وأماه/ يسرية سلامة

وأماه لبت ربًا  دعاها
قلبي أبدًا لن ينساها
أمي
اشتقت لوجهك الصبوح
لو سُألت عن أحلى العيون
والله لا ريب عيونك
أمي
كانت في بيتنا شمساً لا تغيب
غربت الشمس
واليوم لاجمال في الغروب
أمي:
لن أسمع فقهاء الظلام
أقف الآن
 بين الصبار والنخيل 
فلا مكان للجلوس
تجولت بناظري كلهم راقدون
يتكلمون
كلامهم السكوت
هل بإمكاني البقاء؟
غاصت عيني في لوحة مكتوبة
وكأني أول مرة أقرأ اسمك
وتاريخ الفراق
لا تسأليني عن السنين
فقد توقف بي الزمان
وبخطى متثاقلة مشيت
فأنا انتمي لعالم آخر
رحلتي
حيث النور لايحجبه نور
وآخر ما تبقى هو الاشتياق
ما اكنت أرغب في الرحيل
لكن ليس لي فيه اختيار
يا عزرائيل:
أترفقت بروح أمي؟
أم أفزعتها؟
أيا عزرائيل:
أنت من الملائكة المُقربين
أكنت بها رحيم؟
أعلم أنه أمر ربي
لكنه أمر عظيم
خفتت الأصوات
وحان وقت اللقاء
فراق يقتل الكلمات
نقلت روحها من
دنيا الجوع والعطش
الظلم والتعب
يتظاهر الكل بالزهد فيها
إلى رحمة البر الصمد
لقاء فاصل:
بين الحق والباطل
وهو الظاهر الباطن
في نهاية الحياة
 صمت رهيب
إنه الموت:
وكأن هذه المعلومة لا تكفيني
أريد أن اعرف المزيد
انشغل بشئ آخر
ثم أعاود الانتظار
أمي :
خارج سيرة الموت 
ماذا تفعلين؟
كيف يكون صباحك؟ مساءك؟
أم هما سواء في القبور؟
كيف يمضي الوقت معك
أتستيقظين؟ أم لا تنامين؟
اأنتهت آلام المرض؟
أم لازلت تتألمين؟
أتتزاورين؟
أأطمع في زيارة منك أو لك
المهم أن
أكون لوجهك من الناظرين
لكن القلب عليل
أشخص للسماء إنه رب رحيم
موتك عرّى الحياة
وكشف عورات السنين
توشحت بالسواد
 وبكيت عمرًا طويل
حلت المسوخ ترتدي ثوب المحبين
أرواح الزور الزائفيين
ورحت أشكو الظالمين
وجدتهم
في الصفوف الأولى لله ساجدين
أمي:
دارت رحى الأيام
وانقضى العمر
بآذان بين اليسار واليمين
يمضى القطار وكلنا راحلين
أمي
 كنت في بطنها جنين
الحبل يربطنا إلى يوم الدين
يارب:
ثبتها عند سؤال منكر ونكير
إقبل عُذرها فأنت أرحم الراحمين
ربي: من يواري أمه فهو اليتيم

انكسرت على شفتاي  ذكرى السنين
يوم تطوفنا بالبيت العتيق
وآخر ضحكنا في سمر الحديث
ويومًا بكينا فراق لقلبينا حبيب
ودعوة قلب لها في قلبي رنيم

بعد أن رتبت في الدنيا الإقامة
تذكرت:
 أنني على قائمة الانتظار
أرسل الماضي إلي بجيوشه
صور كل الأحباب
أبي بجلبابه الأبيض
يقرأ في مصحفه
صورالجار العم والخال
نعم
عشنا زمنًا طويلا فظننا
أنه لا فراق على الإطلاق
تفاجأنا برسائل عزرائيل
استقبلنا الموت
 تدريجيًا مستسلمين
وابتلعت الأرض
 أعز الأحباب مجبرين

على أية حال بعد تلقى العزاء
سيكون لي كلام آخر معى
في الليل الأسود الطويل
ربي ارحمهما
كما ربياني صغيرا
يارب هم في رحابك الآن
وانت أرحم الراحمين
إنك على ما تشاء قدير
وبالإجابة جدير
أنت
نعم المولى ونعم النصير
**
تحليل قصيدة  "و أماه " للشاعرة يسرية سلامة
        تندرج القصيدة الماثلة أمامنا قيد تحليلها والموسومة بعنوان " وأماه" ضمن شعر التفعلة عموما وتكسير البنية على وجه الخصوص الذي ظهر كخطاب تمردي على التيار الذاتي الرومانسي وتجاوز قيوده الإيقاعية ، حيث تحرر الشاعر الحداثي في تفعلة  وأرواء وقوافي قصيدته وجدد في مضامينها بسبب عاملين تارخيين : انهزام  العالم العربي سنة 1967 بالاضافة إلى نكبة فلسطين سنة 1948. إن لخطاب الشعر الحر ثلة من الشعراء الحداثيين الذين أسهموا في تبلوره وتطوره من خلال أعمالهم الشعرية ، كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأحمد عبدالمعطي حجازي وفدوى طوقان  ومحمود درويش ونزار قباني ويسرية سلامة صاحبة القصيدة قيد التحليل وهي شاعرة مصرية لها مجموعة من القصائد الأخرى. إذن ما مضامين مقاطع قصيدتها؟ وما خصائصها البنائية والفنية؟ وإلى أي حد استطاعت الشاعرة أن تمثل قصيدتها للخصائص الفنية للقصيدة الحداثية؟.
       بانتقالنا إلى قراءة النص والبحث في معاني ودلالات مقاطع قصيدتها ، نجد أن الشاعرة تنادي وتناجي أمها التي طواها الدهر ورمى بها الزمان إلى ثرى قبرها وردى عمرها. فشاعرتنا راضية بقضاء الله وقدره ومؤمنة بسنة الرحيل ومغادرة دار الفناء إلى منزل اللقاء والبقاء لكن آلامها وجراحها ومعاناتها سكنت فؤاذها منذ اعلان مغادرة روح والدتها، كما ختمت قصيدتها بمناداة ملك الموت تسأله أسئلة استنكارية عن حال أمها في مرقدها.
     إذا انتقلنا إلى تشريح النص وتفكيك ألفاظه ومعانيه نجد أن الشاعرة يسرى سلامة استقت ألفاظها من حقلين دلاليين الأول دال على الشاعرة وتمثله الألفاظ الآتية: قلبي- أمي – لن أسمع – أقف الآن – تجولت – عيني – أقرأ اسمك – لا تسأليني – مشيت ... إلى جانب الحقل الثاني المتجلي في الأم وتمثله الألفاظ والعبارات الآتية: أمي – أماه – وجهك – عيونك – شمسك – بها رحيم – يمض الوقت معك – تتألمين – ثبتها... إن الحقل المهيمن في النص هو الدال على الأم التي خلفت فراغا كبيرا في فؤاذ الشاعرة وتركت جروحا غائرة لن تشفى إلا بالدعاء لها، أما العلاقة بين الحقلين فهي علاقة ترابط وتكامل وانسجام لأن الشاعرة كانت متشبثة بأمها ومرتبطة بها في كل لحظة وحين.
إن الشاعرة وظفت في قصيدتها جملة من الخصائص الفنية والمتجلية في الصور الشعرية المتمثلة في الاستعارة الموجودة في السطر الرابع " اشتقت لوجهك الصبوح" فالشاعرة شبهت وجه أمها المحذوف بمستعار منه مذكور وهو الصبح الدال على الضياء والنور والتجديد على سبيل الاستعارة التصريحية لأنها صرحت بلفظ المشبه به وحذفت المشبه وهي الام كما وظفت الاستعارة المكنية المتمثلة في قولها "غربت الشمس" فهنا حذفت المشبه وهي الأم ولم تصرح بلفظ المشبه به وإنما بلازم من لوازم المشبه به وهي الغروب، كناية على الكآبة والحزن والآسى والقلق والتوتر الذي لحق منزل الشاعرة جراء موت أمها. كما أنها استعانت في التعبير عن فراقها لأمها عن طريق توظبفها للعديد من الرموز كالقطار الدال على السرعة وعلى نقل المسافرين الذي رحل أمها بسرعة البرق كما وظفت رمز اليتيم الدال على القهر والفراق والبعد كما وظفت اللون الأبيض الدال على الصفاء والنقاء والطهر  الذي تمثله أمها من خلال مكانتها الاجتماعية ومن خلال حبها للناس جميعا.
لقد وظفت الشاعرة يسرى سلامة في قصيدتها بنية إيقاعية خارجية متجسدة في بحر المتدارك ونمثل له بتقطيع السطر الأول " وأماه لبت ربا دعاها" ففي تقطيعه العروضي نجد - - o-o- -o  -   o فنحصل على فعولن فعولن وهو من البحور الذي تنسج عليها القصائد الحرة بالاضافة إلى اعتمادها على روي متنوع كالهاء في السطر الأول والياء في الثالث  والحاء في الرابع وهي الخصائص الإيقاعية التي تميز القصيدة الحرة. أما إيقاعها الداخلي فتميز بتكرار مجموعة من الحروف كحرف الباء والهاء في السطر الأول وحرف الباء والنون في السطر الثاني وحرف التاء والواو في السطر الرابع، كما وظفت تكرار الكلمات وتتجلى في أمي – عيونك – الشمس – تغيب – إلى جانب توظيفها لتكرار العبارات ونمثل لها ب يا عزرائيل إذن فتوظيفها لتكرار الحروف والألفتط والعبارات دلالة على تأكيدها على جراح فراق أمها ومعاناة بعدها عنها والفراغ الذي خلفه رحيلها من البيت.
إن شاعرتنا زاوجت في قصيدتها بين الأسلوب الخبري الذي هيمن على مقاطع  القصيدة ونمثل له بقولها قلبي أبدا – اشتقت لوجهك – يمضي القطار كما وظفت الأسلوب الانشائي الطلبي وغير الطلبي  ماذا تفعلين؟ أم هما سواء في القبور؟ كما جمعت بين ضمير المتكلم والمخاطب والغائب بحديثها عن الماضي والحاضر والمستقبل.
   وخلاصة القول إن قصيدة يسرية سلامة قصيدة تنتمي شكلا ومضمونا إلى قصائد الشعر الحر حيث عبرت عن معاناتها من خلال فراق أمها وتغير حالها وواقعها بسبب غياب نبضة قلبها كما وظفت حقلين  دلاليين الأول دال على الشاعرة والثاني على أمها بالاظافة إلى اعتمادها على المزج بين الاستعارة التصريحية والمكنية وبينها وبين التشبيه كما وظفت بنية إيقاعية خارجية  تمثلت في بحر المتدارك وتنوع قوافي وأرواء القصيدة ناهيك على اشتمالها على التكرار والطباق والترادف علاوة على الرموز والأساطير مما جعل القصيدة تصنف ضمن القصائد الحرة الرائعة.
عبداللطيف عبدو من المغرب 
حللت القصيدة يوم الثلاثاء 29 مايو 2018  
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق