وقعت اليابان والإتحاد الأوروبي مؤخرا إتفاقية للتجارة الحرة واسعة النطاق، وصفها المراقبون بالإتفاقية التاريخية ( ستلغي اليابان بموجبها الرسوم عن 94 بالمائة من وارداتها من الإتحاد الأوروبي، فيما سيلغي الأخير الرسوم عن 99 بالمائة من وارداته من اليابان، وذلك بطريقة تدريجيا).
نعم، الإتفاقية بالفعل تاريخية. ليس لأنها بين إثنين من أكبر إقتصاديات العالم فحسب، وليس لأنها ستخلق أكبر منطقة إقتصادية مفتوحة للتبادل الحر تغطي نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وليس لأنها ستكون بمثابة عامل توازن للسياسات الحمائية التجارية التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وإنما أيضا بسبب حقيقة أخرى هي أنه، منذ معاهدة لشبونة في 13 ديسمبر 2007 التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2009، معلنة تأسيس الإتحاد الأوروبي بدستورها الحالي، لم ينجح الأخير في التوصل إلى إتفاقية للتجارة الحرة مع أية دولة أو مجموعة بما في ذلك الصين التي تعتبر أكبر شريك تجاري للإتحاد. وربما كان الإستثناء الوحيدة في هذا السياق هو سنغافورة التي وقع الاتحاد الأوروبي معها اتفاقية للتجارة الحرة في سبتمبر 2013، وفيتنام التي وقع الأوروبيون معها اتفاقية مماثلة في أغسطس 2015 من بعد مفاوضات دامت عامين ونصف العام.
ولسوف يحقق الإتحاد الأوروبي إنجازا إضافيا لو تمكن من إبرام إتفاق مع الهند مماثل أو شبيه لما أبرمه مع اليابان. وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أن الملف مطروح بقوة على جدول أعمال القمم السنوية الهندية ــ الأوروبية. وإذا كانت المفاوضات التجارية والاقتصادية بين الجانبين قد شهدت خلافات وتعقيدات كبيرة في السنوات الماضية فأثرت سلبا على عملية التفاوض حول إبرام إتفاقية التجارة الحرة المنشودة، فإن الآمال انتعشت منذ القمة الهندية ــ الأوروبية الثالثة عشرة في بروكسل سنة 2016. ففي تلك القمة تقرر إستئناف المفاوضات، كما تم وضع خارطة عمل لتحقيق الشراكة الإستراتيجية بين الطرفين بما فيها إنجاز إتفاقية للتجارة الحرة والإستثمار واسعة النطاق بحلول العام 2020، علما بأن الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري للهند وستظل كذلك حتى بعد خروج بريطانيا من الإتحاد. وقد جدد الطرفان إلتزامهما هذا في القمة الهندية ــ الأوروبية الرابعة عشرة التي عقدت في نيودلهي العام الماضي، حيث لوحظ أن الجانب الهندي برئاسة رئيس الحكومة "ناريندرا مودي" كان الأكثر تشديدا على ضرورة المضي قدما لإزالة كل المعوقات الحائلة دون إبرام الإتفاقية النهائية مع الجانب الأوروبي الذي يدرك "مودي" جيدا أن مساهمته ذات أهمية كبيرة ومؤثرة في أجندته الإقتصادية لبلاده، وأن أي تراجع سوف يلحق الضرر بتلك الأجندة التي يود إستثمارها انتخابيا في العام المقبل كي يقود الهند لفترة حكم جديدة. وتتجلى الصورة بطريقة أوضح حينما نعلم أن نيودلهي حريصة على ألا يصيب أدنى ضرر بالإستثمارات الأوروبية الأحادية المتدفقة على الهند، خصوصا تلك التي وقعتها مع فرنسا سنة 2016 حول إنشاء محطة نووية للأغراض المدنية في جايتابور بولاية مهاراشترا، والأخرى الخاصة بالاستثمار في مشروع مد مترو بنغالور بقيمة 200 مليون يورو، ناهيك عن صفقة شراء 36 طائرة مقاتلة من نوع رافال على أن تقوم فرنسا بتصنيعها في الهند، علاوة على إستثمار الفرنسيين مبلغ 2 مليار يورو في مشروع لبناء مدن ذكية في أكثر من مكان من الهند، ولاسيما منطقة "بودوتشيريPuducherry " الإتحادية بجنوب الهند والتي كانت يوما ما مستعمرة فرنسية فشذت عن بقية المناطق الهندية لجهة ثقافتها وتراثها ومعمارها.
الحقيقة هي أن عقبات كثيرة تقف في طريق الجانبين الهندي والأوروبي لتحقيق ما يطمحان إليه، بدليل أنهما لم يحرزا تقدما بعد 16 جولة من المحادثات الشاقة طبقا لتصريح وزير التجارة والصناعة الهندي "سوريش براباهو" لصحيفة "ذ إيكونوميك تايمز" الهندية (يقال أن أحد أكثر الإشكالات يكمن في حرص المفاوض الهندي على الخروج بنتائج لا تغضب بعض الجماعات والقوى السياسية الداخلية التي ما برحت تنظر إلى هكذا مفاوضات بعين الشك والريبة وتعتبرها بمثابة مفاوضات بين "شمال متقدم غني" و"جنوب متخلف فقير"). وقد أضيفت إليها اليوم عقبة إضافية مقلقة تتمثل في ضبابية العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وبمعنى آخر فإنه من الصعب على أي من الطرفين إتخاذ قرار قبل وضوح صورة الصفقة النهائية للخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي (البريكست). وتتجلى العقبات في إختلاف الجانبين حول ما يطلبه كل منهما من الآخر. فالهند مثلا تطالب الأوروبيين بمنح شركاتها فرصا غير مقيدة للعمل داخل الأسواق الأوروبية في مجال تكنولوجيا المعلومات مع ضمانات لحماية بياناتها، وفي مجال تصدير مكونات السيارات الهندية مثل محركات الديزل وصناديق التروس وانظمة التوجيه الهيدروليكية وممتصات الصدمات (تحظى أوروبا بالحصة الأكبر من هذه المكونات بنسبة 38 بالمائة من الإجمالي)، فيما يطالب الإتحاد الأوروبي الهنود بتخفيف القيود على الأوروبيين لجهة الإستثمار في قطاعي البنوك والتأمين ومجال تجارة التجزئة، علاوة على تخفيض رسوم إستيراد المركبات أوروبية الصنع. ويمكن أيضا أن نضيف هنا معوقا أقل أهمية يتمثل في حقيقة أن للهند إتفاقات ثنائية للإستثمار والتجارة مع العديد من دول الإتحاد الأوروبي. حيث تطالب نيودلهي بالإبقاء على هذه الاتفاقات المبرمة سارية المفعول، فيما يحاول الاتحاد الأوروبي منع أعضائه من الإستثمار في الهند قبل التوصل إلى إتفاقية التجارة الحرة المنشودة.
د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يوليو 2018
الايميل:Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق