مند تأسيسها، ساهمت الصحافة الفلسطينية والصحافيون الفلسطينيون في تطوير الحركة الصحافية العربية وإنضاج تجربتها، كما ساهم الأدب الفلسطيني والأدباء الفلسطينيون كذلك بفعالية في إغناء الحياة الثقافية العربية وجعلها أكثر إبداعاً وجمالاً.
وكان لبواكير الأعمال في فن القصة مثل أعمال الأدباء الفلسطينيين غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، وأيضاً إبراهيم نصر الله، كان لها دور طليعي في رفد الأدب العربي بأعمال مهمة لعبت دوراً في تبلور وتطور فن القصة العربي، بل إن الأدب الفلسطيني أظهر قدرة على معالجات متميزة ومتفردة عربياً، مثل رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” للأديب إميل حبيبي.
وبالرغم من أن الشعر هو نوع الأدب الذي يفيض به النشاط الثقافي الفلسطيني أكثر من غيره من الأصناف الأدبية، وهو أمر يتميز فيه الفلسطينيون في سياق الحركة المتطورة في الأدب العربي، إلا أن المتابع للإنتاج الأدبي الفلسطيني يلاحظ تطور هذا الأدب في الرواية والقصة والنقد كما هو حال الشعر.
ومما لا شك فيه أن النكبات المتتالية التي عانى منها الشعب الفلسطيني، كان لها الأثر الواضح في مجمل الأعمال الأدبية وخاصة في مجال الشعر، الذي صوّر معاناة الفلسطينيين، وعبّر عن الذاكرة الشخصية والجماعية التي تضمنت كافة المنعطفات السياسية والاجتماعية التي تعرضوا لها، منذ نهاية القرن التاسع عشر.
كل هذا الوجع الفلسطيني شكل مادة دسمة للأدب الفلسطيني الذي تميز بكونه أدباً يحض على الشجاعة والإقدام، أدباً يدعو إلى حب الوطن وإلى مواجهة الظلم، وأدباً يفيض معاناة ويمتلئ بالأحاسيس التي تلامس مشاعر وأذواق القراء الذين يتفاعلون مع الأدب الفلسطيني ومع قضيته.
لقد ظهرت الصحافة والعمل الصحافي في فلسطين كخامس دولة عربية بعد مصر ولبنان وسورية والعراق، وهذا يمنح الصحافة الفلسطينية عراقة تاريخية ما زالت تراكم تجربتها حتى يومنا.
بالرغم من أن الصحافة الفلسطينية منذ انطلاقتها واجهت مضايقات رقابية وحصاراً من قبل السلطات العثمانية التي كانت تحكم فلسطين، حيث كانت الصحف تعتبر ناطقاً رسمياً باسم الحكومات القائمة، لذلك اعتبرت السلطات العثمانية ما تتضمنه الصحف أمراً خاصاً بها، هي وحدها تجيز وتمنع وفق أهوائها.
يعد الانتداب الذي فرضته بريطانيا على فلسطين، مرحلة جديدة للصحافة الفلسطينية التي دخلت في كوارث متتابعة من المعاناة، إذ أقدمت السلطات البريطانية على اعتماد سياسة إغلاق الصحف والتضييق عليها، والقيام باعتقال الصحافيين، والتكتم على المعلومات ومحاولة حجبها عن الصحافة، كما عانت الصحف من الرقابة الشديدة على محتوياتها، وقد استمرت هذه المعاناة طوال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين التي استمرت ما يقارب الثلاثة عقود.
إن حال الصحافة الفلسطينية بعد النكبة لم يكن في وضع أفضل، فعلى سبيل المثال عانت هذه الصحافة من الإجراءات المتشددة والرقابة المسبقة في ظل حكم الإدارة المدنية الأردنية للضفة الغربية، بالرغم من أن هذه الفترة شهدت تأسيس عدد من الصحف والمجلات الجديدة.
ورغم التوسع الذي حصل إلا أن الرقابة الحكومية فرضت على الصحف خطاً تحريرياً لا يخرج عن السياسات الحكومية، وكان مقص الرقيب يتدخل في أية مادة صحافية منشورة لا تنسجم مع الموقف الرسمي الأردني.
ولا يختلف حال الحياة الصحافية كثيراً في قطاع غزة الذي وقع تحت الحكم المصري، إذ عانت الصحافة من مشكلات كثيرة أهمها مقص الرقيب وغياب الخبرة، وعدم وجود مؤسسات إعلامية، إضافة إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب والمعقد الذي كان يعاني منه قطاع غزة.
يلاحظ في تلك الفترة وما تلاها، أن الصحافة الفلسطينية انغمست كثيراً في القضايا السياسية وقضايا التحرير، ومواجهة الخطر الصهيوني، بالإضافة إلى ذلك فقد طرأ عنصر جديد على هذه الصحف في تلك المرحلة أيضاً هو أن معظم الصحف والمجلات الفلسطينية بدأت في تخصيص قسم للثقافة فيها، حيث بدأت هذه الصحف تنشر الأعمال الشعرية والقصصية والمقالات الثقافية.
وفي فترة الاحتلال الإسرائيلي بعد العام 1967 ظلت الصحف الفلسطينية تعاني من الرقابة والتضييق، حيث قامت إسرائيل بممارسة مزيد من الضغوط النوعية التي لم تشهدها هذه الصحف، خاصة في ظل الرقابة العسكرية التي أجبرت الصحف بالحصول على موافقة مسبقة على كافة المواد المنشورة، وفي ذات الوقت استمرت هذه الصحف في مواجهة هذه الضغوط بكافة وسائلها، واستطاعت أكثر من عشرين صحيفة جديدة الحصول على تراخيص للإصدار في تلك المرحلة.
أبرز ما ميز الصحافة الفلسطينية في فترة الاحتلال الإسرائيلي، أنها صحافة ثبات ومحافظة على الوجود، ولم تكن صحافة مجابهة ومقاومة، إذ أنها انشغلت في الحفاظ على المكونات التي تحمي هوية الشعب الفلسطيني من الضياع، وعملت على تعزيز مفهوم الحقوق الوطنية في نفوس الفلسطينيين، كما أنها لعبت دوراً هاماً في فضح تصرفات الاحتلال الإسرائيلي.
التطور اللافت والمنعطف الهام الذي حصل في القضية الفلسطينية العام 1994 حين تم الإعلان عن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، هذا العنصر المستجد أوجد وقائع جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، من أهم ملامح هذا الواقع هو انتقال سلطة الحكم الإداري من إسرائيل إلى الطرف الفلسطيني، وبقاء السيادة السياسية لإسرائيل.
حاولت السلطة الفلسطينية استثمار هذا العامل الجديد، واتخذت إجراءات تمهد لبناء نواة دولة فلسطينية قادمة، فقامت بإصدار قانون المطبوعات والنشر الفلسطيني في العام 1995 وكان هذا الأمر دليلاً واضحاً على اهتمام السلطة الفلسطينية بقضايا الصحف والإعلام والأدب والنشر، وتنظيم العلاقة بينهما من جهة، وبين وسائل الإعلام والمجتمع من جهة أخرى.
وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط زاخر وحركة صحافية وعمل ثقافي واسع بهدف إحداث تطور ونقلة مهمة للحياة الصحافية والثقافية بشكل عام، بالرغم من قلة الإمكانيات لدى الفلسطينيين قياساً بالأشقاء العرب، إلا أن حراكاً إعلامياً كان قد بدأ بتفاعل كافة القوى السياسية الفلسطينية، وكانت الصحف هي الوسيلة التي تعكس هذا التفاعل.
انتشرت الصحف والمجلات الفلسطينية في عهد السلطة، وكانت تعكس التنوع السياسي والمزيج الفكري للشعب الفلسطيني وقواه السياسية. وهنا ظهر عامل جديد، إذ أصبحت الصحف أيضاً تخضع لقوانين السلطة إضافة لخضوعها إلى نفوذ إسرائيل.
كما أن إسرائيل بقيت مستمرة في اعتماد سياسة استهداف الإعلام الفلسطيني الذي أصبح خاضعاً للسلطة الفلسطينية، لكن إسرائيل تستهدفه كما تستهدف كافة مناحي حياة الفلسطينيين.
الأبرز هو استمرار القيود الإسرائيلية التي كانت مفروضة على الصحف والصحافيين الفلسطينيين، مثل القيود على حرية الحركة، واعتقال الصحافيين وضربهم أثناء تغطية الأحداث، ومنهم من قامت إسرائيل بقتله.
فيما يرتبط بالحياة الأدبية الفلسطينية، كان الأدباء الفلسطينيون يكتبون أعمالاً لأنفسهم، ولم تكن تشغلهم في فترة بداية القرن العشرين وما قبلها، فكرة عرض أعمالهم على القراء.
ويتفق الباحثون على أن الأديب الفلسطيني يوسف الخالدي هو الوحيد بين أقرانه في تلك المرحلة من حاول نشر أعماله الأدبية، لكنه لم يتمكن من ذلك لأسباب تتعلق بظروف عمله.
بينما تمكن الأديب روحي الخالدي الذي كان ديبلوماسياً في باريس، من نشر كتابه “تاريخ علم الأدب عند العرب والافرنج” في مجلة الهلال المصرية على حلقات، بعد أن أقام علاقات صداقة مع صحافيين مصريين، الأمر الذي فتح له باب الشهرة.
وفيما بعد تمكن روحي الخالدي من نقل جزء من الثقافة الغربية إلى القارئ العربي عبر ترجمة عدد من النصوص والأعمال الغربية ونشرها في الصحف المصرية بداية ثم في صحف أخرى.
وكان روحي الخالدي من الأدباء الذين يصوغون أعمالهم بطريقة تصل إلى المتلقي بسهولة كما أن أعماله تضمنت الكثير من قيم الأصالة، ويعتبر من رواد الأدب الواقعي.
وكان لأعماله التي نشرت الأثر الواضح في صياغة مفاهيم لغوية جديدة لدى عدد كبير من الكتاب والأدباء العرب والفلسطينيين، وبدأ الأدباء يميزون بين الأصناف الأدبية الغربية بفعل جهود روحي الخالدي.
نحن نتحدث هنا عن فترة بداية القرن العشرين، حيث بدأ الأدب الفلسطيني يحبو وينمو ويتطور بشكل بطيء. ولا يمكن الحديث عن تلك الفترة دون ذكر أسماء الأدباء الرواد، وأبرزهم الشيخ يوسف النبهاني، ونخلة زريق، وخليل السكاكيني، ومحمود حمدي.
وظهر في تلك المرحلة تيار من الأدباء لم يكن معروفاً من قبل، اعتمد الشعر والنثر الذي يعالج قضايا اجتماعية واقعية، أو ما يعرف بالشعر القصصي، ولعل ديوان الشاعر “إسكندر الخوري البيتجالي” الذي أصدره العام 1919 باسم “الــزفرات” خيــر دلــيل علــى ما ذكرت.[1]
إن الشاعر البيتجالي نسبة إلى “بيت جالا” القرية التي ولد فيها، كان سبّاقاً في الدعوة إلى الشاعرية الاجتماعية، حيث قدم الشاعر نفسه العديد من الأعمال الأدبية التي عالجت بالشعر قضايا اجتماعية، وهو بذلك مهّد الطريق أمام هذا النوع من الأدب الذي بدأ يعكس المفاهيم الاجتماعية السائدة، وقيم المحبة والخير بأسلوب مختلف عما كان سائداً.
ورغم هذا فإن الإنتاج الأدبي في فلسطين كان محدوداً، لكن قيام السلطات العثمانية بإصدار دستور عام 1908 كان له أثر في تطور اللغة العربية حيث دخلت مصطلحات جديدة لم يعهدها الناس من قبل، مثل الدستور، والحرية، والقومية، والأمة، ترافق ذلك مع تبلور الطبقة الوسطى في المجتمع التي اهتمت بإصدار الصحف السياسية، وحرص بعض شرائحها الاجتماعية على تملك هذه الصحف، واتسعت دائرة القراءة وانتقلت من النخبة إلى الجمهور.
كما قامت الطبقة الوسطى بتأسيس الأندية الثقافية والاجتماعية، ما أنعش بشكل متدرج الحياة الثقافية الفلسطينية، حيث كانت هذه الصحف والأندية تعبر عن هذه الطبقة ومصالحها، عبر المقالة السياسية والأدبية، وعبر كتابة المذكرات، والمواضيع اليومية، بحيث تماهت الصحف مع واقع وتطلعات الطبقة البرجوازية.
يمكن أن نلاحظ هذا التماهي من خلال مطالعة عناوين صحف تلك الفترة، والتي تعج بمفردات من نوع: الحرب والسلم، والاقتصاد والسياسة، والبناء الاجتماعي، والإصلاح، والنهضة ودور الشعوب.. الخ، وجميعها قضايا تمثل واقع حال الطبقة الوسطى ومشاكلها.
وهكذا أصبحت هذه الطبقة تمتلك أدباء وكتّاباً يعبرون عنها، مما شجع على زيادة أعداد الصحف وبالتالي زيادة عدد المطابع، هذا من جهة، الأمر الذي أسهم في ازدياد أعداد الكتاب من جهة أخرى، ومن أبرز هؤلاء الأدباء والكتاب في تلك المرحلة العثمانية نذكر: خليل السكاكيني، وخليل بيدس.
من المعروف أن اللغة العربية تأثرت على مر التاريخ بلغات أخرى منها اليونانية والفارسية، إلا أن تأثير اللغة التركية أيام العهد العثماني ظل محدوداً ويقتصر على اللهجة المحكية بين الناس، لكن الفصحى لم تتأثر، وفي سياق الأدب الذي نتحدث عنه هنا، لم نجد أي نص باللغة التركية لأي أديب فلسطيني، ولا حتى نصاً منقولاً من التركية إلى العربية، بالرغم من أن العديد من الأدباء الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا يجيدون اللغة التركية.
لقد عرف الأدب العربي الشعر المترجم وأنواعاً مختلفة وحديثة من النثر الأدبي، وكذلك فن المقالة، والرواية والنقد، من خلال انفتاحه على الأدب الغربي الذي رفد الأدب العربي بأنواع لم يكن يعرفها العرب. وكانت الصحف والمجلات هي الوسيلة الشعبية الوحيدة لنشر الإنتاج الأدبي، وهكذا بدأ عامة الناس يتعرفون على أنماط جديدة من الأدب ومن أساليب الحياة لم تكن معروفة من قبل.
إن ظهور هذه المفاهيم الجديدة في منطقتنا قادمة من الغرب وما حملته من مفردات ألهمت الكثيرين ومن ضمنهم الأدباء، مثل التربية والتعليم، وإنشاء المدارس، وتعليم المرأة وتحررها، والحجاب والحياة المدنية، إلى ما هنالك من الشعارات والمواضيع التي كانت تزخر بها المجتمعات الغربية وصحافتها وأدبها.
اجتمعت عناصر تأسيس وانتشار الصحف، وتحسن مستوى التعليم، والتواصل والانفتاح مع الغرب، وإقامة أندية ثقافية واجتماعية، لتشكل بداية لظهور علاقات جديدة في فلسطين. فالأدباء الفلسطينيون الأوائل كانوا أناساً أكاديميين يمتلكون العلوم الأدبية وأصحاب ثقافة كبيرة، وسافروا إلى بلدان متعددة، ويتحدثون لغات أجنبية.
إن ما سبق ذكره مهّد الطريق أمام بداية تأسيس الثقافة الفلسطينية، التي شكل عمودها الفقري نشوء الصحف وانتشارها، وفتح نافذة للتبادل الثقافي والمعرفي مع الدول الغربية، ساهم في مد هذه الجسور الطلاب الفلسطينيون الذين تخرجوا من مدارس الإرساليات، أو ممن تم إيفادهم للتحصيل العلمي في الجامعات الغربية، الأمر الذي أثرى الثقافة الفلسطينية من منابع معرفية متعددة.
وتعرفت الثقافة الفلسطينية والأدباء الفلسطينيون على فنون إبداعية لم يكونوا يعرفونها مثل السينما والمسرح والتمثيل والديكور وما شابه من مفردات حديثة. كما جرت عملية بلورة للاتجاهات الأدبية السائدة بشقيها الكلاسيكية والرومانسية، وتنوع أشكال الكتابة ومناهج النقد الأدبي.
طبعا كانت الصحف هي الحاضن الطبيعي لولادة هذه الأفكار والمفاهيم الثقافية الجديدة، وكذلك كانت الصحف الجسر الذي عبرت خلاله الكثير من المصطلحات والمفردات اللغوية والأدبية والسياسية الجديدة إلى شرائح واسعة من الناس، من خلال استخدامها من قبل الأدباء والكتاب في المقالات والأبحاث والنصوص التي كانوا يكتبونها وتنشرها الصحف.
ليس هذا فقط، بل قامت الصحف والمجلات الفلسطينية بدور فعال في إحداث تغييرات في السلوك والحياة اليومية للفلسطينيين عبر ما تنشره من قصص وروايات مترجمة، وهي بذلك أسهمت في صياغة مقاربات معيارية للحداثة وللذائقة على المستويين الشخصي والعام.
أيضاً، كان للصحف الدور الهام في فتح الأبواب أمام ترجمة الأدب العالمي إلى اللغة العربية، واعتبر الأدب المترجم عنصراً من عناصر الثقافة، وواحداً من الأنماط الأدبية الحديثة التي كان لها تأثير على اللغة العربية وتطورها وعلى الحياة الأدبية الفلسطينية بشكل عام من خلال التعابير والمفردات التي جلبتها الصحف والمجلات للأدب العربي، وأدخلت هذا الأدب في طريق الحداثة.
من أهم الصحف والمجلات الفلسطينية التي قامت بهذا الدور التنويري نذكر مجلة “النفائس العصرية” لصاحبها خليل بيدس التي كانت تصدر في مدينة القدس، وكذلك مجلة “الزهرة” لمؤسسها جميل البحيري وكانت تصدر في مدينة حيفا. ([2])
ولا بد من الإشادة بالدور النشط الذي لعبه النقد الأدبي في تعزيز هذه المفاهيم الجديدة، من خلال الاستخدام المتكرر للعديد من العبارات والمفردات العربية الحديثة التي استحسنها المتلقي فأخذت تحتل مكاناً في الحياة اليومية للناس.
وقد كتب بهذا الشأن عدد من النقاد والأدباء ومنهم خليل السكاكيني، الذي دافع عن أهمية تطور اللغة، والضرورات التي تمليها المتغيرات التي تحصل في المجتمع لهذا التطور، وأشار إلى أن اللغة تحاكي التاريخ من حيث أن مفرداتها وتراكيبها تشير إلى الفترة الزمنية التي استخدمت فيها هذه التعابير، وهذا يجعل من اللغة كائناً حياً يتطور وينمو.
وكما أسلفنا فإن انعكاس هذا التطور والنمو نلمسه في الصحف الفلسطينية التي ساهمت بنشر ما هو حديث في اللغة عبر المقالات والنصوص، وبهذا ساهمت الصحافة في تطور وعي البشر أيضاً وتطور تفكيرهم ومعارفهم ونظرتهم للأشياء.
ومن أهم المجلات والصحف التي شكلت حاملاً لهذه الحداثة وتقديمها للعامة، مجلة الكرمل، والإنصاف، والترقي، والأصمعي وغيرهم.
ولعل أبرز التعابير الحديثة التي دخلت إلى عالم الصحافة حينذاك، والتي كانت تحاكي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في تلك الفترة، القومية، والنهضة، والاستقلال، والاستبداد، والفكر الاشتراكي، والعقيدة، وحقوق الإنسان، والمساواة، والتجديد، والعديد من المفردات الأخرى التي أصبحت تستعمل في مجال الفنون الأدبية والمسرحية والإذاعية، ومصطلحات فلسفية وسياسية وحقوقية واجتماعية.
والصحف التي نشرت هذه المصطلحات منحتها أيضاً معانيها الحقيقية من خلال ربطها بالواقع المعيش، وعبر ذكر أمثلة محددة، وكذلك عبر الحرص الذي أصبح يوليه الصحافيون الفلسطينيون في استعمال هذه التراكيب الجديدة في مقالاتهم، وحرص الأدباء على استعمالها في نصوصهم وإنتاجهم الأدبي، وبهذا نستطيع القول إن الصحافة الفلسطينية ساهمت بشكل فعال في تشكيل وتبلور ما يمكن أن نسميه الثقافة الوطنية الفلسطينية، من خلال الدور الكبير الذي قامت به الصحف في نشر المعرفة، وحماية مكونات الشخصية الفلسطينية من الاندثار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصحافة بلا شك قد احتلت موقعاً مهماً في سياق تطور اللغة العربية ورفدتها بعوامل استمرارها وتجددها كي تظل لغة نشيطة ومواكبة للتطورات المختلفة في المجتمع.
في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، اعتبرت سلطات الانتداب أن اللغة العربية هي اللغة الثالثة في فلسطين، بعد الإنجليزية والعبرية، وسخروا من العربية التي اعتبروها لغة لا تناسب المجتمعات المتطورة، وهذا ما وضع اللغة العربية في مواجهة خطر اضمحلالها وتراجعها، ومن أجل الضغط أكثر على العربية، أصدر الانتداب قراراً بضرورة المعرفة الجدية للغة الإنجليزية لكل من يرغب في تولي وظيفة من العرب.
وهنا مرة أخرى قامت الصحافة الفلسطينية بدورها في حماية اللغة العربية سواء من جانب الخطابات والمراسلات الحكومية، أو من جانب ما يمكن أن يسيء إلى اللغة العربية عبر الترجمة السيئة لكتب أو أعمال أدبية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
وقد تصدى لمهمة الدفاع عن اللغة العربية مجموعة من الأدباء والكتاب الفلسطينيين، من خلال النقد المباشر أو تقديم نموذج للآخرين عبر الاستخدام الأمثل للعربية وكيفية توظيف اللغة في المقالات والتقارير والنصوص الأدبية.
أيضاً اهتمت الصحف الفلسطينية بنشر الأبحاث والدراسات التي قام بإعدادها عدد من الكتاب مثل السكاكيني والنشاشيبي، اللذين كانا يسافران خارج فلسطين لإلقاء المحاضرات حول اللغة العربية.
ختاماً، نستخلص من كل ما تقدم أن الصحافة الفلسطينية نشرت جميع الإنتاجات الأدبية، ووقفت إلى جانب المبدعين والأدباء والكتاب، وأسهمت بشكل قوي في نشر المفاهيم الحداثية فيما يتعلق باللغة أو بالحياة عموماً، ولها الفضل في نقل الأدب الغربي للقارئ العربي، ودورها المهم في بقاء واستمرار اللغة العربية وحمايتها وكذلك تطورها في مختلف المراحل التي مر بها الشعب الفلسطيني وصحافته وأدبه.
الهوامش:
[1] انظر: ديوان العرب، قسم الأدباء والكتاب الفلسطينيين، http://cutt.us/tebf4).
[2] انظر: مركز المخطوطات والوثائق الفلسطينية، http://cutt.us/nJCHi).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق