية،  هل هو وطنٌ أم كفن ؟ كما تساءل يوماً أحد الشعراء. قطف صدام أعناق هذه الورود اليانعة واليافعة دونما ذنبٍ قارفوه. لم يحملوا السلاح في وجه السلطة القائمة. لم يشتموا البعث أو البكر أو صداماً نفسه. سواد في سواد ومستقبل للعراق حالك الظلمة. 
قررتُ ترك العراق، الوطن الذي لا يشبه بقية الأوطان، بأي ثمن. كتبتُ على عجل رسالة إستغاثة لصديقي الدكتور ( عبد الرضا الصالحي ) أن يدبِّرَ لي عقداً للتدريس في جامعة الفاتح في العاصمة الليبية طرابلس. كان الأستاذ الصالحي حينذاك مُعاراً من قبل جامعة بغداد وكلية العلوم للتدريس في جامعة الفاتح. نجحت مساعي صديقي فأرسل لي رئيس قسم الكيمياء في كلية علوم جامعة الفاتح ( الدكتور علي الطيّب الأزرق ) رسالة يؤكد لي فيها حاجة القسم إلى خدماتي. ثم نصحني بمقابلة وفد من أساتذة  جامعة الفاتح سيزور بغداد لمقابلة الراغبين في العمل في الجامعات الليبية. طلب مني إرسال موجز تأريخ حياتي مع صور من أبحاثي المنشورة لغرض تحديد اللقب الأكاديمي الذي أستحق. أرسلت له ما طلب، وما كنتُ لأصدِّق أني سأغادر بلدي العراق للعمل في بلد عربي آخر هرباً من سجنٍ محتمل أو تعذيبٍ فقتل. سُفِكتْ الدماء البريئة أمامي وأمام أنظار الجميع. ما الذي يمنع صداماً من قتلي وترك أطفالي أيتاماً دون أب يرعاهم ؟؟ ذمّة ؟ ضمير ؟ ليس للوحوش الكاسرة ذمّةٌ وضمير. 
زارت بغداد شهرَ مايس ( أو لعله حزيران ) مجموعة من أساتذة الجامعات الليبية وقابلتْ بعض الأساتذة العراقيين الراغبين في العمل هناك في مقر إقامتها في أحد فنادق بغداد. كنتُ أحدَ من قابلَتهم، وكان البعض منهم يعرف إسمي الدقيق ويحمل توصية من الدكتور علي الطيّب الأزرق الذي سبق وأن رشّحني للعمل معه في قسم الكيمياء وأرسل لي رسالة أولية مؤكداً رغبته في التعاقد معي. غادروا بغداد فجاءتني بعد حوالي الأسبوعين برقية من مدير مكتب الأساتذة في جامعة الفاتح بتوقيع ( الدوكالي الرويمي ) يؤكد لي فيها الموافقة النهائية على ترشيحي للعمل أستاذاً مشاركاً في قسم الكيمياء. وحدد الراتب السنوي الذي أستحق مع مخصصات سكن مُجزية وما يحق لي من إمتيازات أخرى منها تذاكر سفر سنوية بالطائرة لي ولكافة أفراد عائلتي من طرابلس إلى بغداد أو ما يعادل هذه المسافة جيئةً وذهاباً. ما كنتُ أصدّق ما أقرأ !! هل حقاً سأتمكن من مغادرة بغداد عاصمة (( الرشيد )) ؟؟ هل ستسمح لي دائرتي الجديدة بمغادرة العراق وقد إلتحقتُ بها حديثاً ؟؟ كنتُ وزميليَّ عامل وكريمة نلتقي في مكتب مدير الدائرة الفنية الغائب لأسباب مرضية على ما أذكر. مكتب فخم بأكثر من تلفون. نقّضي فيه ساعات الدوام الثقيلة والكئيبة دون أن نمارس أي عمل يمتُّ للكيمياء أو غير الكيمياء بصلة. إقترحتُ على زميلتنا الدكتورة كريمة أن تطلب مقابلة صدام حسين وتشرح له المأزق الذي وجدنا أنفسنا فيه. رفعت سماعة التلفون على الفور وطلبت الكلام مع صدام. سمعتها ترد على أسئلة إستخباراتية الطابع مسلسلة ومرتبة جيداً. الإسم، اللقب، العمر، المهنة، هل متزوجة أم لا، هل … هل … هل. بعد أن ردّت على هذه الأسئلة الثقيلة الوزن والوقع  بدأت تشرح له قصة إبعادنا عن الجامعة ولأسباب نجهلها. لاحظتُ تجهُّماً مفاجئاً على محيا الدكتورة كريمة ثم قالت بغضب وسرعة (( زين زين )) وأقفلت التلفون. ما الذي حدث ومن كان معك على الخط ؟ قالت إنه صدام حسين نفسه. ما الذي قاله صدام لك ؟ بعد كل هذه الأسئلة السخيفة قال إنه لا يتدخل في مثل هذه الأمور. لعمري، طبيعي أن لا يتدخل في مثل هذه الأمور، فلقد كان القرارُ قراره والأمرُ بنقلنا أمره وبتوقيعه ؟؟!! لا عجب. كنا زائدين ولا مكان لنا في المؤسسة العامة للصناعات الكيمياوية. صدر أمر بنقلي والدكتور كريمة إلى المديرية العامة للبحث والرقابة الصناعية. ذهبت لأسجِّل مباشرتي هناك فطلب المدير العام الإنسان الرائع وزميلي في الهيئة الإدارية لنقابة الكيمياويين العراقية ورئيسها ( غازي إبراهيم أيوب ) ، طلبَ مني التريث ولا أسجِّل المباشرة. تكلّم بالتلفون مع جهة أخرى ثم طلب مني الرجوع إلى مكاني السابق على عجل. صدر في اليوم العاشر من شهر مايس 1978 أمر إداري من المؤسسة العامة للصناعات الكيمياوية يلغي أمر النقل السابق ويثبٍّت وجودي في المؤسسة / الدائرة الفنية وبنفس عنواني الوظيفي ( كيمياوي أقدم ). كان تخميني أنَّ المدير العام السيد غازي إبراهيم أيوب قد إتصل بوزير الصناعة ( محمد عايش حمد ) وناقشه في الأمر. حين تركتُ مبنى المديرية العامة للبحث والرقابة الصناعية عائداً إلى المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية صدمني مشهد لا أنساه : رأيتُ زميلي وصديقي المبُعَد مثلي من جامعة بغداد الدكتور ( جواد سلمان 
البدري ) جالساً في أحد ممرات مبنى المديرية العامة هذه خلف منضدة صغيرة بائسة كتلك التي يستخدمها كَتَبة العرائض أمام المحاكم وبعض دوائر الشرطة. ما الخبر أبا مصطفى ؟؟ ضحك ضحكته الساخرة التي تزلزل الجبال الراسيات ثم قال : لا مكانَ مناسباً لي في هذا المبنى الضخم فرموني مثلَ كلبٍ أجرب في ( الكوريدور ). وماذا تمارس من أعمال هنا ؟ عرضحالجي كما ترى . أمارس اللاشيء، هل تعرف معنى اللاشيء ؟   أّدخِّن كثيراً وأتناول المزيد من أقداح الشاي الثقيل وأكتب بعض الشعر الساخر الذي أخشى أن أقرأه حتى مع نفسي. وماذا عن دراساتنا وأتعابنا وأبحاثنا ؟ قال ( طزْ … طزْ في الدنيا وما فيها ومن فيها ). سألني عن مشاريعي فهمستُ في أُذنه أنَّ من المحتمل إن أغادر العراق للعمل في بعض الأقطار العربية. قال روح… إخلصْ…ألله ربّك.  
إتفقتُ أحد الأيام مع الصديق النبيل الدكتور عامل عبد الجبار أن نقابل وزير الصناعة نفسه ونعرض له المصيبة التي نحن فيها. قابلنا الوزيرَ دون موعد وكانت أبواب مكتبه مُشرَعةً. رحّب بنا أجمل ترحيب فشرح له الدكتور عامل الوضع الذي نحن فيه وما لحقنا من حيف وظلم ونحن في عهد يُسمى عهد الجبهة الوطنية. أضحكتني جرأة الصديق عامل. قال للوزير بأسلوب شديد السخرية (( أستاذ محمد… الله يرحم والديك… إحنة شمسوين تحت خيمة رب العالمين حتى نتبهذل ونجد أنفسنا تائهين في بلدنا العراق ؟ أكلما رتبنا أمورنا وأمور عوائلنا نجد أنفسنا فجأة أمام لعبة ( حيّة ودَرَجْ )، نصعد عالياً ثم نجد أنفسنا فجأة في أسفل السلّم، في أسفل سافلين. ما هي يرحم أبوك أستاذ جريرتنا ؟ )). كان الوزير شديد الإصغاء لما يقول دكتور عامل. ثم جاء دوري فتكلّمت وقد شجعتني جرأة صديقي فبيّنتُ للوزير عبث ولا جدوى نقلنا إلى وزارته، الصناعة، لأنَّ إعدادنا أساساً للبحث العلمي والتدريس لا غير. قلت له سنجد أنفسنا في وزارتك مجمدين ولا يمكنكم الإفادة منا ومن خبراتنا التي أفنينا العمر فيها ومن أجلها. كان يقف نائب ضابط خلفه وعلى جهته اليسرى جهاز تسجيل كبير الحجم كان يسجل على شريط أو بكرة دائمة الدوران كل ما نقول وكل ما يقول الوزير. كان مقتصداً وحذراً في كلامه وردوده. أغلب ما قال السيد الوزير المسكين هو (( إنشاء الله يحصل خير. ماكو غير الخير )). قلت له إنَّ لديَّ معلومات مفادها إني سأُنقلُ مرةً أخرى إلى مدينة البصرة مديراً لمختبرات مجمّع البتروكيماويات الذي كان ما زال تحت الإنشاء، ثم سأُحالُ هناك على التقاعد. قلت له : أرجو من السيد الوزير أن يمنع هذا النقل وأن يأمر بإحالتي على التقاعد وأنا هنا في بغداد. ماذا سأعمل متقاعداً في البصرة ؟ أنا أصلاً من الحلة لكني أستأجر بيتاً في بغداد وزوجتي تعمل في بغداد ومدرسة أطفالي في بغداد. لا مصلحة لي بالبقاء متقاعداً في البصرة على الإطلاق. قال لي من قال لك هذا الكلام ؟ سجّل لي إسمه. قلتُ له عفواً أستاذ، لا أستطيع كشف مصدر معلوماتي. قال سوف لن يحدث ذلك ما دمتُ وزيراً للصناعة. شكرناه فقام يودِّعنا بكل أدب وود. كان الرجل بسيطاً جداً وفيه شعور عميق إنه لا يصلح أن يكون وزيراً. ثم كان مرَاقباً مرتين : بنائب الضابط القائم كالسيف خلفه، وبجهاز التسجيل الدائر والدائب الحركة وبدون توقف. أعدمه صدام حسين في المجزرة الرهيبة التي نفذها في شهر تموز 1979.
كنتُ أعدُّ الأيام بالدقائق، لذا كانت ثقيلة بل وشديدة الوطأة. إكتشف طبيبي وجود مستويات عالية من السكّر في دمي. كتب لي بعض الحبوب وألقى عليَّ محاضرة طويلة في أخطار هذا المرض على الأعصاب والعيون والقلب والكِلى والقدمين وكيفية تجنب عواقبه الوخيمة وما سأتناول من أطعمة وأشربة وضرورة ممارسة الرياضة وتخفيض الوزن وإجراء الفحوصات الدورية لقياس مستوى السكّر في دمي. إتبعّتُ بالفعل نظاماً قاسياً فيما أتناول من طعام بمراقبة ومساعدة زوجتي وحرصها على إتباع تعليمات الطبيب. خفَّ وزني قليلاً ولكنْ أصاب وجهي شحوبٌ ظاهر. نعم، كنتُ أتمشى طويلاً وحيداً أو مع أطفالي ولكنَّ السيارة تستعبد صاحبها فيكون لها كالسائق الأجير والتابع المطواع يذهب بها أنّى تريد هي لا ما يريد صاحبها. تلكم مصيبةُ كلِّ من يمتلك سيارة خاصة على ما أحسب. تداخل وتبادل الأدوار. كنتُ وصديقي دكتور عامل عبد الجبار نوفان لا نكاد نفترق أبداً. جمعتنا محنة واحدة وظروف متشابهة متطابقة فكثّفنا من تبادل الزيارات العائلية في أماسي بغداد. غدونا ميالين لسرد النكات الساخرة والضحك المتواصل على قاعدة (( أنا الغريقُ فما خوفي من البللِ )). بقيت أمامي المرحلة الأخيرة والأكثر أهمية في مشروع مغادرة العراق. موافقة مديرية السفر والجنسية على هذه المغادرة بعد الحصول على موافقة دائرتي بالسفر للتمتع بالعطلة الصيفية إلى خارج البلد. قدّمت الطلب التحريري الأصولي للتمتع بإجازة شهري الصيف تموز وآب أقضيهما خارج العراق لغرض السياحة والعلاج بحجة إصابتي بخلل في العمود الفقري. رفض رئيس المؤسسة طلبي قائلاً وبالحرف الواحد (كاكا… إنتَ البارحة إجيتني هنا… أني شقبضت منك حتى تريدني أنطيك إجازة شهرين ؟ ). كتب على طلبي (( لا أوافق )). شعرتُ آنئذٍ أنَّ مشروعي قد فشل وإنهارت جميع آمالي في الخلاص من العراق. رجعتُ بعد الدوام إلى بيتي في المنصور مهموماً. أكلتُ ما أعدت لي زوجتي من كباب مشوي وملحقاته فإنتعش الجسد المتعب ونشطت الروح فوجدت نفسي أسبح كالمُخَدَّر في نوع غريب من التفاؤل والثقة بالمستقبل. بدأت أداعب وألاعب أطفالي وأضحك لضحكهم وأشاركهم ملاعيبهم وأفض منازعاتهم. في ذلك الجو العجيب من بابه خطر لي أن أكلِّفَ شخصاً بعثياً يرتبط بعلاقة صداقة قوية مع واحدٍ من أشقّائي. كنتُ أعرف إنه صديق لرئيس مؤسستنا الكردستناني عديل الوزير طه رمضان الجزراوي. خابرته فقال (( ما أسهلَ ما طلبتَ.  سأتكلم معه وأطلب منه أن يسمح لك بالتمتع بإجازتك الطويلة. ثم أضاف : سأحلُّ قضيتك مع الكاكا بزجاجة ويسكي لا أكثر، نشربها معاً في نادي الصناعيين العراقيين )). لم أصدّق هذا الكلام. إنتابتني الحيرة ثانيةً. بعد يومين من هذه المكالمة إستدعاني رئيس المؤسسة إلى مكتبه فوجدته يمسك بطلبي الذي رفضه قبل بضعة أيام. رحبَّ بي ثم هزَّ الطلب بيده مراراً وهو يقول (( كاكا إنتَ طالب إجازة شهرين. هذا هواية. أني يطيك 45 يوماً فقط )). أردتُ أن أقول له : عزيزي السيد رئيس المؤسسة، أسبوع واحد يكفي، يكفي للهرب من الجحيم. شطب ملاحظته السابقة وكتب فوقها ( يُمنح إجازة إعتيادية للسفر إلى خارج العراق لمدة خمسة وأربعين يوماً فقط ). أخذت على الفور هذا الطلب الحامل لموافقة رئيس المؤسسة إلى الذاتية فتم طبعه على ورق ( الإستنسل ) ثم سحبه في جهاز الرونيو بعدد كافٍ من النسخ. أعطيت الفرّاش الذي كلفته أن يتابع هذه الخطوات ديناراً واحداً مع الشكر. إستلمتُ نسخي ونسخاً أخرى موجّهة إلى دوائر حكومية معينة لغرض تسهيل أمر سفري إلى خارج العراق كما هو موضَّح في الكتاب التالي الذي يصدر بحقي لآخر مرّةٍ في حياتي الوظيفية وأنا داخل العراق. 

                               المؤسسة العامة للصناعات الكيمياوية
الرقم : 1392 / 6 / 4 / 6 
التأريخ : 27 / 6 / 978                               
                                                                الشؤون الإدارية 
                                    ( أمر إداري )
إستناداً إلى موافقة السيد رئيس المؤسسة.
يُمنح الدكتور عدنان عبد الكريم الظاهر الكيمياوي الأقدم بديوان هذه المؤسسة / الدائرة الفنية إجازة إعتيادية براتب تام لمدة ( 45 ) يوماً يقضيها خارج العراق ( هنكاريا، سويسرا، فرنسا وبعض الأقطار العربية ) إعتباراً من 1 / 7  / 78 .

                                                   توقيع
                                        عبد الوهاب محمود محمد
                           ع / رئيس المؤسسة العامة للصناعات الكيمياوية 

صورة منه إلى /
مديرية السفر والجنسية / السفر
البنك المركزي العراقي / دائرة التحويل الخارجي
منشأة الخطوط الجوية العراقية
الشؤون الإدارية
التخطيط والرقابة المالية
الدائرة الفنية
الإضبارة الشخصية / مع الأوليات
الدكتور عدنان عبد الكريم الظاهر
الإستعلامات 

إستلمت النسخ الخاصة بي من هذا الكتاب وتركت الدائرة مستهدفاً بيتي في المنصور. إصطحبتُ زوجتي على عجل قاصدين مديرية السفر والجنسية. سلّمنا جوازاتنا إلى ضباط الشرطة المسؤولين عن طالبي السفر حسب أبجديات أسمائهم. فوجئت …! قال لي الضابط وهو يقلِّب أوراق سجلٍ مطروحٍ أمامه : عليك منع من مغادرة العراق !! سألته عن السبب قال أين تسكن الآن ؟ في حي المنصور من بغداد. قبل ذلك ؟ في حي المهندسين مقابل الجامعة المستنصرية. وقبل ذلك ؟ في شارع المغرب. كررت سؤالي عن سبب منعي فقال هل كنتَ كفيلاً لمجرم هارب ؟ قلتُ كلاّ، وما إسم هذا الهارب ؟ قال :    { غُلام حسن }. قلت لا أعرف شخصاً بهذا الإسم. فكّرَ ضابط الشرطة الشاب الوسيم طويلاً وهو يقلِّب صفحات جوازي. سألني بغتةً سؤالاً غيَر مُتوَقع : قال هل تعرفني أو تتذكّرني ؟ حاولتُ تجميع وتركيز كل ما ترسّب في رأسي من ذكريات قديمة وحديثة مثبِّتاً عينيَّ في وجه الضابط عساي أن أتذكره وأعرف من هو. فشلتُ. قبل أن أقول له كلاّ لا أعرفك للأسف بادر هو إلى القول : أنا أحدُ تلاميذك. سبق وأنْ درّستني في متوسطة الحلة للبنين أيام عبد الكريم قاسم. تذكّرته… كان والده بغدادي الأصل جاء الحلةَ موظفاً في بعض دوائر الحكومة. إنفرجتْ أساريري ونزل كلامه برداً وسلاماً على النار المتّقدة في باطن كياني.لم أُعلِّقْ. وجدتُ نفسي أردد بيت الشعر الذي لقّنه لنا أيام طفولتنا بعض معلمينا  [[ قمْ للمُعلِّمِ وفِّهِ  التبجيلا // كاد المعلِّمُ أنْ يكونَ رسولا ]] ثم ظننتُ أنْ سوف يقوم لي ويؤدي التحية العسكرية لكنه لم يفعل. إلى هذا الحد وصلتْ بي ظنوني. حين ينتصر الأمل فجأة على اليأس يضيع الإنسان في طُوفانٍ من الأخيلة وأحلام اليقظة. وضع على الصفحة السادسة من جوازي  ختم " مديرية السفر والجنسية "، تناول قلماً  وكتب في أعلى الصفحة : غير المقصود بمنشورنا 173 في  28 / 2 / 1977 . وضع توقيعه على الختم ثم كتب (( ع. المنع )) ثم وضع تحت الختم تأريخ ذلكم اليوم المشهود (( 27 / 6 / 1978 )). ثم واصل همّته ورد الجميل لمن كان قد درسّه طفلاً صغيراً في مدارس الحلة فمدد الجواز لفترة عامٍ  وخمسة أشهر فقط لتنتهي فاعليته في الحادي والثلاثين من شهر كانون الأول 1979 وذاك أمر غريب، إذ المفروض أن يكون التمديد لعامين كاملين. لماذا تماديتُ في إستسلامي لأحلام اليقظة فساقتني ظنوني إلى مَدَياتٍ غير معقولة ؟؟ يبدو إنه قد إنقسم في تلك الساعة على نفسه إلى نصفين : النصف الأول يمثل فيه براءة ووفاء  الصبيّ لمن قد علّمه حرفاً، أما نصفه الثاني فقد ظلّ وفياً لمسلك الشرطة التي يمثلها ولحزب البعث الذي أتاح له فُرصة الدراسة في كلية الشرطة التي كانت هي والكلية العسكرية وكليات أخرى حِكراً لأعضاء وأنصار حزب البعث الحاكم. لعب هذا التمديد الناقص دوراً غاية في الخطورة، وسأتعرض لهذا الأمر ثانيةً في حينه وحسب تسلسل كرِّ السنين. على أية حال، هل يكفي أنْ أقول كلمة " شكراً " لهذا الضابط الشريف والوفي الذي نزل عليِّ كما يقولون من السماء السابعة ؟؟. نصران مؤزّران في يوم واحد : موافقة دائرتي على سفري ثم رفع الشرطة أمرَ منعي من مغادرة العراق. إذاً كنتُ ممنوعاً من مغادرة العراق منذ اليوم الثامن والعشرين من شهر شباط 1977 أي منذ ما يقرب من عام ونصف. من هو ( غُلام حسن ) وما علاقتي بمجرم هارب وكيف ربطوا إسمي بإسم مجرم هارب ومن قام بذلك ولماذا قاموا بذلك ؟ ثم ما مغزى تأريخ المنع 28/2/1977 ؟ 
أخذت صباح اليوم التالي زوجتي وأطفالي إلى مكتبٍ للخطوط الجوية ليس بعيداً عن بيتي. حجزت لي مقعداً على الطائرة المتجهة يوم التاسع من شهر تموز 1978 إلى العاصمة البلجيكية بروكسل. وحجزت أمكنة لباقي أفراد عائلتي كذلك إلى بروكسل ولكن على اليوم السادس عشر من تموز، أي بعد مغادرتي بأسبوع واحد… للتمويه. وللمزيد من الحيطة والحذر لم أراجع السفارة الليبية الواقعة كذلك في المنصور قريباً من بيتي ومقابل مدرسة أطفالي ( النيل النموذجية )، بل كلّفت زوجتي أن تراجع  هذه السفارة وتسأل عن إمكانية حصولنا على تأشيرة دخول الأراضي الليبية من عواصم أخرى مثل بروكسل أو أمستردام أو باريس ؟ عرضتْ على القنصل صورة عقد عرض العمل الذي جاءنا من جامعة الفاتح فطمأنها مؤكداً إمكانية ذلك. سألها لِمَ لا تأخذون التأشيرة هنا في بغداد ؟ قالت هنالك أسباب تمنع ذلك. لم نواجه أية صعوبات في الحصول على تأشيرات دخول كل من بلجيكا وفرنسا وسويسرا. الصعوبة الوحيدة كانت مع السفارة الهولندية. تجاوزناها مكتفين بالفيزا البلجيكية التي تخوِّل حاملها حق دخول الأراضي الهولندية ولوكسمبرغ ( بنيلوكس ). طلبت سفارة هولندا أن نريهم تذاكر سفر بالطائرة ذهاباً وإياباً بين بغداد وأمستردام !! أية أوبة لبغداد بالنسبة لرجل أحرق السفن وقرر أن يغادر العراق وربما سوف لن يعود إليه إلاّ بعد أنْ تتحقق معجزة نادرة الوقوع. جاء شهر تموز وبدأت عطلتي منذ يومه الأول. بقيت أمامي ثمانية أيام لا غير وعليَّ أن أرتبَّ بعض الأمور العائلية وأودِّع بعض الأهل والأصدقاء على حذر شديد وعلى أساس إني وعائلتي الصغيرة مسافرون لقضاء عطلة صيفية طويلة لا أكثر. زرتُ والدي في بيوت أشقّائي مراراً لكني أخفيتُ عنه حقيقة الهدف من سفرتي الطويلة هذه. كان الوالد دوماً ضد مشاريع سفري ولاسيّما الطويلة منها. كان دائماً يكرر القول إنه سوف لن يراني إذا ما سافرتُ. جاءت أم غازي، والدة زوجتي من البصرة لكي تساعدها في تصريف شؤون بيتنا وتصفية أغلب أثاثه وأن تحمل معها إلى البصرة ما خفَّ حمله وعزَّ ثمنُهُ. بعت سيارتي لأحد الأقارب ورتّبتُ له وكالة خاصة لغرض بيعها إذا شاء ذلك، لأنها كانت حتى ذلك الوقت مسجّلةً بإسمي. حوّلت المبلغ المسموح لنا بتحويله إلى الدولار الأمريكي [ 600 + 600 + 350 + 350 = 1900 ] ديناراً بواقع ستمائة دينار لي ومثلها لزوجتي وثلاثمائة وخمسين ديناراً لكل طفل من أطفالنا. كما كنتُ قد قبضت معظم ثمن السيارة بالدولار. وقام أخي وإبن شقيقتي بتحويل مبالغ محترمة لي إذ كانا على أبواب سفر وكانا قادرين على تحويل مبالغ كبيرة من الدينار إلى الدولار. تجمّع لدي قرابة إثني عشرَ ألف دولار أمريكي كافية للقيام بأكثر من مغامرة سندبادية غير محسومة النتائج وغير معلومة العواقب. بقيتُ رغم كل هذه النجاحات وهذا النعيم قلقاً لست متأكداً أني سأغادر العراق بسلامة وسلام. كنتُ أضرب أخماساً بأسداس وأستعرض المشاكل والعقبات المحتملة وأحاول أن أجدَ حلاً معقولاً لكلٍ منها حتى أتمكن أن أفلتَ من طوق الحصار وأكسر أبواب السجن الكبير الرهيب. كان يخيّل لي أحياناً إني في مركز دائرة التصويب وإني المستَهَدف القادم الذي يحمل الرقم واحد في قائمة المطلوبين للموت والتنكيل. بعد تنفيذ المجزرة الرهيبة بحق المجندين الشباب هدأت بغداد في الظاهر، لكي يلتقط الجلاّد أنفاسه ويرتب جدول أولوياته ويحكم رسم مخططاته التآمرية خطوة خطوةً  بصبر كبيرٍ وأناة فلم يتبقَ أمامه إلاّ الوثوب على السلطة كاملةً دون منافس أو شريك. وسيكون صدام حسين بعد عام واحدٍ رئيسَ الجمهورية ورئيسَ مجلس قيادة الثورة وأمينَ سر القيادة القطرية والقائد الأعلى للقوات المسلّحة ثم الحاكم المطلق في البلد لا إلهَ إلاّ هو. مع صعود صدام إلى أعلى مراقي السلطة والسلطان والجبروت والتفرد بعناصر القوة جميعاً كان العراق يهوي مُنتكِس الرأس وبأقصى سرعةٍ في الإتجاه المعاكس على منحدرٍ شديد الإنزلاق والخطر. إستلب السلطة من البكر في شهر تموز 1979 فأسرع في التخلّص من عناصر البعث النظيفة في قيادة الحزب والدولة ثم شن الحرب أوائل 1980 على إيران. مسلسل محكم الحلقات مدروس بعناية وتصميم لا ينثني. طريق شاق طويل قطعه صدام حسين ماشياً على جماجم ضحاياه وسابحاً في بحور من دماء العراقيين وغارقاً في البلايين من أموالهم تهريباً وتبذيراً ورشاوى لكل من هبَّ ودبَّ من رجال إعلام وصحافة ووزراء وبعض الملوك الصغار والحكّام الكبار.
قبل مغادرتي العراق بيوم واحد زرت مقر نقابة الكيمياويين الواقع على شارع دمشق في حي المنصور لكي أقول كلمةَ وداع للصديق النبيل رئيس النقابة ( غازي إبراهيم أيوب ).
لم أجد الرجل فتركت له مع ملاحظ إدارة النقابة ( جلال / من كركوك ) رسالة قصيرة قلت له فيها (( جئتُ أُودِّعك فإني مسافر لأقضي شهراً ونصف بين هولندا وفرنسا وسويسرا. من يدري، فقد لا نلتقي مرّةً أخرى… ربما تحترق أو تسقط الطائرة التي ستُقلّني  إلى هناك. شوقي وإحترامي )). لم نلتقِ بعد ذلك أبداً. طالَ غيابي أكثر مما كان مرسوماً أو متوقعاً. ثم إنَّ الرجل النبيل سقط بعد عام واحد فقط قتيلاً برصاص صدام حسين وبطانته الخبيثة. تم إعدامه مع مجموعة وزير الصناعة ( محمد عايش حَمَد ) في شهر تموز 1979 . لم تسقط بي طائرتي ولم تحترق، لكنَّ العراق بإجمعه إحترق بمقتل غازي إبراهيم إيوب ورفاقه الشجعان الذين عرفوا قبل سواهم من هو صدام حسين وما المصير الذي سيؤول إليه العراق فيما لو تفرّد هذا المجرم المعتوه بمقدراته وأحكم سيطرته المطلقة على أموال واردات النفط الخيالية وعلى الجيش العراقي ثمَّ على حزب البعث دون منازع أو منافس. ثالوث التسلّط والجبروت والطغيان هذا رشّح صداماً أن يركب رأسه وينفذ مغامرات الحرب والغزو وإستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد العراقيين كُرداً وعرباً على حد سواء. بهذا الثالوث أصبح صدام المصاب أصلاً بالشيزوفرينيا المركّبة والبارانويا 
( صلاح الدين الأيوبي ) و ( حمورابي ) و ( نابليون ) و ( هتلر ) وأكبر من ( جمال عبد الناصر ) ومحرر القدس وحامي حمى بوابة العرب الشرقية. وما كان في أفضل أحواله سوى ( جنكيزخان ) المغولي.
التاسع من تموز 1978 / الهروب
نهضنا جميعاً فجر التاسع من تموز 1978 وكانت حقائبي جاهزة. أتممنا فطورنا وكانت معنا الشقيقة ( أم رياض ) جاءت من الحلة كي تودعني وتكون معي حتى اللحظات الأخيرة. ثم جاء حسب الإتفاق الصديق ( فاروق مُبارك ) بصحبة زوجه ( أم هالة ) لكي يأخذنا بسيارته الروسية ( لادا ) الفستقية اللون إلى مطار بغداد الدولي. في الطريق إلى المطار كانت طفلتنا قرطبة ملتصقة بي في الحوض الخلفي من سيارة فاروق. لم يفارق ذراعها ذراعي. كانت شديدة الحزن ومشروع دموع غزيرة في عينيها الخضراوين لكنَّ كبرياءَها لم يسمح للدموع أن تتساقط عَلَناً. كنتُ أُطمئنها صادقاً أننا سنلتقي بعد أسبوع في مطار العاصمة البلجيكية بروكسل. سأكون هناك في إستقبالهم وسنقضّي أياماً ممتعة في عواصم جميلة لم نرها من قبلُ. ثم سنشتري سيارة جديدة ونسافر بها إلى ليبيا على ظهر باخرة هائلة تمخر بنا عُباب البحر الأبيض المتوسط ما بين مدينة مرسيليا الفرنسية ومدينة طرابلس الليبية. لم تكن تصدق ما أقول. أو لاتريد أن تُصّدِق. كانت في شكٍّ في كل ما كنتُ أقول. ماذا عن أخيها أمثل ؟ كان طوال الوقت جالساً بيننا وبين والدته هادئاً شجاعاً رابط الجأش كعادته غيَر مُكتَرِثٍ بغيبة والده. قلت له مرة واحدة ما قلتُ لشقيقته فأخذ كلامي على علاّته ولم يشكك فيه على الإطلاق. دخلنا مطار بغداد وكنا أول داخليه. حثني الصديق فاروق وزوجه على التوجه دون إبطاء إلى مكتب الشرطة الذي يشرف على فحص جوازات سفر المسافرين والسماح لهم بالدخول إلى القاعة المخصصة للتأهب إلى دخول الطائرة المغادرة. ما كان الجميع مصدّقين أنني سأغادر أرض العراق. كان الجميع ـ وكنتُ أحدهم ـ في شك كبير. إقتربت من عارضة المكتب الخشبية بوجلٍ وحذر. نهض نائب ضابط شرطة أو جيش متين الجسم متثائباً متثاقلاً إذ كنتُ أول مسافر يراجعه ذاك الصباح الباكر. وضع جواز سفري وكتاب موافقة دائرتي على سفري أمامه ثم شرع يُقلِب أوراق سجلٍ ضخم ورقةً بعد ورقة. أما زال كتاب منعي من السفر مُثَبتاً في متن هذا السجل الرهيب ؟ هل أبلغت سلطات المنع نقاط الحدود كافة برفع حالة المنع عني ؟؟ يمضي الوقت ثقيلاً. أغلق سجله وهو يتثاءب فاتحاً فمه على سعته. وضع على الصفحة المرقّمة 31 من جواز سفري ختم مغادرة مطار بغداد المثلّث المتساوي الأضلاع يتوسطه مثلث شبيه به أصغر منه ثم وقعّه ووضع تحته تأريخ التاسع من شهر تموز 1978 . أغلق جواز سفري وسلّمه لي فما كنتُ لأصدِّق ما أرى وما جرى أمام عينيَّ. لقد سبق وأن ثبّت ضابط جوازات بغداد على الصفحة 28  من الجواز ( الباسبورت ) الموافقة على سفري كما يلي ( حصلتْ الموافقة على سفره بتأريخ 27 / 6 / 978 وزوجته وأولاده ) ووضع تحتها ختم مديرية السفر والجنسية  وعليه عبارة ضابط جوازات بغداد وتوقيعه ثم تأريخ 27 / 6 / 1978. كلّفت رسوم هذه الموافقة عشرة دنانير عراقية. رفعتُ يدي مودِّعاً عائلتي والأصدقاء فأضحكني فاروق إذ كان يحثني وبإلحاح ملوِّحاً بذراعه لي في أن أترك المكان سريعاً وأمضي إلى حيث ينتظر المسافرون موعد إقلاع طائرتهم. غاب عني أطفالي فتهت في بحر لجيٍّ من الأفكار السود. هل سيستطيعون مغادرة العراق بعدي ؟ هل ستسمح لهم سلطات بغداد بالمغادرة ؟ ماذا لو عرقلت جهات معينة مشروع سفرهم وإلتحاقهم بي ؟؟ كل شيء جائز ولا خلاقَ للبعثيين ولا ذمة لهم ولا عهد. أقلعت طائرة الخطوط الجوية العراقية وكانت بجانبي سيدتان عراقيتان قالتا إنهما في سفرة سياحية مع بعض المعلمين والمدرسين إلى لندن. أمطرتاني بسيل لا نهاية له من الأسئلة الشخصية المحرِجة فأضطُرِرتُ أن أكذب عليهنَّ بالقول إني تاجر ومستورد وإني في سفرة عمل طويلة أزور خلالها بلجيكا وفرنسا وسويسرا، وكنتُ أحمل بالفعل تأشيرات دخول هذه البلدان. حطّت الطائرة في مطار فرانكفورت الألماني ثم أقلعت بإتجاه العاصمة البلجيكية بروكسل. تأهبتُ لمغادرة الطائرة في مطار بروكسل فودّعت السيدتين على أمل كاذب أن نلتقي بعد السفر في بغداد. ركبت من المطار الحافلة المتجهة إلى مركز المدينة ومنها إلى محطة القطار مستهدِفاً مدينة ( لايدن ) الهولندية [ لايدن Leiden   
فعلٌ يعني باللغة الألمانية : يُعاني أو يقاسي، من المعاناة والمُقاساة، وهذا كان واقع حالي وما أكبر معاناتي يومذاك ]. في إنتظاري قدوم القطار في المحطة المركزية إقترب مني شاب حسن الهندام طالباً نقوداً. قال إنه سويسري وقد فقد ما معه من نقود. عرض عليَّ جوازاً ما كنتُ معنيّاً في تدقيقه ومعرفة ما إذا كان مزوَّراً أو غيرَ مُزوَّر. قلت له إني لا أعرفك ثم ليس لديَّ ما أعطيك. تكلّم كلاماً غير مؤدب ومضى. بعده جاءني رجل يتكلم العربية بلهجة الشمال الإفريقي، أشعل سيجارة بالقرب مني ثم سألني (( تكيّفْ )) ؟ حسبته يعرض عليَ سيجارةً لطفاً منه. قلتُ له شكراً، لستُ مُدَخِناً. لكني علمت فيما بعد إنه يتاجر بالمخدِّرات وما كانت السيجارة التي أوقد أمامي إلاّ سيجارة حشيشة. وتعبير ( تكيّفْ ) تعني هل تحب أنْ (( تُحشش… تُدخِّن سيجارة حشيشة )) ؟ هذا ما شرحه لي بعض المعارف لاحقاً.
كانت المسافة بين بروكسل البلجيكية ولايدن الهولندية قصيرة، لم تتجاوز الساعتين على ما أتذكّر. وصلتُ لايدن فإستأجرت سيارة تاكسي تقودها فتاة في مقتبل العمر قالت إنها تدرس الصيدلة في الجامعة وتعمل سائقة تاكسي خلال شهور العطلة الصيفية. أخذتني حسب العنوان الذي كان معي. رأيت المدينة بسيطة ومتواضعة وزاخرة بالكلاب. في وسطها محلان يديرهما مصريون لبيع ال ( دونر كباب ) ترفرف فوقهما الأعلام الإسرائيلية الضخمة. إستغربتُ، كباب ومصريون تخفق أعلام إسرائيل فوق رؤوسهم !! قال لي بعض معارفي : إنها هنا ليست مشكلة، إفتحْ محلاً وإرفع فوقه علم العراق، سوف لن يعترض أحدٌ. 
في إنتظار حلول اليوم السادس عشر من تموز، موعد وصول عائلتي إلى مطار بروكسل البلجيكي، كنتُ أقومُ بجولات طويلة على الدراجة الهوائية في طُرقٍ آمنةٍ خاصة لراكبي الدراجات. وصلتُ مرّةً بدراجتي إلى مدينة ( لاهاي Den Haag  ) مركز محكمة العدل الدولية. كان الطقسُ دافئاً رائعاً فكنتُ أُطيل التمشي عصراً وفي الأماسي.
كنتُ صباح يوم الأربعاء الموافق  16 / 7 / 1978 في مطار بروكسل منتظراً وصول طائرة الخطوط الجوية العراقية التي ستحمل لي أطفالي ووالدتهم قادمين من بغداد. كنت متوتراً شديد القلق تنتابني وساوس وأفكار سود. هل منعتهم سلطات بغداد من المغادرة ؟
هل حصل حادث خطير للطائرة ؟ كيف تمّت تصفية دارنا وما فيه من أثاث وسجاد إيراني ثمين وكتب بعضها نادر ؟؟ ما كنتُ قادراً على المكوث في مكانٍ واحد. كنتُ أتمشى هنا وهناك لتصريف قلقي. لا أقوم إلاّ لأجلس ثانيةً. كنتُ أُطيل النظر في لوحة مغادرة ووصول الطائرات. لم أُصدِّق عيني !! ظهر على اللوحة إسم الخطوط الجوية العراقية ورقم رحلة الطيران وزمن الوصول. غمرني فرحٌ لم يدمْ طويلاً. نعم، ستصل الطائرة قريباً ولكنْ، من قال إنَّ عائلتي الصغيرة ستكون من بين القادمين على هذه الطائرة ؟؟!!. حطّت الطائرة أخيراً على أرض مطار بروكسل. لم يمضِ وقت طويل حتى رأيت ولدي أمثل ( ثمان سنوات ) يتقدم الجميع دافعاً بصعوبةٍ عربة الحقائب الثقيلة وخلفه طفلتي قرطبة ( ست سنوات ) متعلقةً بذراع أُمها فصرختُ من شرفة المستقبلين بأعلى صوتي صرختين هزّتا فضاء الشرفة العالية : [ أمثل…أمثل ] … رفعوا رؤوسهم نحو مصدر الصوت فإبتسموا إبتسامة  النصر ورفعوا أيديهم ملوِّحين. وصلت العائلة بسلام. تركت وراءها جحيم ( دانتي ) في بغداد وفي رأسي الكثير من الأسئلة وفي نفسي ظمأ لمعرفة المزيد من الأمور. أي عيد في تأريخ الرجال حين يلتئم شملهم بأطفالهم وعوائلهم بعد ضيق وقلق ؟؟ هل حقاً هذا ولدي أمثل وإبنتي قرطبة اللذين تركتُ في بغدادَ قبل أسبوع واحد لا غير ؟؟ ودّعاني في مطار بغداد وما كانت قرطبة لتصدِّق إننا سنلتقي ثانية بعد سبعة أيام لا أكثر. كان أمثل يُجيد حساب الأيام ويعرف بكل تأكيد متى يأتى يوم الأربعاء السادس عشر من تموز، يوم اللقاء مع الوالد. لذا كان دائماً واثقاً وثابت الجِنان. ما كان هذا حالُ شقيقته. على أية حال، حملتنا سيارة تاكسي إلى قلب العاصمة بروكسل فإستأجرنا غرفةً واسعة لأربعة أشخاص في ( بانسيون ) يقع في وسط المدينة. تمشينا فيها وتعرّفنا على بعض معالمها ثم سألنا عن عنوان السفارة الليبية. راجعنا السفارة طالبين تأشيرات دخول الأراضي الليبية. عرضتُ على القنصل كتاب عرض العمل أستاذاً في جامعة الفاتح. قال عليكم أن تنتظروا بضعة أيام لحين مفاتحة وأخذ موافقة الجهات المختصة في العاصمة طرابلس. في العشرين من شهر تموز 1978 وضع القنصل ختم تأشيرة دخول ليبيا بصلاحية أمدها شهر واحد فقط. وهذا يعني إننا مفروض فينا دخول ليبيا في أو قبل اليوم العشرين من شهر آب. كنا إذن مُحدَدين بسقف زمني لا يمكن تجاوزه. غادرنا جميعنا العراق سالمين. أصبحت ليبيا وعاصمتها طرابلس ( في الجيب ). إذن فلنحتفل أو نُتمم الفرحة الكبرى بالكثير من الأعياد. إبتعنا سيارة ألمانية جديدة خضراء اللون ( فولكس واكن  Golf  VW   ) عُدنا بها إلى مدينة لايدن الهولندية. راجعنا أحد مكاتب الخطوط الملاحية البحرية في العاصمة أمستردام وإبتعنا تذاكر سفر لنا ولسيارتنا على باخرة ( طُليطلة ) الليبية التي سوف تقلِّنا من ميناء ( مرسيليا ) الفرنسي إلى طرابلس الليبية بعد منتصف نهار الثاني عشر من شهر آب 1978.. بقي أمامنا أسبوعان للرحيل. تأشيرة دخول ليبيا ستسقط في العشرين من شهر آب. علينا إذن دخول ليبيا قبل هذا التأريخ. 
باريس
غادرنا بسيارتنا هولندا متجهين إلى العاصمة الفرنسية باريس. ما كنتُ قبلاً في باريس، ومع ذلك قادتني ذكرياتي القديمة مع كتاب الدكتور سهيل أدريس " الحي اللاتيني " مباشرةً إلى قلب هذا الحي. أوقفت سيارتي أمام فندق ( السويس ). كان في مكتب الإستقبال شاب جزائري فإنتشيتُ لأنه يتكلم العربية ولا أفهم الفرنسية. مكثنا في باريس أسبوعاً واحداً عانينا فيه من مشاكل صعوبة إيجاد مكان مناسب لوقوف السيارة. فضلاً عمّا قاسيناه من كثرة الغرامات التي كانت تفرضها شرطة باريس بسبب الخطأ في زمن أو مكان وقوف السيارة. غرامات ثقيلة وخشونة مُفرِطة في معاملتنا فقد كانت تلك فترة ساخنة إذ دأب فيها صدام حسين على تبادل الإغتيالات مع عناصر بعض التنظيمات الفلسطينية في باريس وعواصم أوربية أخرى. لذا ما كان مُستَغرباً أن تستوقفني الشرطة وتسأل عن هويتي وجواز سفري وسبب وجودي في باريس بسيارة ألمانية مُعدَّة للتصدير تحمل رقماً ولوحةً بلجيكية. كانت زيارة باريس زيارة مرّة، بل وشديدة المرارة، لم يخفف من مرارتها إلاّ زيارة متحف اللوفر الهائل. كان صف الإنتظار طويلاً جداً فسأم أطفالنا وألحوا علينا أن نتخلى عن فكرة زيارة المتحف وأن نغادر المكان على الفور. كيف تكون في باريس ولا تزور اللوفر ؟! الأطفال بعمر أولادنا لا يحبون المتاحف. لا يجدون فيها ما يُلهيهم وما يبعث في نفوسهم الغضّة شوقاً أو دهشةً أو مسرّةً. مع ذلك دخلنا هذا المتُحف ورأيناه لأول ولآخر مرة في العمر. لم أزرْ باريس بعد تلكم الزيارة المتعبة. لم تترك في نفسي إنطباعات عميقة جيدة، لا برج ( إيفل ) ولا بحيرة ( بولونا ) وبجعها الأبيض ولا شارع ( الشانزيليزيه ) ومقاهيه ومطاعمه. أمر واحد ما زال عالقاً في ذاكرتي لم يعفُ عليه الزمن. حين زرنا كنيسة ( نوتردام ) الشهيرة غابت طفلتي قرطبة في أجواء غير مألوفة. توقفت عن السؤال والكلام. تريد أن تقول شيئاً لكنها لا تستطيع أو لا تجرؤ أو لا تعرف كيف تبدأه. كانت مأخوذة بجو الكنيسة الديني حيث الشموع متّقدة في أرجائها وزواياها وتمثال مريم العذراء وولدها عيسى مُعلَّقاً فوق صليبه. فاجأتني بالقول (( بابا… أريد أن أقرأ قرآن )). يا سلام !! كيف ربطت الطفلة المسلمة أجواء الكنيسة المسيحية بتراث ودين  آبائها وأجدادها ؟ كيف أوحت لها تلكم الأجواء الجديدة والغريبة عليها أن ترجع إلى أركان ومرتكزات وكتاب دينها ؟؟ ما الذي يجمع المسيحية بالإسلام دينا ؟؟ كان عمر قرطبة حينذاك ستة أعوام لا غير وكانت شديدة الولع بسورة ( مريم ) حتى إنها حفظت عن ظهر قلب الكثير من آيات تلك السورة. كانت مسحورة بقصة مولد الطفل عيسى تحت جذع نخلة ونطقه وهو في المهد ثم برّه بوالدته التي أنجبته ولم يمسسها بشر. ولقد كانت ولم تزلْ تقرأ وتردد البعض من سورة مريم [[ قال إني عبدُ اللهِ آتاني الكتابَ وجعلني نبياً. وجعلني مُبارَكاً أينما كنتُ وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دمتُ حيّاً. وَبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً. والسلامُ عليَّ يومَ وُلِدتُ ويومَ أموتُ ويومً أُبعَثُ حيّاً / من سورة مريم 30 ـ 33 ]].  هل كانت ترى نفسها فيه أم إنها كانت مندهشة كيف يولدُ طفل بدون أب ويبقى يتيماً دون أب ؟؟  
جنيف
تركنا باريس عاصمة نابليون والثورة الفرنسية وكومونتها متجهين إلى مدينة جنيف السويسرية. ما كنتُ أحمل معي خرائط الطرق والمدن. فلسفتي أنَّ الطرقَ نفسها هي التي تقودني وتُهديني إلى الإتجاهات الصحيحة. أوقفتُ سيارتي عند نقطة الحدود بين فرنسا وسويسرا. ترجلّتُ لأبحث عن شرطة الحدود فلم أجدْ أحداً. من سيختم جوازاتنا إذن ويسمح لنا بمغادرة بلاد الإمبراطور نابليون بريئيِّ الذمة وقد دفعنا كافة الغرامات التي أوقعتها شرطة باريس بحقنا ؟ ظللتُ أدور هنا وهناك وَجِلاً أتربصُ متسائلاً هل نحن مراقبون ؟ لم تطلْ حيرتي إذ قادتني قدماي إلى بناية صغيرة مكتوب على واجهتها كلمة
( جندرمة )… الكلمة التي كنتُ أسمعها من والدي والتي كنّا نظنها تركية. ما الذي أتى بتركيا ولغة أنقرة وسلاطين آل عثمان إلى الحدود الفرنسية ـ السويسرية ؟ دخلتُ البناية الصغيرة متهيباً حَذِراً فرأيتُ ثلاثة أنفار من الشرطة متحلقين حول مائدة مستديرة  يأكلون ويشربون النبيذ. فوجئوا بدخولي. فتحوا عيونهم متسائلين عن سبب هذه الزيارة غير المرغوب فيها. كانت جوازات سفرنا في يدي فمددتها متسائلاً ألا تحتاج هذه الجوازات إلى تأشيرة خروج وأختام ؟ لم ينطقوا حرفاً واحداً بالإنجليزية. أشاروا جميعاً بأيديهم ،وقد فهموا قصدي، بإتجاه الأراضي السويسرية. فهمتُ أنْ لا حاجة لمثل هذه الأختام والتأشيرات. لا حدود بين البلدين، فداخل فرنسا يحق له دخول سويسرا والعكس بالعكس، كما هو الحال بين هولندا وبلجيكا. أدخلوها بسلامٍ آمنين. 
كان الطريق إلى جنيف رائعاً محفوفاً في بداياته من كلا جهتيه بالدور الجميلة الرائعة التصميم. وكان متعرجاً صعوداً وهبوطاً كما هو الحال في كافة الطرق الجبلية. ثم إنه كان يشق غاباتٍ كثيفة تهدر في أرجائها بصخب عالٍ أصوات سقوط ماء الشلاّلات من الجبال إلى بحيرات صغيرة مبعثرة هنا وهناك في أنحاء الغابات. كنتُ أشعر بمتعة لا حدود لها وأنا أقود سيارتنا الألمانية الجديدة بثقة عالية، فالسيارات الجديدة لا تخون أصحابها. قادني هذا الطريق الساحر أخيراً إلى وسط مدينة جنيف وبحيرتها الشهيرة بإسم بحيرة 
( ليمان ) أو بحيرة جنيف. حططنا رحالنا في أحد فنادق مركز المدينة ثم أخذنا نتجول في طرقها لإستكشافها والتعرّفِ على ناسها ومخازنها ومطاعمها. قمنا صباح اليوم التالي بسفرة على قارب بخاري صغير في عَرض بحيرة ليمان. كنتُ مَشوقاً بشكل خاص أن أرى منزلاً صغيراً يقع تماماً على ساحل البحيرة كان الشاعر الإنجليزي لورد بايرون يتخذه سَكَناً ومُقاماً حين يزور جنيف ويمكث فيها لبعض الوقت. كان ذلك خلال العقدين الأولين من القرن التاسع عشر. كنتُ أعرف هذه البحيرة من خلال قراءاتي الشعرية للشاعر الإنجليزي توماس إليوت. ذكر توماس إليوت بحيرة ليمان في الجزء الثالث 
 ) The Fire Sermon   )  من قصيدته الشهيرة ( The Waste Land  ) :

                      By the waters of Leman I sat down and wept 

أخذ توماس إليوت هذه الفكرة من صاحبه بايرون   Lord Byron     الذي كان قد قال في عنوانٍ لإحدى قصائده الشعرية القصيرة قبل إليوت بقرنٍ من الزمن : 

 BY THE RIVERS OF BABYLON WE SAT DOWN AND WEPT    .

إليوت يبكي على شواطيء بحيرة ليمان السويسرية، بينما يبكي بايرون السبايا على شواطيء أنهار بابل. وشتّان ما بين المناسبتين وشتّان ما بين دموع الباكين. جلوس الشاعر إليوت على ساحل بحيرة ليمان يختلف بالطبع عن مجلس بني إسرائيل سبايا على مياه أنهار بابل. ما كان إليوت سبيّاً إنما كان ساخراً من شهرة هذه البحيرة وجمال الطبيعة المحيطة بها وثراء أهل جنيف وكثرة سياحها. كان إليوت كمن يحسد نفسه إنه إستطاع أْن يزور جنيف وبحيرتها الأرستقراطية ونافورة مائها الذي يشق الفضاء رشاقةً وإرتفاعاً. كان يبكي سوء حظه ويحسد من يستطيع العيش بجوارها أبداً. لم يتكلم الشاعر لورد بايرون بلسانه عن حاله إنما  وضع ما قرأ في التوراة بصياغة شعرية لا غير. نقرأ في المزمور 137 /  1 ـ 4 ) ما يلي :
(( على نهر الفرات جلستُ وبكيتُ. على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضاً عندما تذكّرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا. لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلامَ ترنيمةٍ ومُعَذّبونا سألونا فَرَحاً قائلين رنِّموا لنا من ترنيمات صهيون. كيف نُرَنّم ترنيمة الرب في أرض غريبة…)). هذا ما قرأه بايرون في التوراة ثم صاغه شعراً. 
أحسبُ أنَّ في هذا المزمور خطأً بيِّناً. فالمزامير تُنسَبُ إلى داود. وداود عاش قبل السبي البابلي بفترة تتراوح بين 700 ـ 800 سنة، أي 14 جيلاً كما تذكر مقدمة العهد الجديد ( الإنجيل ). فكيف تسنى للملك داود أن يتكلم عن أنهار بابل وعن تعليق أعواد الطرب والغناء ؟؟!!
تجولنا بسيارتنا في المناطق المحيطة بمدينة جنيف وزرنا مدينة ( لوزان ) وتناولنا طعام الغداء في أحد مطاعمها. حظيَ طفلانا برعاية خاصة من لدُنْ العاملات وصاحبات المطعم. قدموا لهما الحلوى والموز وملاعيب أطفال وقد إكتشفوا أنَّ عائلة غريبة جاءت تزور بلادهم من الشرق الأوسط.
مرسيليا
 أمضينا خمسة أيام ( أربع ليالٍ ) في جنيف فغادرناه متجهين إلى محطتنا الأخيرة في أوربا … مدينة وميناء ( مرسيليا ) الفرنسية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. أمضينا في هذه المدينة ليلتين فقط. فوجئنا أنَّ مدير الفندق الفرنسي يتكلم العربية بطلاقة ولكن بلهجة جزائرية. سألته كيف تسنى له معرفة اللغة العربية ؟ قال إنه خدم في الجزائر ضابطاً في الجيش الفرنسي. كان الرجل ودوداً ولطيفاً وقدّم لنا الكثير من الخدمات. 
بعد جولة طويلة على الأقدام في مركز المدينة شعر الأطفال بالتعب من المشي والتجوال والتفرّج على المخازن فقررنا أن نتناول طعام الغداء في أحد المطاعم المطلّة على ساحل البحر. أتانا العامل بقائمة المأكولات والمشروبات وأسعارها فلم نفهم منها شيئاً. كانت جميعاً باللغة الفرنسية التي لا نعرف منها سوى كلمات متواضعة. الغريب أن العامل كان يُلِّح أنْ نطلب ما نأكل وما نشرب بسرعة. صرختُ في وجهه كيف نقرر ما نأكل إذا كنا لا نعرف ما في قائمة طعامك من مأكولات ؟؟ تدخلَّ رجل فرنسي كان قريباً منّا في مجلسه. ترك مكانه وإقترب مؤشراً بإصبعه على أكلة معينة في القائمة قائلاً : أظنُ أنَّ هذا الطبق يلائم أذواقكم وستحبونه كثيراً.  قلتُ له وما إسم هذا الطّبَق ؟ قال ( كسكس بالدجاج ). سألته كيف عرف إننا سنحب هذا الطبق ؟ قال إنه طبق مشهور في الجزائر وهنا في المطاعم الجزائرية في مدينة مرسيليا. سألتُ أم أولادي بكثير من التردد والحياء العراقي : ما هو الكسكس ؟ قالت لا أعرف، أسمع مثلك هذه الكلمة لأول مرّة. هذا ( الكسكس ) الذي لم نكن نعرفه قبلاً في وطننا العراق، والذي طلبناه حسب نصيحة الخواجا الفرنسي، سنجده أمامنا في ليبيا، فإنه الطعام اليومي لكل العوائل الليبية. إنه لا شيءَ سوى ( البرغل ) العراقي الشهير في الموصل وعموم كردستان العراق. لم نأكل إلاّ الدجاج الذي كان شهيّاً ومُعدَّاً بشكل جيد. إثناء تناولنا طعامنا وقف قريباً منّا شاب وشابة يعزفان ألحاناً على آلتين موسيقيتين ويغنيان باللغة الإسبانية. أوقفا طفليهما أمامهما تماماً وهما يعزفان ويغنيان. قالا إنهما من ( شيلي ) وقد تشردت العائلة الصغيرة إثر إنقلاب الجنرال الفاشي ( بينوشيت ) الدموي في أيلول 1973. أردتُ أن أدعوهم لتناول طعام الغداء معنا لكنَّ زوجتي رأت أنَّ من الأفضل لهما أن نعطيهم نقوداً بدل الطعام. نفّذتُ إقتراحها. وجدنا أنفسنا في حالة تعاطف شديد مع هذه العائلة والأسباب شديدة الوضوح. هم ونحن مشرّدون وإنْ إختلفت السبل والتفصيلات. كلانا ضحية جور أنظمة فاشية لا ترحم. هم ونحن أُضطرِرنا إلى ترك الأهل والبلد والمغامرة في أرض الله الواسعة. ما كنّا مثلهم نحسن الغناء والعزف والترفيه عن الناس السعداء لكنْ ولحسن الحظ كان في حوزتنا عقدٌ للعمل في بلد عربي نتكلم لغته وندين بدينه. كطفليهما، غادر طفلانا وطنهما ومساقط رأسيهما دون أن يفهما السبب. جمعتنا في مرسيليا محنة واحدة عرفناها فيهم لكنهما لم يعرفاها فينا. لم نشرح ظروفنا ولم نكشف لهما من نحن ولماذا نحن مثلهم هنا وإلى أين سنتجه. ما زال منظر تلكم العائلة شاخصاً أمام بصري وهي تعزف على آلاتها 
الموسيقية وتنظر بعيون حزينة ملأى بالكبرياء إلى طفليهما النظيفين والرائعين يقفان أمامهما. أصابتني عدوى الحزن والكآبة فأخذت عيوني الحزينة تتنقل مثلَ آلة الكاميرا السينمائية بين طفلينا الجالسين في مطعم فاخر يأكلان الدجاج ويشربان الكولا والطفلين الشيليين المُشرَّدين. يعزّف المحزون ليسلّي الآخرين. أية مسرّة تأتي من بين أوتار حزن وشقاء عائلة ضائعة تتخبط في مغامرة في عالم مجهول، أية مسرّة ؟؟!!. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق