ثمة نزيف من الكرامة يعتري غزة؛ ففى جل بيوتها ثمة مأساة وثمة مهانة يومية لكرامة الانسان بفعل العجز على تلبية أدنى مقومات الحياة الآدمية، فثمة أطفال لم يصلهم العيد، وثمة نساء لا يجدن طعام لأطفالهن؛ وثمة رجال غارقين فى غلبة الديون يقتلهم قهر الرجال. ولا غرابة إن تشهد غزة ثلاث حالات انتحار خلال أول يومين من أيام العيد وهم ضحايا لتلك المأساة ؛ فهم يهربوا من جحيم العجز إلى ما يعتقدوا أنه رحمة الموت؛ إنه القتل الرحيم ينفذه الإنسان بنفسه حينما يصل العجز واليأس منتهاه.
وفى المقابل ثمة عجز من نوع آخر يعتري صناع القرار الفلسطينى، إنه العجز السياسى أمام الواقع القائم للحالة الفلسطينية برمتها ولقطاع غزة بشكل خاص، فبعد ما يزيد على عقد من الانقسام بين شطرى ما تبقى لنا من وطن وعدم قدرتهم على تصويبه، أُلقوا بكرة لهيب الانقسام فى ملعب الشعب الفلسطينى بعد أن فشلوا على إطفاء لهيبها؛ وكأن الشعب الفلسطينى لم يكفيه مأساة عقد من لهيب الانقسام الذى أحرق الأخضر واليابس ليتكفل هو أيضا بإنهائه.
والسؤال فى هذه المرحلة الحاسمة .. هل بمقدور الشعب أن ينهى الانقسام والسؤال الأهم ما مصير هذه القيادات إن قام الشعب بمهامهم عوض عنهم، وللعلم خيار إنهاء الشعب للانقسام بنفسه هو خيار شمشون للقيادة؛ فإذا خرج الشعب للشارع فلا أحد بمقدوره التنبؤ بما سيحدث لأن عند تلك النقطة تتوقف السياسة وتتجمد ويفتح الباب واسعا لنار الثورة والجنون والفوضى، ولن يكون بمقدور أيا كان تأجيلها أو التصدى للهيبها مهما توهم فى نفسه تلك القدرة وتناسى حقائق التاريخ والتى تؤكد حتمية ثورة الشعوب عندما تفقد الأمل فى تغيير واقعها المتردى.
والشعب الفلسطينى وفى غزة تحديدا قد وصل إلى مرحلة اليأس من تغيير واقعه؛ وإن حاول البعض نفى ذلك وتجميل واقع غزة والتغنى بصمودهم وصبرهم الذى نفذ؛ وأولئك هم من يقدمون له خيار الثورة على طبق من ذهب لعجزهم المزمن على أن يكونوا قادة حقيقيين. وانفجار غزة لن يقتصر على حدودها وسينتقل لهيبه حتما إلى المحيط فى منطقة هى بالأساس عاصفة بكل أنواع النيران الكامنة تحت رماد ربيع العرب الذى لم تلبث نيرانه فى الانطفاء بعد.
إن استمرار الأوضاع فى غزة على ما هى عليه ستقود حتما إلى الانفجار الذى أجلته على ما يبدو وإلى حين مسيرات العودة، ولكن ومع فقدان هذه المسيرات لزخمها بفعل القمع العسكرى الدموى الاسرائيلى لسلميتها؛ وبفعل سوء إدارتها الذى اتسم بالتخبط خاصة فى الأوقات الحرجة لتلك المسيرة؛ والتى كانت تتطلب استعدادا وخطط ممنهجة للتعامل معها بحيث يبقى زخم هذه المسيرات فى تنامى؛ ولكن الارتجال المعتاد فلسطينيا أدى إلى النتيجة العكسية؛ وهو ما أدى إلى تكريس واقع علاقة قطاع غزة مع إسرائيل إلى نفس ما كانت عليه محكومة بمعادلة الردع العسكري؛ وذلك مع إدراك إسرائيل لعمق الأزمة التى تغرق فيها غزة وحكامها الفعليين ومحدودية تأثيرهم لأوراق اللعبة السياسية التى بحوزتهم على تغيير أى شئ فى المشهد المأساوى القائم فى القطاع.
وليس صحيح قط أن إسرائيل تخشى من انفجار غزة، وقد أعدت إسرائيل العدة جيدا لليوم التالى لانفجار غزة بحيث تكون هى أقل المتضررين وأكثر المستفيدين من الفوضى التى ستعقب هذا الانفجار والفراغ السياسى الناتج عنه، والتى من المؤكد أنها لن تقتصر على قطاع غزة، وقد تنصلت إسرائيل من مسؤوليتها عن مأساة غزة وعن كل تبعات انفجارها سلفا؛ وهى تدعي ليل نهار أنها الأحرص على إنهاء تلك المأساة وتلقى بها على عاتق طرفى الانقسام .
ومن الواضح أيضا أن أقوالها فى هذا الصدد وجدت آذانا صاغية دوليا وإقليميا؛ وهى فى انتظار الفوضى الخلاقة مجددا لأنها البيئة المثلى لتمرير صفقة القرن وفرضها على الفلسطينيين وهم غارقين فى صراعاتهم الداخلية وأزماتهم المزمنة التى من السهولة بما كان أن تحول المشهد إلى حرب أهلية مع أول قتيل فلسطينى على يد أخيه الفلسطينى.
إن كلمة السر لتفادى هذه المأساة القادمة ليست لدى الشعب الفلسطينى؛ ولكنها لدى أصحاب القرار فى شطري الوطن وخاصة فى قطاع غزة لأنهم سيكونوا هم أول وأكثر الأطراف خسارة مع الكل الفلسطيني والقضية الفلسطينية التي لن يكون مصيرها إلا التصفية، والحكمة فى هذه الظروف الصعبة تقتضى منهم إدراكا عميقا لموقع أقدامهم فى جغرافيا سياسية جديدة تتشكل فى الشرق الأوسط ولا مكان فيها إلا لأقدام الفيلة ولا يحكمها إلا منطق القوة .
فيا أيها القادة ... أليس فيكم رجل حكيم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق