لوركا: ضدّ الفلكرة، ضد الأوربة، ومع العوربة (شهادة)/ عزالدين المناصرة

ولد فيديريكو غارثيا لوركا، شاعر إسبانيا العظيم في قرية (فونته باكيروس)، قرب غرناطة عام 1898م. درس القانون في جامعة غرناطة. وأكمل دورة في الفلسفة والأدب في جامعة مدريد عام 1920. كان أبوه مزارعاً وأمه معلمة. وكان الموسيقي دي فالا صديقه الحميم ومرشده. رحل لوركا إلى مدريد عام 1919م، حيث اشتهر كشاعر، وعازف بيانو، ورسام. عاش في بيت الطلبة، وكان من أصدقائه (المخرج السينمائي لويس بونيول والرسام سلفادور دالي، وغيرهما). وقد أصدر عام 1928 مجموعته الشعرية الشهيرة (أغاني الغجر)، وفي عامي 1929 و1930، زار الولايات المتحدة وكوبا، ثم عاد إلى إسبانيا. وفي الرابع عشر من نيسان عام 1931، أعلنت الجمهورية، وفي عام 1936 أصبح مانويل أثانيا رئيساً للجمهورية. وفي الفترة نفسها أعلن الجنرال فرانكو، الذي كان على رأس الجيش في جزر الكناري والمغرب، تمرده على (حكومة الجمهورية)، فانطلقت شرارة الحرب الأهلية بين الجمهوريين واليمين الفاشي(الكتائب)، استمرت حتى عام 1936، حيث انتهت بانتصار اليمين. وفي عام 1947 أقرّ مبدأ الملكية، وظل فرانكو في السلطة حتى وفاته عام 1975. ترك لوركا مدريد في تموز 1936 إلى غرناطة، حيث كان قد بدأ الانقلاب العسكري ضد الجمهورية، فلجأ لوركا إلى عائلة روساليس، حيث اختبأ عندهم، إلاّ أنّ العسكر الفاشي ألقى القبض عليه، حيث أعدم في العشرين من آب (أغسطس) 1936 في مكان يدعى (بيثنار=عين الدمع) بإطلاق الرصاص عليه. ودفن في قبر ما يزال مجهولاً، ويعتقد الكثيرون أن حاكم غرناطة المدنى هو الذي وشى به. وقد ترك موت لوركا المأساوي عاصفة من الاحتجاج في العالم كله، مما جعل بعض النقاد يرى أن الحزب الشيوعي الإسباني، هو الذي ضخّم قيمة لوركا الشعرية، بتضخيم موته التراجيدي. وهذا يذكرنا بمسألة استشهاد بعض الأدباء الفلسطينيين (غسّان كنفاني – الروائي، وناجي العلي – رسام الكاريكاتير، وعبدالرحيم محمود – الشاعر الذي استشهد عام 1948 وغيرهم. حيث طرح بعض النقاد نفس التساؤلات. الرد على هؤلاء بسيط هو: لقد استشهد أدباء فلسطينيون آخرون، فلماذا لم يرفع الموت قيمتهم الأدبية؟!!. يقول خوان لوبيث مورياس (إن الشاعر الذي يتخذ من شعره وسيلة للدفاع عن قضية ينبغي أن يتوقع أن يكون الحكم على جهوده الشعرية، بالجودة أو الرداءة دون أن يكون لفضائل القضية أي تأثير على فضيلة الشعر بذاته). ويختم قوله هذا بالقول (أنْ يولي الناقد أهمية خاصة لظروف موت شاعر، فإنه سوف يفسد مزاياه الشعرية الأصلية).
- اعتقد جازماً أن شاعرية لوركا كانت تضعه في الصف الأول من شعراء العالم قبل ميتته المأساوية. لكن موته المأساوي ساهم في تسليط الأضواء على قصائده الرفيعة المستوى. ولم يكن لوركا حزبياً، بل كان مثقفاً مستقلاً، يتعاطف مع الشيوعيين لكنه كان جمهورياً واضحاً. يقول رفائيل إلبرتي، الذي شكّل مع لوركا ونيرودا، ثلاثياً شعرياً تجاوز حدود اللغة الإسبانية: (كنت أولاً وآخراً شاعراً أحمراً، منتظماً في صفوف الحزب الشيوعي الإسباني. كنت واحداً من أولئك الذين وجب قتلهم بلا شفقة أو رحمة. بينما كان لوركا جمهورياً فقط، إنساناً مناهضاً للفاشية، مُحباً للشعب والحزب الذي كان يقول عنه إنه حزب الفقراء).
كيف بدأت علاقتي بقصائد لوركا؟؟. لقد كانت أول قصيدة قرأتها مترجمة إلى العربية تقول:
(قرطبة وحيدة وبعيدة
مهرٌ سوداء، قمركبيرٌ، زيتون في خرجي
حتى لو عرفت الدروب كلها
لن أصل أبداً إلى قرطبة
أي، أي طريق بلا نهاية
أي، يا فرسي الشجاعة
أي، أعرف أن الموت ينتظرني
قبل أن أصل إلى قرطبة
قرطبة وحيدة وبعيدة).
وكان ذلك في عام 1962، ثم تعرّفت إلى قصيدته "أغنية شرقية" فانتبهت لقوله (الدوالي هنّ الشبق الذي انعقد صيفاً، تباركها الكنيسة / لتصنع منها نبيذاَ مقدساً). ثم قرأتُ قصيدته الشهيرة (بريسيوزا في الهواء)، وقصيدته (السيرنامه) التي جعلت الشعراء العرب يتعلقون باللون الأخضر (أخضر، أريدك أن تكون أخضر، نسيم وغصون خضراء / المراكب في البحر والحصان في الجبل / الظلّ في خصرها، تحلم في شرفتها). لكنّ صديقي وأستاذي المصري الدكتور الطاهر مكي، أخبرني لاحقاً أنّ كلمة (خضراء) تُرجمت ترجمة حرفية. وما زلت أتذكر كلامه في النصف الثاني من الستينات: (إنها استعارة معناها: المرأة الغنوج). أعتقد أن لوركا أثّر في شاعريتي على النحو التالي:
أولاً: كان جدّي شاعراً شعبياً معروفاً في زمانه (الشيخ عبدالقادر المناصرة، 1836 – 1941)، وكان عمي محمد المشهور باسم (أبو الشايب) شاعراً شعبياً، يغني في المناسبات بصوته الجميل جداً. وكانت عمتي فاطمة، شاعرة شعبية. لهذا تعلقت منذ طفولتي بالشعر الشعبي الفلسطيني والكنعاني (فلسطين وسوريا ولبنان والأردن)، ولاحقاً تعلقت بالشعر الشعبي المصري واللبناني والعراقي. كانت ثقتي بهذا الاتجاه نحو توظيف الشعر الشعبي والاستفادة من أساليبه في الشعر الحديث، ثقة غائمة، لكن قراءاتي لقصائد لوركا، أكسبتني ثقة بأهمية هذا الاتجاه.
ثانياً: تلاشى في روحي – الحاجز الأخلاقي تجاه (الشبق الزراعي نحو المرأة)، الذي كنا نقرأه ونسمعه في الأغاني الشعبية. ولا نجرؤ نحن الشعراء الحديثين على أن نصل في قصائدنا إلى مستوى الأغاني الشعبية في تعبيرها عن الشبق الزراعي، إلاّ بعد أن قرأت قصيدة لوركا، (الزوجة الخائنة)، يقول لوركا: (كان فخذاها المسحوقان تحت جسدي / يفرّان مثل سمك نهري مذعور / نصفه مشتعل، ونصفه الآخر مغمور بالصقيع).
ثالثاً: قرأت في طفولتي قصائد الشاعر الأردني الكلاسيكي (عرار) مصطفى وهبي التل، الذي توفي 1949، فأدهشني غزله بالغجريات، لكني لاحظت أنّ المثقفين الذين قرأوا هذه القصائد، كانوا ينظرون إلى هذه التجربة، عند عرار (موضوعة الغجر)، بشيء من السخرية النابعة من المنظور الشعبي لشريحة الغجر بصفتها فئة اجتماعية هامشية، قياساً على أبناء الأصول والعشائر والعائلات. لكن عندما قرأت لوركا، أدركت جماليات (موضوعة الغجر)، عشقتها وتعاطفت معهم. لقد قُتل أكثر من مليوني غجري في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، لم يذكرهم أنصار الدعاية للهولوكست اليهودي. لهذا ساعدني لوركا على محبّة الغجري، الغجريات، رمز البراءة والفطرة والبريّة. بل صادقت في صوفيا العاصمة البلغارية، شاعراً بلغارياً غجرياً هو (حسين كريم)، وقد كان بعض الغجر ينصبون خيامهم شرقي الخليل في الربيع ثم يرحلون، وكنا نراقب نحن الأطفال، هؤلاء الغجر، بل نتلصص عليهم في خيامهم، ونتأمل سلوكاتهم ونستمع إلى أغانيهم.
رابعاً: بعد أن أوغلت في قراءة التاريخ الأندلسي، والموشحات الأندلسية، وعشت في مدينة تلمسان الجزائرية (الأندلسية)، وزرت مدينة فاس المغربية (الأندلسية)، ومدينة طنجة، وعشت في تونس وقسنطينة، أدركت أعماقي الأندلسية كفلسطيني. وأصبح لوركا أقرب إلى روحي الشعرية. وكان الغناء الغرناطي في تلمسان، ووَجْدّة، يحركان مشاعري باتجاه، طفولتي مع قصائد لوركا. قال بابلو نيرودا: (لقد كان لوركا نتاجاً عربياً أندلسياً). لهذا آمنت بعروبة لوركا الإسباني الأندلسي. وتأكدت من ذلك بعد تعمقي في قراءة أعماقه العربية. هكذا أعدت قراءة لوركا (الموري الإسباني)، أثناء إقامتي في تونس والجزائر (1983 – 1991)، وربطها بقراءتي الساذجة لقصائده، عندما كنت أعيش طفولتي في فلسطين (1946 – 1964). هل كان لوركا إسبانياً أم مورياً أم موريسكياً أم عربياً؟؟. لقد أصبح السؤال مشروعاً أكثر.
خامساً: لقد صدر ديواني الأول (يا عنب الخليل – 1968) واعترف النقاد بأنه (ولد ناضجاً)، ورغم أنني كنت أبحث عن خصوصيتي لكنّ روح لوركا الشعرية، كانت ترفرف على كل مجموعاتي الشعرية، دون أن أقع في الطريقة (يكتبون قصائد لوركوية، إرضاءً لوسائل الإعلام، والمناسبات الخاصة بالشاعر لوركا)، حيث كثرة الاستشهادات من قصائد لوركا، وكثرة تكرار اسم لوركا، ليقال أنهم أحفاد لوركا. لم أقع في هذا الخطأ أبداً، مثلاً: لا أحد من النقاد، أشار إلى محاولتي (دمج الروح الإسلامية، (الخليل) مع الروح المسيحية، (بيت لحم)) في تجربتي الشعرية بتأثير لوركا.
سادساً: لا أحد من النقاد العرب اكتشف اتجاهي المبكر جداً في ديواني (يا عنب الخليل)، و(الخروج من البحر الميت)، باتجاه ما يؤكد ممارسة لوركا التي قالتها قصائده (العالمية تبدأ من الخصوصية، وليس العكس بتقليد ترجمات الشعر العالمي). نعم، لقد أدركت ذلك منذ أوائل الستينات، وبقيت أؤمن بذلك حتى الآن، رغم نوبات الشك التي تعرضت لها، بسبب هيمنة الثقافة السائدة (عولمة الشعر بالتقليد)، وقد لعبت روح الخصوصية، دوراً هاماً في قصائدي وحياتي الشخصية: لوركا جنوبي غرناطي، وأنا خليلي تلحمي جنوبي. لقد شجّعني لوركا على التعبير عمّا حولي من أماكن وبشر في (الخليل – بيت لحم – القدس) منطقة نفوذي الشعرية. كما توغلت في قراءة رموز أجدادي الكنعانيين العرب بنفس فطرية وشبقية لوركا في قراءته لموروث أجداده، العرب الإسبان.
سابعاً: لقد قتل لوركا في الحرب الأهلية في إسبانيا (1936 – 1969)، وكان من الممكن أن أُقتل في الحرب الأهلية في لبنان (1975 – 1982)، وفي جنوب لبنان، التي خُضناها ضدّ الإسرائيليين، وضد (المتأسرلين) الذين وقعوا لاحقاً (اتفاق 17 أيار) مع إسرائيل، عدوّة الشعب الفلسطيني، لكن الصدفة وحدها أنقذتنا. لقد متنا أيضاً عشرات المرات. وكنّا مثل لوركا، نطمح إلى إيصال قضية فلسطين إلى العالم. ولم أكن حزبياً تماماً، مثل لوركا. لكنني تعاطفت مع اليسار الفلسطيني، وكنت جمهورياً مثل لوركا، أي عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية (1964 – 1994). كنا مثقفين مستقلين في منظمة تؤيد الأفكار التي تؤمن بها. جئنا من أحزاب يسارية، وجاء آخرون من أحزاب إسلامية وقومية، واندمجنا معاً في (الفلسطنة) الوطنية الثورية، لكنني لم أستطع أن أكون حزبياً، مزاجي وعقلي لا يتلاءم مع العقل الحزبي لأسباب كثيرة. إذن جمعتنا الأفكار (الثورية والوطنية والعالمية) مع لوركا التي تتمحور حول تحرير الأرض من الاحتلال الدكتاتوري.
نقرأ في حوليات – خوان غويتسولو – الإسلامية ما يلي: (نتذكر جميعاً الكليشيهات والصور النمطية التي تتحدث عن الاستبداد الشرقي، والتي اجترحها مونتسكيو في كتابيه روح القوانين ورسائل فارسية، ونتذكر ما يتردد فيها من تعبيرات مثل: التعصب – الفساد – الفظاظة المتقنة – الجمود – انعدام العقلانية – العنف الدموي الأعمى... إلخ، التي تمثل جميعاً في نظر هذا المفكر بعض ثمار الدين الإسلامي، ولا أحد يفلت من هذه النظرة لا هيغل، ولا ماركس، ولا جون ستيوارت، ولا غيرهم. فالمعادلة القديمة (الإسلامي يساوي التعصب)، بدأت تخلي المجال لمعادلة (الفلسطيني يساوي الإرهابي)، رغم أن عالماً شهيراً مثل آينشتاين في رسالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، بتاريخ 24/12/1948، احتجاجاً على زيارة مناحيم بيغن إلى الولايات المتحدة، وصفه فيها على النحو التالي: (قائد منظمة إرهابية يمينية متطرفة في فلسطين، هي أقرب ما تكون إلى الأحزاب النازية والفاشية). ويرد غويتسولو على ذلك بقوله (إنّ هذا الغسل المنظم للأدمغة بالاعتماد على كليشيهات وصور نمطية معادية للعالم العربي – الإسلامي، رأساً من معاجم العصر الوسيط، وعصر النهضة والأنوار، ومهما بدت هذه الصور تافهة، إنما يشكل جزء من استراتيجية ردعية ستكون ضحيتها في الحقيقة هذه الدول نفسها). ويتعرض غويستولو لصورة العربي المغاربي لدى المستشرقين الإسبان التقليديين في القرن التاسع عشر، ثم صورة (العربي الموري) في القرن العشرين لدى الكتاب الإسبان، ويرى أن الصورة كانت دائماً تبدو مزدوجة الشخصية، الموري الجميل، والموري المتعصب، وأن الصورتين، كانتا تتبادلان مواقعهما من زمن لآخر. ويورد تصريحاً في غاية الغرابة قيل خلال الحرب الأهلية في إسبانيا: (حشود موريسكية، همجية، سكرى بالشهوات، تجتاح بلادنا، وتغتصب بناتنا ونساءنا بفظاظة. موريّون جيء بهم من الأرياف المغربية، ومن الجبال الأقل تحضّراً في منطقة الريف). هذا التصريح للأسف لزعيمة الحزب الشيوعي الإسباني الشهيرة دولوريس إيباروري (المرأة النارية). ويتساءل غويستولو، (ما الذي قامت به الجمهورية يومذاك لتحضير هؤلاء (الهمجيّين!!)، وضمان حياة معقولة لسكان القرى والضياع الجبلية؟؟. ويجيب غويستولو: لا شيء لا شيء إطلاقاً، بل إن الوفود التي بعث بها الوطنيون المغاربة إلى معسكر الجمهوريين لاقتراح انتفاضة، يصار إلى تفجيرها في الريف ضد فرانكو، مقابل وعد قاطع بضمان استقلال المغرب، قد اصطدمت بإجابات التأجيل والرفض، فالخطاب المعادي للموريين، هو نتاج تلك الصورة القديمة. فالموري (MORO)، اسم يطلق على جميع سكان الأندلس من المسلمين قبل سقوط الحكم الإسلامي – وفق كاظم جهاد – وهي مشتقةمن كلمة موريتاني. أما المورسكي (Morisco)، فيسمى بها المسلم الذي بقي في إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي. وبطبيعة الحال، هناك متغيرات هامة في الاستشراق الإسباني الجديد حول صورة العربي الموري المورسكي. وهناك اعتراف بأهمية الحضارة العربية الإسلامية.
- نقول ذلك، لنقرأ صورة الموري في قصائد لوركا الجمهوري، وهي تلك الصورة المعشوقة، حيث يتآخى العربي، والغجري، والزنجي في قصائد لوركا، باعتبارهم صورة حميمة. لقد تعرف لوركا إلى المستعرب غارثيا غوميث، حيث كان غووميث أستاذاً للعربية في جامعة غرناطة. وكان قد ظهر (شعراء جيل 98) بعد حرب كوبا التي نشبت بين إسبانيا، والولايات المتحدة عام 1898، العام الذي ولد فيه لوركا، حيث أصيب الإسبان بصدمة على إثر الهزيمة، فأخذت إسبانيا تبحث عن هويتها القومية، فظهر اتجاهان: اتجاه أوروبي، يقول بالعودة إلى هويّة إسبانيا الأوروبية، واتجاه عربي، يستند إلى عوامل ثقافية وتاريخية، ويقول بالرجوع إلى الجذور العربية الإسبانية بالاقتراب من العالم العربي، وقد مثل الاتجاه الأوروبي، الشاعر آنطونيو ماتشادو. ثم ظهر جيل لوركا المسمى (جيل شعراء السابع والعشرين)، وأبرزهم: لوركا – إلبرتي – خورخة غيين – ألونسو – دييغو، على أثر (مهرجان غونغورا)، الشاعر القرطبي الذي عاش في القرن السابع عشر. وبين (شعراء الـ98)، و(شعراء الـ27)، ثمة جسر تمثل في شاعرين هامين أثّرا في لوركا هما: خوان رامون خيمينيث وفرناندو بيالون، وفق محمود صبح. وفي الدراسة الهامة (المواضيع العربية عند لوركا) يتطرق محمود صبح إلى العوامل الذاتية التي شكلت عروبة لوركا، نلخصها على النحو التالي:
أولاً: غرناطيته: كانت غرناطة آخر معقل عربي، ظل يقاوم قرنين ونصف، حتى سقطت في عهد أبي عبدالله الصغير. لقد عشق لوركا مدينته ومعالمها العربية (قصر الحمراء – جنّات العريف – حي البيازين – باب الرملة).
ثانياً: أندلسيته: وهي منطقة جنوب إسبانيا، يقول لوركا (الأندلس شرق بلا سموم، وغرب بلا نشاط). وقد آمن لوركا بجنوبيته الأندلسية.
ثالثاً: عروبته: يقول لوركا (العربي نحمله جميعاً في ذواتنا). ويقول أيضاً (إنّ النبرة العربية ترنّ على ألسنة الناس جميعاً)، ويقول أيضاً (ما زالت في قرطبة وغرناطة ملامح وخطوط من العربية النائية).
رابعاً: تقدميته: كان لوركا ثورياً تقدمياً فقد دافع عن الموريسكيين والغجر والزنوج والطبقات الفقيرة. قال لوركا (على الشاعر أن يبكي ويبتسم مع شعبه).
خامساً: شعبيته: كان لوركا متأثراً جداً بالفلكلور والأغاني الشعبية والحكايات والأساطير. وقد درس الفلامنكو دراسة عميقة، فيها من التشابه بين أغاني الفلامنكو والأغاني العربية الأندلسية.
ثم يتقصى محمود صبح، العديد من المواضيع العربية في شعر لوركا، نقتطف منها ما يلي:
أولاً: موضوع الغناء: كان لوركا على اطلاع واسع على الأغاني العربية، يقول لوركا (في الموسيقى العربية كلها، سواءٌ أكانت رقصاً أم غناءً، أم ندباً، يختتم وصول الطرب اندفاع شديد بنداء الله، الله المؤثر، وهذا النداء قريب من (ole) في صوت مصارعة الثيران، ومن يدري فلعله الشيء نفسه). وقال أيضاً (إنّ فن الغناء العميق يحمل تشابهاً مع موسيقى المغرب والجزائر وتونس الأندلسية، المؤثرة في قلب كل غرناطي عريق، إنها موسيقى عرب غرناطة).
ثانياً: موضوع الشعر العربي: كان لوركا على معرفة واسعة بالشعر العربي القديم والأندلسي، حيث قرأ كتاب (شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية) للمستشرق الألماني أدولفودي سشاك، جمعه وترجمه إلى الإسبانية خوان باليا. وقد أصدر لوركا ديوانه الشهير (ديوان التماريت – Diva'n del Tamarit)، ويعتقد محمود صبح، أن (تمريت)، هي كلمة مركبة من كلمة (ثمر)، ومقطع (يت)، الذي يضاف في اللاتينية إلى أواخر الكلمات، وقد انتهى البحث إلى أن كلمة (تمريت)، تعني عراجين النخل أو سعف النخل أو النخيل. ومعظم عناوين قصائده تقترن بكلمة (قصيدة – Gasida) العربية، أو كلمة غزل العربية (Gacela).
ثالثاً: موضوع البلدان والمدن العربية: تكررت أسماء عربية في قصائد لوركا منها: الأرض العربية (Arabia)، والإسكندرية، ومصر، وإفريقيا، والمغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، وسدوم، وتدمر، وسوريا، ودمشق، وكهوف فلسطين، والقدس، وبيت لحم، والناصرة، وغيرها.
رابعاً: موضوع العرب: يذكر لوركا كلمة (عرب / عربي)، 11 مرة في النثر، ومرتين في المسرح. أما كلمة (مورو)، أي العربي أو المسلم، فقد ذكرت سبع مرات في النثر، وتسع مرات في الشعر. ويذكر (موريسكو) خمس مرات في النثر. ويذكر (المدجّنين بعد سقوط غرناطة) مرة واحدة في الشعر.
خامساً: موضوع الموت والقمر والقضاء والقدر: كان لوركا يؤمن ببعض الأفكار الإسلامية حول هذه المواضيع، وفق محمود صبح.
تعددت القراءات لشعر لوركا في العالم، وترجمت أشعاره إلى معظم لغات العالم، وبترجمات مختلفة، ومن الطبيعي أن تحدث الاختلافات في القراءة. وهنا نستعرض بعض الآراء حول لوركا من كتاب جمعه وحرّره مانويل دوران، وهو عبارة عن مجموعة دراسات لكتّاب متعددين، ومن مختلف الجنسيات، وقد اشتمل الكتاب على (13 دراسة). ونبدأ بدراسة مانويل دوران نفسه، حيث يقدم تصنيفاً لنتاج لوركا، ويقسمه إلى أربعة مراحل، هي:
أولاً: دواوينه الأولى إلى ما قبل (قصيدة كانته جوندو): أسلوب مقهور فيه حنين إلى الماضي بتأثير خوان رامون خيمينيث. وتشكل هذه الفترة دواوينه (ديوان شعر – 1921)، (الأغاني الأولى)، و(ديوان أغنيات) حتى عام 1921م.
ثانياً: (قصيدته كانته جوندو)، و(أغاني الغجر)، و(الأغاني): هنا يبلغ لوركا أسلوبه الخاص المبني على صهر المواضيع التقليدية الدرامية في استعارات جديدة.
ثالثاً: مرحلة ديوان (شاعر في نيويورك)، حيث يقوم الشعر الحر مقام القافية التقليدية، وتزداد الصور غموضاً بتأثير السوريالية والدادائية والتصويرية.
رابعاً: تشمل قصيدته (مرثاة مقتل مصارع الثيران)، والقصائد التي كتبها بعد عام 1930، حيث يعود إلى الأشكال التقليدية والمواضيع الأساسية.
ويعود مانويل دوران إلى طرح التساؤل: ماذا لو أن لوركا، لم يقتل على أيدي الفاشيست؟ ماذا لو عاش حياته كلها في المنفى مثل خورخة غيين، ومات ميتة هادئة غير سياسية؟. ويجيب على هذه التساؤلات بقوله: (لعلّ النتيجة هي أن قلّة من الناس خارج إسبانيا، كانوا سيسمعون به بهذه السرعة، وما كان ليبدو في نظر الغالبية العظمى من أهل الأرض، سوى شاعر إسباني آخر لا يسمع به أحد). والحقيقة التي يفترض دوران نقيضها، هي أن لوركا مات ميتة غير عادية، فما جدوى الافتراض. والمسألة الثانية، هي أن لا أحد ينكر افتراضية دور مقتل لوركا في شهرته، لكننا نفترض افتراضاً معاكساً، ماذا لو قتل شاعر إسباني عادي أثناء الحرب، هل كان سيحصل على نفس شهرة لوركا؟؟ وأجيب: طبعاً، لا، لأن القيمة الإبداعية العالمية لأشعار لوركا، كانت موجودة قبل مقتله، وجاء القتل ليكشف أهميته الشعرية، لا ليصنعها.
- وفي دراسة أخرى للشاعر الأمريكي ويليام كارلوس ويليامز، عن لوركا، يقول: (هناك مدرستان عظيمتان في الشعر الإسباني، واحدة تتكئ بكل ثقلها على الأدب العالمي، والأخرى تنبت من المنابع الإيبيرية وحدها. لوركا من شعراء المدرسة الثانية، حيث أنهم كانوا يصفونه بالشاعر الشعبي من باب الانتقاص من قيمته الشعرية). لقد اكتشف لوركا – حسب ويليامز – في الأشكال القديمة، جوهر هذا العصر: الواقعية، والعفوية، وإشراقة الصورة، تحث العقل على أن يبدأ يقظاً. أما البريطاني جون براند ترند، الذي تعرّف على لوركا سنة 1919، وكتب عنه أول مقال ينشر عن لوركا في الخارج، فقد قال: (لقد كان لوركا يفضل كمعاصريه، الوزن الثماني المقاطع ذا النبرات المتنوعة وتجانس الأصوات: بالتسجيع على الأصوات اللينة دون الساكنة بدلاً من القافية الكاملة. وما يميز لوركا عن معاصريه، هو أنه اتبع كل إيحاء أو تصور كانت الكلمة أو بيت الشعر يثيره فيه، وهذا ما أوصله إلى الشعر الغنائي والشعر الشعبي)، ويشير ترند إلى أن لوركا أمضى سنة واحدة في جامعة كولمبيا في نيويورك، وكان أقرب الشعراء إلى روحه، هو شبح الشاعر الأمريكي والت ويتمان. وكان الحي الوحيد الذي أحبه في نيويورك، هو حي الزنوج (حي هارلم). وقد صدرت الطبعة الأولى من ديوان لوركا، في المكسيك عام 1940، بعد وفاته.
أما الكاتب الفرنسي لوي بارو، فقد قاتل بأن لوركا كان مسحوراً باللون، فالرسم عنده لم يكن منفصلاً عن الشعر. لقد استخدم لوركا الألوان التالية: 1. خضرة البحر. 2. البني الخفيف. 3. الأحمر. 4. البني الداكن. 5. الوردي المخطط. 6. الأرجواني. 7. القرمزي. 8. خضرة التفاح. 9. الأبيض الوردي. 10. النرجس. 11. الوردي الصقيعي. 12. ألوان حجر الأوبال. 13. اللؤلؤ العتيق. 14. الياقوت. 15. العقيقي. 16. الظلال اللامتناهية. 17. الفضة الشاحبة. 18. الزرقة الرصاصية. 19. الرمادية القمرية. 20. المسيح الأسمر. 21. زهرة المنثور التبنية. وغيرها من الألوان. ويرى جان كامن، أن اللون الأخضر الشهير في قصائد لوركا، قد يرمز إلى عمامة النبي محمد، فهو اللون المقدس في الإسلام، ولكن نجد أن الألوان ساكنة صامتة لا تتحرك في قصيدة لوركا (مصرع مصارع الثيران). أما الأمريكي إدوين هونج E. Hong، فيقول: كان الشعراء الإسبان يتحاشون السمات القصصية في الحكاية القديمة، ويسعون إلى إعادة خلق الأسلوب الكلاسيكي للأغنية القديمة، وهذا هو إنجاز لوركا الأول في (أغاني الغجر)، فقد أعاد الأسلوب الكلاسيكي للأغنية القديمة، فوهبه نغمة جديدة تتميز بحداثتها.كما يشير هونج إلى مسألة الشبقية، فيرى أن العربي والغجري مجدولان في إدراك لوركا جدلاً معقداً، بحيث يستحيل التمييز بين الإثارة الجنسية الرمزية المدروسة أكثر عند العاشق العربي، والإثارة الجنسية التي تنبعث كقوة دنيوية تطهر الغجري. ويؤكد هونج أن قصائد (ديوان التماريت)، قصائد ذات رقة تصويرية، تماثل أسلوب الغزل والقصيدة، وهما من أشكال الشعر العربي الرئيسية للتعبير عن الحب.
صدرت عدة ترجمات لقصائد لوركا على هيئة مختارات. لهذا تكررت ترجمات عدة لقصيدة واحدة من قبل عدة مترجمين عرباً، بعضهم ترجم مباشرة عن الإسبانية، وبعضهم ترجم عن الفرنسية، أو الإنجليزية، وقد حاولت في أول الثمانينات ترجمة (ديوان التماريت) عن البلغارية، إلا أن حماسي توقف، لأنني كنت سأكرر الترجمات الأخرى، رغم عدم قبولي ببعض الترجمات. كما تُرجمت مسرحيات لوركا، ومثلت على مسارح الوطن العربي أولها مسارح مصر، ولن تكون مسارح فلسطين آخرها. ومما لا شك فيه أن أثر لوركا في الشعر العربي الحديث كان واضحاً في قصائد الشعراء العرب. لكننا نقصد هنا (التأثير الإيجابي الفعّال)، الذي يجعل الشاعر العربي موازياً لقصائد لوركا، وليس التأثير السالب الذي يستشهد بلوركا أو بعنوان قصيدته بأسماء لوركوية. وقد انحصر تأثير لوركا الفعّال في تمهيده الطريق لنا في فهم العلاقة مع (الثورية التقدمية)، و(إعادة قراءة الموروث)، بطريقة جديدة، و(خلق استعارات مفاجئة)، و(قراءة تجليات الطبيعة)، و(منح الشعبي أهمية قصوى)، والأهم من ذلك عندي (الانطلاق من الخصوصية نحو العالم)، يرافق ذلك الاهتمام الغنائي ببعض التفريعات مثل: الاهتمام بالألوان المتوهجة والخفيفة والوسطى، حيث تعلمنا من لوركا إعادة توزيع الألوان إلى درجات، بدلاً من التقسيم التقليدي للألوان الذي صاغه الرسامون، ففي الكلام يمكن للأشياء أن تأخذ ألواناً مفاجئة، كذلك الاهتمام بالموسيقى الشعبية، حيث استفاد الشعر العربي الحديث من خاصية التكرار الإيقاعي في الأغاني الشعبية، ثم جاءت الحالة الأندلسية العربية الجديدة، منذ أول التسعينات من القرن العشرين، لتعيد الاعتبار لقصائد لوركا الأندلسية الفلسطينية، بتأثير الإعلان العالمي عن ذكرى فتح أمريكا، وسقوط الأندلس، حيث ظهرت قصائد وروايات عربية حديثة، تتناول موضوع الأندلس. أما وصف بعض قصائد لوركا بأنها تجمع بين (الشبق العربي الموري والغجري والزنجي)، وبالتالي بخاصية العنف، فأعتقد أن النقاد لم يفرقوا بين (التوهج الروحي للجسد) وبين الشبق الجنسي، المسألة بتقديري تتعلق بتوهج العربي الحار في علاقته العاطفية بالمرأة مقارنة مع البرودة الجنسية الأوروبية الأمريكية. وهناك فارق بين (التوهج الفطري)، أي الحرارة المصاحبة للعواطف، وبين (العنف)، ففي قصيدة (الزوجة الخائنة)، تذهب الزوجة مع العاشق الغجري، بموافقتها وليس اغتصاباً. وهكذا، فإن النقاد في أوروبا وأمريكا حين تحدثوا عن (الشبق الجنسي) في قصائد لوركا، كانوا يريدون تحويل الفطري عن فطرته الأندلسية العربية والغجرية (الطبيعة النقية) إلى محاولة صناعية لأوربة لوركا، تماماً كما فعلوا مع ديوان (شاعر في نيويورك)، حين حاولوا أمركة لورما اللاتيني العربي، الأندلسي الإسباني، بعقد مقارنات بين (شاعر في نيويورك)، وقصيدة إليوت (الأرض الخراب)، أو بتضخيم أثر والت ويتمان في قصائد (شاعر في نيويورك)، لمجرد إعلان لوركا عن محبته في إحدى قصائده لوالت ويتمان. لقد كان لوركا نتاجاً أندلسياً – عربياً، كما عبّر بابلو نيرودا، لكنه كان منفتحاً على الأساليب الأورو – أمريكية، كالسوريالية والتصويرية من حيث اهتمامه برسم الصور المنفصلة (الصور الأشيائية) عن الذات، رغم أن الذات متصلة اتصالاً حميماً مع الأشياء. والأهم من ذلك أن هذه الصور التجسيدية حارة ومتوهجة، وليست صوراً باردة كما في بعض الشعر السوريالي الأوروبي. لقد تعلمنا من لوركا كيف نتفاعل مع الموروث، دون أن نقع في ما أسمّيه (الفلكرَة)!! ودون أن نقع في (الحداثة الصناعية)، لأن الاتجاهين يقودان إلى التقليد. لقد كان لوركا زعيم تيار (المنظور الثالث)، أي رفض (عولمة الشعر التقليدي)، ورفض (فلكرة الجوهر الشعري).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق