( رواية لدنى طالب . دار المدى للثقافة والنشر . دمشق . الطبعة الأولى 2000 ) .
ما هي أهمية اسم ( سعد ) في مجرى أحداث الرواية ؟
مقدمة -
قسمت الروائية دنى طالب غالي روايتها الى ثلاثة أجزاء غطت أحداث فترة ما قبل غزو العراق لجارته الكويت , وفترة الغزو ثم ما جرى في العراق من حوادث بعيد أنسحاب العراق من الكويت وأنتفاضة الأول من آذار عام 1991 .
لقد أتبعت الروائية في سرد وملاحقة وتصوير وتحليل شخوص الرواية وأحداثها الدرامية أسلوبا مستحدثا خاصا بها , فلقد اعتمدت ثنائية آدم - حواء . غطت هذه الثنائية ثلاثة أزواج من البشر جمعتهم ظروف واحدة ومكان عمل واحد بل ومحنة واحدة . الأزواج الثلاثة هم :
فلاح - وفاء
هيام - سالم
خالد - بشرى
فلاح وسالم وخالد كانوا أساتذة في جامعة البصرة . تزوجوا جميعا في مدينة البصرة . بشرى ( من مدينة الحلة ) تزوجت من أستاذها خالد . فما هو المشترك بين هؤلاء جميعا؟
تبدأ الرواية بخيانة الأستاذ الدكتور فلاح لزوجته وفاء مع احدى معيدات الجامعة . لكن , ويا للسخرية , أن التي تحمل اسم وفاء هذه تخون زوجها خلال فترة دراسته في جامعة مانجستر البريطانية . تخونه مع أحد أقربائه المقيمين في هذه المدينة . وهل جزاء الأساءة الا الأساءة !! الغريب أن فلاح وزوجه وفاء هما الوحيدان اللذان ينجوان بترك العراق عن طريق الأردن هربا من الجحيم . فما كان مصير الآخرين خلال وما بعد الأنتفاضة ؟ قتلت بشرى وفقدت هيام نصف عقلها .
ما الذي يميز دنى طالب غالي كروائية وبم يمتاز أسلوبها في القص الروائي ؟
1- أكبر مزايا دنى قدرتها الفائقة على أختراق نفوس أبطال روايتها والمحيطين بهم ثم قدرتها غير المسبوقة على محاورة هؤلاء الأشخاص رجالا ونساء على حد سواء . تستطيع أن تغور الى أعمق أعماق النفس البشرية لتلتقط أدق النأمات وأكثرها غموضا ثم تخرج بها الى السطح لتكشف أسرار النفس بأسلوب شعري - سوريالي - متسربل بأزهى الألوان حتى ليخيل لي أن دنى فنانة في فن الرسم وفن مزج الزيوت الملونة . انها تغيب في أغلب الأحيان وهي تدرس وتحلل كطبيب نفساني أشخاص الرواية . أجل تغيب غيبوبة أئمة المتصوفة , وتلكم ظاهرة لها ما يبررها : الحلول في نفوس أبطال قصتها لأستجلاء الغامض فيهم ومساعدتهم على فهم نفوسهم بشكل أفضل . سأضرب أمثلة على قدرة المؤلفة على توظيف اللون أو رسم الصور الأدبية بالشكل السوريالي الآخاذ :
( ... أطياف ساحرة قد يتوضح تدرج ألوانها أو يمتزج . وقد يمسك بنهاية متراقصة حارة لبقعة حمراء أو صفراء , وقد تنطبع نهاية باردة باللون البنفسجي المغموس بالأزرق على يده الصغيرة فيشعر بدغدغة لذيذة . الصفحة 164 ) .
( ما بهت هو اللون . كانت مخيلته في الطفولة تمتص الألوان . الألوان كانت مفتاح الذاكرة لديه وما زالت . الصفحة 165 ) .
( ... لم يتردد بلبس البرتقالي الصارخ , البنفسجي . كان يقول لها بأن الألوان تكشف عن خفايا النفس ونوازعها . أنتقاء اللون محرك ومؤشر للدواخل . الصفحة 183 ) .
( الضوء الأبيض ينكسر لدى مروره بوسط يختلف كثافة . يعطي الأحمر, البرتقالي , الأزرق ... الصفحة 270 ) .
2- فلسفة الجسد : مع ولع دنى طالب باللون وتوظيف دلالاته المختلفة , برعت كذلك بقدرتها على محاورة الجسد بأرفع مستويات فن المحاورة . اذا ما افترضت أن دنى رسامة أو لعلها كأبيها عازفة على أحدى الآلات الموسيقية , فما سر شغفها وما سر قدرتها العجيبة على مخاطبة الجسد حتى لكأنه الآمر الناهي ومقرر الكثير من الأمور ولاعب الخطير من الأدوار . لأضرب بعض الأمثلة :
( ... لم يزر يوما طبيببا ويأخذ بنصيحة ما وقائية تاركا الأمر دوما لجسده , مقدار ما يتحمله , والوقت الذي يحدده , ليقف فيه آنذاك عاجزا أو ميتا . الصفحة 162 ) .
( لكن الدموع سرعان ما جفت , اذ أفزعتها القنابل . يوم آخر يجب أن ينقضي . يمكن للخوف أن يبلع , يمضغ , أن يوزع على أجزاء هذا الجسد فيتبدد . الصفحة 190 ) .
( أود أختبار قوتي . سأغلب قوة شد هذا الجسد الضئيل أمامي . ألامه شديدة تكاد أن تقوس ظهري . الصفحة 198 ) .
( ... تجلس لصقي لتشاركني كأسي ... يبوح جسدها حينها , يفجر كل أحاسيسي بدنوها , وهي تحضنني تحرص على أن تكون أخرى , تدخلني عالما متخيلا ... أرى فيها غير زوجتي . الصفحة 228 ) .
3- المنطق الفلسفي العميق : في حواراتها اللذيذة يحلو لدنى أن تناقش أفكارا فلسفية جادة يصعب فهم الكثير منها , خاصة اذا ما أختلطت الفلسفة باللون وبالجسد وبطب التحليل النفساني . أمثلة :
( لديه القدرة على عزل نفسه ان شاء . وكأن غشاء يلف بوعي روحه , يبطنها ويعزلها , يزداد سمكا كلما وصله أيعاز بالخطر. الأختلاف والتعارض يصبح ممكنا. والحياة بتلك المستويات المتباينة من الراحة والسعادة والرضا , تفرض اتّباع ميكانيكية ما . أكل ما نتكبده ما هوالا وقاية للروح من السحق والتخريب ؟ الصفحة 168 ) .
(... فمنذ أن عدت وأنا أحافظ على ابقاء ذينك المستويين من تفكيري بحالة توازن, قدر المستطاع, الذي يقال والذي لا يقال. لكن الذي أود قوله هنا حجة تسكن أعماقي ويعز علي أيضا قولها... كيف للأنسان أن يقيم ( الأصح يقوم ) من دون أن تكتمل دورة حياته؟ ولعلي قلتها في أحدى نوبات سكري . الصفحة 169 ) .
أما قولها ( ... أم أنه قدري بأن أرى ما حولي مهتزا أبدا... أنظر في صفحة الماء , تهددني الأمواج دوما . الصفحة 186 ) , فيذكرني بقصة نرسيس وقول العرافة لأمه أنه سوف يعمر طويلا اذا ما لم يهتم بنفسه , وحين رأى صورته على سطح الماء هام حبا بها. أي أن الماء سيكون سببا مباشرا يهدد نرسيس بقصر عمره . الماء يهدد نرسيس لا أمواج الماء . ثم :
( ... افتقدته وودت بشدة لو تتنفس وجوده الكثيف في الظلمة . الصفحة 186 ) .
ثمة مثال آخر على روعة الحوار مع الذات الراغبة لإمرأة " وفاء , زوجة فلاح " تعاني شيئا من الصراع الداخلي قبيل قرارها أن تمارس الجنس " في مانجستر / بريطانيا " مع صديق وقريب زوجها عادل :
( إنتصبت في وقوفها أمامه. ميزت رائحة جسده التي تظنها تعود الى استعماله لصابون الأطفال . ... لأعدل من كل هذه الخطوط التي لويتها في داخلي . يهدر أحساسي به حتى يكاد يفقدني وعيي . جزأت النفس الواحد بتقطع الى دفعات ... ربما كان ذلك ألم الإستقامة ... وأنصفق الباب ... على استقامتي . الصفحة 199 ) . وعلى الصفحة 203 قالت وفاء ( ... أكدت لنفسي بأن أختياري حر, فكان أن استكان جسدي أخيرا وأرتخيت بألتصاقي به وخفت رجفتي ) .
لقد وظفت دنى المجاز هنا بأروع أشكاله . لم تقل عقد الشرق وما يقع على المرأة فيه من عسف وظلم . بل قالت " لأعدل الخطوط التي لويتها في داخلي " . ثم زادت في توضيح تصميم وفاء على تنفيذ قرارها بشكل نهائي لا رجعة فيه فقالت وبدون أي تردد " وأنصفق الباب ... على أستقامتي ". فقرار وفاء نفذته وفاء بأصرار وتحت نور الشمس. لا ندم ولا تأنيب ضمير ولا حياء من عرف أو تقليد , " على أستقامتي " .
لم تلمْ دنى صديقتها وفاء على ما فعلت , خيانتها لزوجها. لكنها لم تبرر هذه الخيانة ولم تقف علنا في صفها . سوى أن الروائية كانت منذ البداية قد مهدت الأرضية والجو والمناخ وأعدت ذهن القاريء أن يتوقع وأن يتقبل مثل هذه الخيانة الزوجية ما دام الزوج " فلاح في هذه الحالة" كان قد خان زوجه مرتين : مرة مع أحدى طالباته والأخرى مع بعض معيدات جامعة البصرة . على أية حال, ففي موقف دنى من وفاء دفاع عن حقوق بنات جنسها , وهذا حق من حقوقها المشروعة , فالدفاع عن النوع والجنس دفاع عن النفس .
الغرب يتقبل كما هو معلوم مبدأ " المقابلة بالمثل " , أي خيانة بخيانة " العين بالعين والسن بالسن " . لكن هذا الأمر غير مقبول لا في الشرق ولا في العراق على حد علمي . على أن في موقف الروائية من هذا الأمر تحذيرا لجميع الرجال وإنذارا هاديء اللهجة لكنه بليغ في بيانه وواضح في مراميه . أيها الرجال : لا تخونوا أزواجكم !! فثمة " عادل " يقف على الدوام متأهبا على أبواب بيوتكم .
لا أدري كيف تسنى لدنى طالب غالي أن تحيط بدقائق حياة أسر بعض أساتذة جامعة البصرة وبعض طلبة البعثات في مدينة مانجستر البريطانية . لقد كان وصفها لأدق دقائق حياة هؤلاء مبعث الحيرة والدهشة والعجب . فهل كانت زوجا لأحد هؤلاء رافقته في بعثته الى مانجستر ؟ أكاد أقول نعم.
ثمة أمر آخر يسترعي أنتباه قاريء رواية " النقطة الأبعد " هو متابعتها التفصيلية الدقيقة لواحد من أخطر الأحداث التي عصفت بالعراق عامة وبالبصرة خاصة وأكثرها تعقيدا . أعني أنتفاضة الأول من شهر آذار عام 1991 إثرَ هزيمة وانسحاب الجيش العراقي من الكويت . لقد تابعت دنى هذه الأحداث من خلال قراءة ردود أفعالها على حيوات قطاعات واسعة من أهل البصرة لا أساتذة الجامعة وأسرهم حسبُ . وبلغت قمة المأساة حين تابعت مصير صديقتها " هيام " و"صالح " جار هيام المختفي فرارا من الخدمة العسكرية .هيام أصابت رأسها شظية قنبلة مجهولة المصدر. وصالح سقط قتيلا برصاص رجال الإنتفاضة في سعيهما للعثور على أم هيام . أية أقدار عمياء !! كالمستجير من الرمضاء بالنار . يفر صالح من موت غير أكيد فيواجه موتا أكيدا. لعبة الحياة الساخرة والماكرة معا . الحرب .
وماذا بعد ؟
لقد حققت الروائية دنى طالب غالي أعلى درجات النجاح في متابعتها ورصدها للوضع العام في بلدها العراق وفي مدينتها البصرة بشكل خاص خلال الفترة القصيرة السابقة على غزو الكويت حتى الإنقضاض على انتفاضة آذار1991 . إستطاعت أن ترسم لوحات مؤثرة على وضع الناس المعيشي وحال التعليم الجامعي وأساتذة الجامعات العراقية . ( غلبت مهمات الحزب على مهمات الجامعة . الصفحة 23 ) . وعن الدكتور فلاح
( ... مركز الوقاية الصحية ومختبر قسم الكيمياء قد نصبا كمينا له عندما عهد اليه بتولي مهمة تحليل الماء في البصرة ... وبالفعل قضى فترة لا بأس بها حينذاك . لكنه صدم حين علم بأن النتائج التي أرسلها والتي كانت تشير الى نسبة الخردل في الماء لم تناسب المسؤلين, مما جعلهم يستدعونه للتحقيق ... الصفحة 25 ) . وعن الدكتور سالم ( ... لو كان قد حصل على مكان مناسب هناك لما عاد بالمرة الى العراق . الصفحة 74 ) . وعن نفس الدكتور سالم ( وظيفة التدريس في الجامعة لم تكن ترضي طموحه . شروط التعليم تدهورت أكثر مما تصور . المدرس مجرد موظف في الدولة . الصفحة 75 ) .
وعلى لسان الطبيب الدكتور سامي ( ... دعونا يا جماعة نسكر . دعونا من السياسة هذه الليلة . ثم يا أخي هل رأيت نظاما عربيا يتخلى عن برنامجه السياسي من أجل إبداعك أو خدمتك أو بناء مجتمعك . الصفحة 81 ) . ثم ( ... هو عيب حكوماتنا التي تعيدنا كل يوم خطوة الى الوراء . الصفحة 127 ) . ومثل هذا كثير .
أمر آخر يسترعي أنتباه قاريء رواية " النقطة الأبعد " . ذاك أن الست دنى طالب درجت في قصها وسردها على إلتزام جانب الحياد التام . أجلْ , تكلمت في الغالب بلسانها كراوية , وتكلمت كذلك بلسان أبطال الرواية , لكنها لم تدع القاريء يستشف حقيقة موقفها السياسي خاصة من الأحداث . عرضت الأحداث بتجرد وأمانة . عرضت آراء من هم مع حكومة العراق ومن هم في عداد معارضيها . كشفت عن زيف ولاء البعض للسلطة القائمة وانتهازية البعض الآخر . كما بينت وجهة نظر البعض في إنتفاضة آذار من المعارضين والمؤيدين . لقد مشت على الصراط المستقيم بوعي خاص وإدراك عال لمسؤولية الكاتب وأمانة قلمه في متابعة الأحداث ورسم الصور المتحركة .
الآن , ماذا عن أهمية الإسم " سعد " ؟؟ نجد الجواب في متن الرواية :
( ... ولِمَ ساحة سعد ؟ الناس ما زالت تطلق عليها هذا الأسم , لأن سعد بن أبي وقاص كان هنا وسيفه قبل أن يرفع من مكانه في الوسط ويستبدل بنصب الفارس العربي . الصفحة 60 ) ... ومعلوم من هو هذا الفارس العربي !!
ثم ( ... أين تسكنون ؟ دور الأساتذة عند ساحة سعد بالضبط , بالقرب من كراج بغداد . الصفحة 122 ) .
ثم ( ... لم تتذكر إنْ كان أساس خلافهما المباشر هو الكومبيوتر الذي اشترته من سيارة كانت تركن على جانب من الشارع العام عند ساحة سعد . الصفحة 133 ) .
ثم ( ... إنسحب الجيش وإثنان من أولاد بيت أبي محمد وصلا الفجر من صفوان الى ساحة سعد مشياً على الأقدام , حالتهم تدمي القلب . الصفحة 216 ) . ( اللي عنده جندي , عسكري يطلع على طريق صفوان يفتش عنه. لم تستطع هيام تحمل كل تلك الأخبار . بقيت خارجا مع حياة . الأمهات في الشوارع يواسين بعضهن البعض . ومنهن من لفت عباءتها حولها وركضت تجاه ساحة سعد . الصفحة 217 ) .
ثم يأتي على الصفحة 286 مسك الختام والرمز العميق القابع خلف اسم سعد وساحة سعد ( ... الخراب على حاله , لم يزده خرابا . ساحة سعد , إشارتها الفارقة بين الداخل والخارج عندما كانت طفلة . الوصول الى هذه النقطة كان يعني إستقلال سيارة من كراج بغداد والسفر بعيدا . النقطة الأبعد ساحة سعد . هي العودة والوصول . عين ترسل أشعة متفاوتة الأطوال , أشعة خطرة , شعاع يضيق بأتجاه صفوان , وآخر يلتف كأفعى الى الفاو , وأقصر منه يتسع ويتفرع الى مركز المدينة , والأطول يمضي بأتجاه بغداد) .
سعد , سعد بن أبي وقاص البطل فاتح العراق , يُرفع نصبُ تمثاله من وسط الساحة التي تحمل اسمه , ثم تصبح ساحة سعد مركزا لتجمع الفارين من جحيم حرب تحرير الكويت, أي عنوانا لهزيمة نظام وسياسة ومقبرة لشموخ العراق وعزة العراقيين .
لقد جمعت دنى رؤوس المتناقضات بشكل رمزي بالغ القوة والدلالة .
كلمة أخيرة . وقعت أخطاء نحوية بسيطة لا أهمية لها سوى أن دنى تصرفت ب ( كلتا ) فكسرتها بحرف الجر الباء وكتبتها ( بكلتي ) الأمر الذي لا سابقة له في قواعد اللغة العربية . لقد كررت هذا الخطأ مرتين أو ثلاث فقط . نسامحك يا دنى , أجل نسامحك فلقد كنت رائعة ومقتدرة من فنّكِ الروائي الممتاز . وكنت غاية في الموضوعية وعالية الكفاءة في إبعاد نفسك ومعتقداتك وميولك عن شخوص الرواية ووضعهم وميولهم وأمزجتهم . أهنئك وأهنيء المثقفين العراقيين كافة , رجالا ونساء . كنت شجاعة وأنت القادمة من بصرة جنوب العراق فلم تهابي ولم تترددي ولم تضعي على وجهك حجاب المرأة الشرقية وأنت تتصدين لأعقد الموضوعات وأكثرها حساسية وإثارة للجدل . لا أطيل , سأترك الرواية بين أيدي القراء كي يحكموا هم أنفسهم على ما فيها وعلى ما قد قلت فيها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق