( رواية للدكتور زهدي الداوودي . الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت . الطبعة الأولى 1998 ) .
1- شيء عن مؤلف الرواية
لم أقرأ قبلا شيئا للدكتور زهدي الداوودي , لذلك كانت المفاجأة كبيرة ومذهلة .
أستاذ جامعي متخصص في التأريخ , مولود في مدينة ( طوز ) القريبة من مدينة النفط كركوك , يكتب باللغة العربية رواية من ثلاثة أجزاء لم يتسن لي بعد الا دراسة الجزء الثاني منها . كانت مفاجأة كبيرة اذن وكانت فرحة كبيرة حقا أن أكتشف روائيا عراقيا موسوعي المعرفة متعدد الجوانب عميق الخبرات الحياتية ثم سعة اطلاعه على تأريخ العراق الحديث منذ بداية القرن العشرين حتى 1955 عام وفاة رستم كريم زوراب ونهاية هذا الجزء من الرواية . لقد رصد الروائي خلال هذه الحقبة الزمنية تأريخ الشخصية المركزية في الرواية السيد رستم كريم زوراب
وعائلته وأدق خصائص العشائر الكردية بالدرجة الأولى والتركمانية بالدرجة الثانية فضلا عن المامه التام بعادات وتقاليد القبائل العربية . ثم الأوصاف الرائعة لجبال ومياه ووديان كردستان . لقد كان زهدي رساما ومؤرخا ومن ثم مناضلا سياسيا - اجتماعيا تفتحت عيناه على أيام كفاح الشعب العراقي ضد حلف بغداد عام 1955 حيث كان يومذاك في الخامسة عشرة من العمر طالب مدرسة ثانوية .
لا يسع المرء الا أن يثني على لغة مؤلف هذه الرواية وقدرته على التعبير بلغة هي ليست لغة أمه وأبيه ( التركمانية والكردية ) .
كان الرجل موسوعيا يقرأ الأحداث بعدستي مؤرخ وانسانا واقعيا جريئا الى أبعد الحدود . ولعل دراسته العليا للتأريخ واقامته الطويلة في بلد أوربي ( ألمانيا ) قد زودتاه بهذا القدر من الجسارة الشخصية التي يقتضيها أمر التصدي لعادات مجتمعه وسلوك أفراده رجالا ونساء . لم يخجل من تسليط الضوء على أمور بشرية يتهيب سواه من ذكرها أو التطرق اليها كذكر أسماء الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية وسخريته اللاذعة من الأنجليز ( الصفحة 114 ) ... على سبيل المثال . هذا الهرم الثقافي - التأريخي الشامخ لم يستنكف من استعمال بعض الكلمات العامية والأوصاف المكشوفة حيثما تطلبت البلاغة الفنية ذلك , حتى وان جاءت على حساب البلاغة اللغوية .
2 - شيء عن الرواية
الرواية هي السيرة الذاتية لرستم كريم زوراب ما بين موطن أهله وعشيرته في وادي كفران التابع لمحافظة كركوك شمالي العراق , ومدينة الموصل حيث أتم دراسته في دار المعلمين هناك ليتخرج معلم مدرسة ابتدائية . تنتهي الرواية بموت رستم كريم في أحد مستشفيات مدينة كركوك بحضور ولده الشاب الصغير زوراب.
قبيل موت رستم تتراءى له زوجته الأولى المتوفاة مادلين في وجه احدى ممرضات المستشفى . سألها ( هل أنت مادلين ؟ ) ثم أغمض عينيه وفارق الحياة .
اذا كان الموت هو الأمتداد الطبيعي للحياة , فما يمنع الحياة من أن تكون امتدادا طبيعيا للموت ؟ ختام عبقري والتفاتة فلسفية نادرة .
والرواية تأريخية عبر سرد التأريخ الشخصي لبطلها الأول رستم كريم زوراب . غطت الرواية قرابة الخمسين عاما الأولى من القرن الماضي ( 1912 - 1955 ) فأرخت سقوط السلطان العثماني عبد الحميد ليخلفه محمد رشاد ثم نشوب الحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1917 ) وتأسيس الحكم الوطني في العراق عام 1921 متوجا بفيصل الأول ملكا , ثم انتفاضة مايس 1941 ضد الأنجليز وأخيرا دخول العراق حلف بغداد أوائل عام 1955 . لقد أبدع كاتب الرواية في سرد الوقائع التاريخية من خلال المتابعة الوصفية - التحليلية الدقيقة لما كان يجري لأفراد عشيرته وعائلته في مناطق محددة من قضاء السنجق التابع لمحافظة (لواء)
كركوك . فعشيرة شخص الرواية المركزي رستم كريم زوراب تتملك أراضي وادي كفران الذي ينقسم بدوره الى وادي كفران الجبل ووادي كفران السهل .
وتنقسم الرواية تأريخيا الى أربعة أطوار حاسمة بالنسبة الى رجلها الأول رستم كريم زوراب :
أولا - رستم الطالب في معهد اعداد المعلمين في مدينة الموصل . هنا يتعرف رستم على الأرمنية مادلين في أحد بيوت الدعارة .
ثانيا - صدر في أيلول 1912 أمر تعيين رستم معلما في مدرسة قضاء (السنجق ) ليصبح في فترة لاحقة مديرا لهذه المدرسة . رستم يتزوج في هذه الحقبة من مادلين التي تفارق الحياة حوالي عام 1915 . ثم يتزوج من امرأة كردية هي الأخرى تفارق الحياة في نهاية شهر مايس 1935 . وبعد قرابة الأربعة أعوام يتزوج رستم للمرة الثالثة من فتاة تدعى ( كولباغ ) , نصف تركمانية - نصف كردية .
ثالثا - يصبح رستم في عام 1947 مديرا لناحية ( هورين ) التابعة لقضاء (خانقين ) بمساعدة مباشرة من نوري السعيد .
رابعا - يحال رستم عام 1950 على التقاعد ويفارق الحياة عام 1955 , عام دخول العراق حلف بغداد .
3 - جدلية التناقض في الحياة
لقد دأب مؤلف الرواية منذ بداياتها الأولى حتى نهايتها على ابراز متناقضات الحياة بأسلوب واع ودقيق وشديد الواقعية . وليس في هذا الأمر من غرابة فالمؤلف - على ما أحسب - حريص على التزامه السياسي - الثقافي مذ أن كان في سن الخامسة عشرة من عمره , ثم احترافه لاحقا لمادة التأريخ دراسة عليا وتدريسا. أستطيع أن أقدم على ذلك بعض الأمثلة :
1- التناقض الأساس بين قاطني وادي كفران الجبل الفقراء والذين رفضوا التعاون مع المحتل الأجنبي ( الأنجليز ) وسكنة وادي كفران السهل الذين تعاونوا مع الأنجليز فكدسوا الثروات ورفلوا بالنعيم . فالجبل العالي الشاهق بعزة النفس والوطنية يفضل الفقر على التعاون مع الأجانب . والسهل - وهو سهل بطبيعته -
يتعاون أهلوه مع المحتل الغازي . فالحضيض الجغرافي يتطابق مع وضاعة النفوس ودرك الأخلاق الأسفل .
2- التناقض بين رستم المتعلم المثالي النزيه وأبني أعمامه اللصين قادر وعباس .
وهنا رغم التناقض الصارخ بين هؤلاء , كانوا أصدقاء العمر ورفاق المسيرة الطويلة . ولقد افاد رستم منهما في مناسبات كثيرة وقدما له الخدمات في أصعب الظروف . لم يأنف من صداقتهما ولم يتبرأ من قرابتهما وهو الرجل النظيف وعالي الأستقامة . فهل - ترى - أراد المؤلف أن يقول لنا أن الخير والشر وجهان لعملة واحدة بحيث يستحيل عزلهما عن بعض ؟؟ أوليس هذا هو مبدأ وحدة وصراع الأضداد ؟؟
3- ولقد ذكر المؤلف كثيرا ثنائية الروح والجسد ( الصفحات 180 و 235
و236 ) . أغلب ظني أن المؤلف هنا واقع تحت التأثير القوي لطرق الدروشة وطقوس التكايا وممارسات الأولياء الكثيرة الأنتشار في كردستان عموما وفي بيئته الأصلية في وادي كفران على وجه الخصوص . فهناك الطرائق البرزنجية والطالبانية والقادرية والنقشبندية وسواها الكثير مما هو معروف في كردستان العراق . ثم هنالك الثنائية الطريفة في صلب تحدر دم المؤلف من أم تركمانية شيعية وأب كردي سني .
4- الدين والمحرمات . فمادلين المومس الأرمنية المسيحية تترهب والدين يغفر بالأعتراف أمام قس خطاياها . بينما يغتصب رجل الدين المسلم الصبية الذين يعلمهم القرآن في أحد مساجد مدينة الموصل . ورجل الدين الملا والسيد نعيم يزني مع النساء العواقر مدعيا مساعدتهن للأنجاب , ثم انه يتعاون مع المهربين . والقاضي المسلم يشرب الخمر ويضاجع الأرمنية مريم مديرة بيت الدعارة في الموصل .
5- الشرطة ( رمز النظام والسهر على القوانين ) تتعاون مع المهربين ( مخالفي وكاسري القوانين ) لقاء عمولات ورشاوى . والقائمقام يطلب من مدير ناحية هورين على الحدود العراقية - الأيرانية أن يوفر له العرق الأيراني الأصفر المهرب ماركة " أبو السنبلة " وسكاير كوركان وعسل (الصفحات 377 - 378 ).
والقائمقام يدفع حصصا للمتصرف ( ص 378 ) . سلسلة متصلة الحلق من لصوص ومرتشين يحملون أسماء لامعة ويتبوأون وظائف يحسدون عليها .
6- ثم الصراع والتضاد الحاد بين الأمبراطورية العثمانية المسلمة ( الرجل المريض ) والأمبراطورية البريطانية ( المسيحية ) المنفلتة كالعفريت الخرافي من قمقم التأريخ بما تحمل من جبروت القوى العسكرية والأقتصادية الخرافية .
4- دور الخرافات في الرواية
لعبت الخرافة في أحداث رواية ( زمن الهروب ) دورا بارزا ينبع في الأساس من ايمان الناس البسطاء بالجن والخوارق . لقد أفاد رستم من دور الخرافة المتفشي في أوساط أهله وعشيرته الى الحد الأقصى اذ أشاع بالتعاون مع صديقيه ونجلي أعمامه قادر وعباس خبر زواجه من جنية أطلقوا عليها اسم فريشته أي جنية باللغة الكردية . الطريف أن كلمة فريشته الكردية قريبة في نطقها كثيرا من مقابلها باللغة الألمانية Verruckt . لقد أنجبت هذه الجنية لرستم ولدا أسموه ( ولي ) , وما كانت هذه الجنية الا المومس الأرمنية مادلين التي تعرف عليها في بيت للدعارة في الموصل ثم هام بها حبا . تزوجها بعد أن أعلنت التوبة وأعترفت للقس في احدى الكنائس ثم فضلت العمل كممرضة في أحد مستشفيات مدينة كركوك على أن تقضي العمر راهبة في أحد الأديرة . لقد فضل المؤلف هذا الخيار الصعب لأنه - كما يتهيأ لي - أراد أن يرينا أن دم الحياة في عروق البشر وارادة الوجود الكوني فينا هما بكثير أقوى من اغراء الدين . فالدين يأتي من بعد ضعف ومعاناة, أما الحياة فانها القوة والقدرة واغراء الحرية , وانها هي الأساس وهي الأولى والأخرى !!
5- مادلين الأرمنية
لقد وظف الخرافة التي صدقها الناس بعد أن أفاد من الدين في انقاذ مادلين بالعبور الروحي من مجرد مومس عمومية الى امرأة طاهرة وزوجة وفية لرستم . لقد غسل الدين أدران روحها وغسلت هي عار جسدها اذ قتلت فأسالت دم ضابط الأمن في مستشفى كركوك الذي أساء اليها وحاول ابتزازها واغتصابها .
لسنا ندري هل أن موت مادلين بعد تسعة أشهر فقط من زواجها من رستم كان موتا طبيعيا اعتياديا ساعة ولادتها الطفل ( ولي ) أم أن ارادة زوجها رستم شاءت ازاحتها من على مسرح الحياة بسبب قلقه - ربما - من ماضيها وخوفه من أن ينكشف أمرها لذويه وأفراد عشيرته ؟؟ فمادلين لا تليق بأسرة أبيه أولا ولا تستحق أن تكون أما لبنيه ثانيا . أم أن مؤلف الرواية شاء ذلك كي يخلي المسرح عريضا أمام أقدار رستم تحركه آنا ويحركها آونة أخرى؟؟
الطريف أن عباس صديق وابن عم رستم هو الآخر حذا حذو ابن عمه رستم فتزوج من مومس تعرف عليها في أحد ملاهي ( كباريه ) مدينة كركوك .
لقد تزوج رستم من مادلين عام 1913 وماتت أوائل 1915 أو آواخر 1914 , مع بداية الحرب العالمية الأولى , فأي شؤم يأتينا مع الحروب !!
6- رستم
كان رستم شديد التعلق بالأنسان والدفاع عنه وعن مصالحه . وكان هو نفسه مثاليا مستقيما رفض المال الحرام وتعالى على الرشوة حين أثرى سواه من الموظفين زمن الحرب العالمية الثانية بالتلاعب ببطاقات التموين . يدخن كثيرا ويصلي ويشرب الخمور . تزوج ثلاث مرات لكنه مات فقيرا . توفيت زوجته الأولى المسيحية الأرمنية بعد عام من الزواج وأنجبت له طفلا واحدا . أحبها الى حد التوله وظل يتذكرها طوال سني حياته . وتوفيت زوجته الكردية الثانية بعد زواج تعيس لم يدم سوى ثلاثة أعوام وقد كان أن فرضها عليه عمه ( شيخو بيك ) .
لم تخلف له ذرية . أما الزوجة الثالثة والأخيرة ( أم زوراب ) فلقد أنجبت له بنين وبنات وكانت هي الأخرى مزيج دماء مركبا تركمانيا - كرديا .
7- الرواية والدين
لقد أبرز كاتب الرواية وبشكل ذكي ساخر مظاهر النفاق الأجتماعي بأستغلال الدين بغية تحقيق مآرب يحرمها الدين أصلا وترفضها التقاليد والأعراف المألوفة والسائدة . ف( ملا ) الجامع الأعمى لوطي يغتصب الأطفال الذين يرتادون الجامع كيما يعلمهم القرآن . بل وقتل صبيا بعد أن اغتصبه ورماه في بئر مهجورة
(الصفحات 7 - 9 ) .
وثمة مفارقة أخرى صارخة نقرأها عبرحوار يدور بين رستم وصديقه صائب اذ يقول رستم ( أنظر يا صائب, الجامع سأبنيه في كل الأحوال , وأما مهمة الأمام فلا أقوم بها أنا ) فيأتي تعليق صائب ساخرا مجلجلا ( ها ها ها , اقرأ السلام على جامع يبنيه زبون لبيت الدعارة ) ... الصفحة 10 .
أما قاضي المدينة فانه يزور مريم , الأرمنية النازحة من جيورجيا , يشرب الخمور ويمارس الجنس معها ( الصفحات 11 - 15 ) .
ثم تأتي المفارقة الكبيرة الأخرى ( الصفحات 263 - 272 ) اذ يسهب الكاتب وبأسلوب طريف مغر ومفصل في وصف عملية اغواء ثم مضاجعة رجل الدين الملا نعيم لأمرأة عاقر جاءته تطلب منه بركات جده النبي لكي تنجب لزوجها أطفالا .
8 - مريم
لا يكتفي مؤلف الرواية بالسرد الفني الناجح لهذه الوقائع , بل انه يعلق عليها باضافات شديدة السخرية وعميقة الدلالات , ويلقي الأضواء على خفايا أمور غير ظاهرة للعيان الأجتماعي الرسمي أو الشعبي . فمديرة بيت الدعارة ( القوادة ) الأرمنية مريم مثقفة تقرأ الشعر بثلاث لغات هي التركية والعربية والفارسية . وتتقن بالطبع لغاتها الأم الأرمنية والجيورجية . وهي تتابع حرب البلقان وتنتصر لحركة التجديد الثورية في تركيا التي تقودها جماعة الأتحاد والترقي . وتستلم الجرائد والمجلات , ثم انها تطلب من القاضي أن يتساهل مع ( الشباب المتهمين بالتعاطف مع الأتحاديين ) . لقد كشف المؤلف هنا أمورا ثلاثة :
++/ أن السياسة لا تستنكف من توظيف الدعارة والبغايا لتحقيق الأهداف ( فلسفة ميكيافيللي ) .
++/ لعب الأرمن دورا بارزا في تقويض الأمبراطورية العثمانية ( دولة الرجل المريض ) .
++/ وأن وجود مريم أساسا في مدينة الموصل كان عملا مخططا له بدقة من قبل قادة سياسين أرمن لكسب ود وتعاطف الرجال مع قضية تحرير أرمينيا من السيطرة العثمانية . أي أن مريم كانت تدير مركزين في وقت واحد : التجسس والدعارة . بعبارة أخرى : التجسس عن طريق الدعارة . وهو أسلوب تتبعه البشرية منذ أقدم العصور . استخدام النساء مصائد لأيقاع الرجال وجمع أو تمرير المعلومات .
ما كانت مريم المرأة الوحيدة في مركز أو بيت الدعارة هذا , انما كانت معها فيه أرمنية أخرى هي المومس مادلين . ان قصة وقوع رستم في هوى مادلين ثم زواجه منها لاحقا هي الأخرى واقعة ذات رمز يستلفت النظر . شاب كردي عراقي مسلم يصر على الزواج من بغي مسيحية أرمنية . فما الذي أراد رستم أن يقول لنا ؟؟ هل أراد التبشير بخط انساني تسامحي حاول فيه الأفادة من مزايا الأديان الثلاثة ؟؟ أقصد الأفادة من مبدأ التوبة في الأسلام وامكانية الزواج من امرأة من أهل الكتاب حتى لو لم تسلم . ثم الأفادة من التكفير عن الذنوب والخطايا بالأعتراف في الكنيسة أمام قس . أقول الأديان الثلاثة لأن لرستم صديقا يهوديا اسمه اسحق أفندي , كما كانت له علاقات طيبة مع تاجر يهودي يدعى هرون .
المفارقة الساخرة الأخرى هي أن امرأة قوادة تدير بيتا ( منزولا ) للدعارة تحمل اسم العذراء البتول ( مريم ) أم المسيح , والتي لم يمسسها بشر .
9 - الطفل المعجزة ولي
ولد ولي لأبيه المسلم رستم وأمه المسيحية الأرمنية مادلين بعد أن تزوجا على الطريقة الأسلامية دون أن تشهر اسلامها حسب الأسلوب المتبع ( الصفحة 105).
تزوجت مادلين باسم كردي هو روناك . بعد تسعة أشهر من هذا الزواج , وهي أشهر الحمل المعتادة, توفيت ساعة أن وضعت الطفل ولي وهي تحمل اسم فريشته أي الجنية . أرضعت هذا الطفل فاطمة زوجة والد أبيه . شرع ولي كالمسيح يتكلم بعيد مولده ببضعة أيام ثم بدأ يمشي بعد ذلك بفترة قصيرة . المسيح لم يمش لكنه تكلم في المهد صبيا . وكالمسيح عيسى أخذ ولي يشفي المرضى بداء الكساح ويرد البصر للعميان . وقد تزوج قريبته نسرين العمياء بعد أن رد لها بصرها ووقع في غرامها ( الصفحات 244 - 247 ) . هل كانت قصة ولي خرافة من نسج خيال كاتب الرواية ؟؟ على أية حال , لم تعمر معجزة ولي طويلا , فلقد فقد بعد زواجه من نسرين القدرات الخارقة وأنصرف الى مساعدة فقراء الفلاحين اذ أنشأ مجتمعا شبيها بالمشاعيات البدائية وحول بيته الى تكية للمحتاجين وجعل الطاحونة المائية ملكا مشاعا للجميع ( الصفحات 312 - 313) .
لماذا توقفت معجزات ولي بعد زواجه ؟؟ هل أراد مؤلف الرواية أن يقول أن لو كان قد تزوج السيد المسيح ابن مريم لفقد القدرة على اتيان المعجزات ؟؟ هل الحرمان الجنسي اذن هو خالق المعجزات - الخرافات والأساطير ؟؟
على أن أروع ما في قصص هذا الطفل ولي هي مقابلاته في حلم النوم لأمه المتوفاة . كان يراها دوما كالملائكة بملابس بيض . يقترب منها ويقبلها لكن من خلال سياج خشبي مشبك عازل واطيء . لا تسمح له أمه أن يتخطى هذا السياج حين يهم لأجتيازه كي يلتحق بها ( الصفحات 145 و 242 ) . هذا السياج الخشبي العازل هو الجدار الوهمي الذي يفصل الحياة عن الموت . يعزل عالم الأحياء عن عالم الأموات الذين لا نلتقي بهم الا في عالم الرؤى والأحلام , فالناس نيام أفاقوا ان ماتوا .
10 - توارد خواطر
**/ يبدو من قبيل توارد الخواطر أن يقص د. فاتح عبد السلام في مجموعته القصصية ( حليب الثيران ) حدثين سبقه اليهما د. زهدي الداوودي اذ ذكرهما في روايته زمن الهروب . ففي قصة ( العالم الرابع ) ذكر فاتح كيف يزني معلم القرآن ملا سعيد بالطفل أسعد في جامع المحلة ( الصفحة 30 ) . كما أن د. فاتح قد ذكر خيول نادر شاه في القصة التي تحمل هذا العنوان . قال فاتح (( الأرض التي وطأها نادر شاه عندما حاصر الموصل أربعين يوما قبل 250 سنة تقريبا ))
( الصفحة 87 ) . أما د. زهدي فلقد قدم تقريرا مفصلا عن الملا الأعمى الذي يغتصب الصبية الذين يعلمهم القرآن في أحد جوامع مدينة الموصل ( الصفحة 8).
وبدل خيول نادر شاه تطرق زهدي الى ذكر اسماعيل شاه وبعده كريم خان زند
( وغيرهما من الملوك والأمراء كانوا يقضون صيفهم على ضفاف نهر آوه سبي
... ) / الصفحة 238 .
**/ زهدي والسورياليون : اذا قال زهدي على الصفحة 370 في روايته زمن الهروب ( وما قيمة الحب اذا لم يتجاوز الروح الى الجسد ) فلقد قال قبله المنظر السوريالي الفرنسي بريتون ( أكيد أن الحب الجسدي والحب الروحي واحد ).
من كتاب (( الصوفية والسوريالية لأدونيس . الصفحة 266 . دار الساقي . بيروت , الطبعة الأولى 1992 )) .
ختاما أهنيء الدكتور زهدي الداوودي على هذا الأنجازالرائع وأأمل أن ينتهي من نشر الجزء الثالث من هذه الملحمة المدهشة . لقد كان زهدي في عمله هذا مؤرخا فذا ومثقفا موسوعيا قل نظيره في هذا الزمن المجدب . كان مصلحا اجتماعيا جريئا وروائيا من الأنماط العالية التي يفخر بها مثقفو العراق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق