ألم أدرك في تلك الفترة أنني ما زلت طفلة لم تتجاوز العشرة أعوام؟! كم كنت أشعر بالإهانة عندما يشارك الجميع في مقاومة المحتل الغاصب، ولكن عند عملية الاعتقالات التي تلاحق المتظاهرين وتقتحم البيوت كانوا يصبون جام غضبهم على الشباب الذكور وأحيانا على الإناث وكبار السن، وأما أنا فكانوا في كل مرة يرونني فيها يصرخون في وجهي: "روخ بيت"، كنت اجيبهم بصوت منخفض ممزوج بالجرأة والخوف:"علة مثقل دمكم شايفيني كنت ألعب مثلا!!!"
تبا لهم ألم أمسك الحجر شأني شأن هؤلاء الشباب؟! ألم أخربش على الحيطان"بالروح بالدم نفديك يا شهيد"!!!، إذا لماذا لا يعتقلونني؟! ماذا ينقصني أيها الأوغاد؟ أو تشككون في وطنيتي؟!!
وغيرها الكثير من الأسئلة التي جعلتني أقطع الشك باليقين، وذات نهار صيفي قائظ بعد انتهاء الدوام المدرسي، انطلق الشبان في مظاهرة يرجمون دبابات اليهود المتمترسة بمحاذات سور البلدية، وهم يرددون "دمك ما بروح هدر يا أبو جهاد"، لم أعرف من هو أبو جهاد في تلك اللحظة، المهم أني دسست نفسي بينهم ورفعت يدي اليمنى بعلامة النصر المعتادة ويدي اليسرى تمسك حجرا، ورددت اسم "أبو جهاد".
هجم الأوغاد على المتظاهرين، فرقوهم بالرصاص، وبقيت متسمرة في مكاني والجندي يقترب مني ويداي المرفوعتان ترتجفان، أهمس في سري: سيرديني برصاصته الغادرة أو سيعتقلني لا محال.
لم يفعل ذلك الوغد، حدق بي قائلا: "انت شو بعدك بتعمل هون، روخ بيت"
سابقا لم يخافونا أطفالا كما ينتفضون خوفا من أطفالنا اليوم، هي متطلبات المرحلة، اليوم يستهدفون الطفل أولا لأنهم أدركوا جيدا أن أطفالنا يرضعون حب الوطن مع حليب أمهاتهم.
هربت مسرعة إلي بيتي المقابل للبلدية على بعد شارعين عرضا، لجأت إلى أختي الكبرى وأمطرت عليها وابلا من الأسئلة: "ليش اليهود بعتقلوا بس الشباب واحنا لأ؟!"
"شو يعني بدك يعتقلوك؟!، شو بدهم فيك لساتك صغيرة"
"طيب مين أبو جهاد؟"
"أبو جهاد قيادي في حركة فتح اغتالته إسرائيل"
"شووو...يعني مات؟!"
"بقلك اغتالته بتقوليلي يعني مات!!! لا بشم الهوا!!!"
لحظات حتى دفع الجنود الباب بقوة وهم يعيثون فسادا في المكان و يصرخون:"وين الشباب اتخبوا؟"
وفي اللحظة ذاتها اختلطت علي مشاعري، أرغب بالضحك والبكاء في ذات اللحظة، إلا أنني كممت فمي بكفي وابتلعت صوتي إلى أن خرجوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق