جرت يوم الخميس الفائت 28/6/2018 مراسم تشييع جثمان المحامية الراحلة فيليتسيا لانجر في مدينة توبينغن الألمانية. وقد شارك في المراسم وفد فلسطيني رفيع المستوى يتقدمه ممثل الرئيس الفلسطيني، القيادي د. نبيل شعث، وضم سفيرة فلسطين في المانيا، د. خلود دعيبس، وكذلك السيد محمد بركة رئيس اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل، وعشرات من أبناء الجالية الفلسطينية . وكان في استقبال الحاضرين ابن الراحلة الكبيرة، ميخائيل لانغر، وأفراد عائلته.
وقد تلقت المؤسسات الحقوقية التقدمية في العالم، بما في ذلك الفلسطينية منها، نبأ وفاة لانجر بحزن عميق، وأبّنها البعض كما يليق بتاريخ عطائها للقضية الفلسطينية وبنضالها الصادق ضد الاحتلال الإسرائيلي وبدفاعهاعن ضحاياه من الأسرى والمبعدين والمضطهدين.
كانت فيليتسيا - "فولا" كما عرفها أبناء فلسطين في سنوات السبعين ألاولى - طلائعية ورائدة في تصدّيها لموبقات الاحتلال، وذلك بعد أن تبنّت موقف حزبها الشيوعي الإسرائيلي القاضي بضرورة دعم كفاح الفلسطينيين والتصدي لممارسات المحتلين وفضحها من خلال جميع الوسائل والامكانات.
ألقيَت عليها، وهي محامية في رقة الورد وعناد شوكه، واحدة من أصعب المهام وأخطرها في ذلك الزمن، هي الدفاع عن أسرى الحرية أمام قضاء عسكري لم يعرف العدل يومًا ، ويعمل في حضرة جنود كانوا يستقبلونها في كل مرّة تدخل معسكرات جيشهم "كخائنة" لشعبها وهم مدجّجين بحقد بهيمي وبنشوة سكرى وبعربدة المنتصرين الحمقاء.
من الصعب أو ربما من المستحيل أن تتخيل أجيال اليوم ظروف تلك السنوات العجاف التي تلت حرب ال 1967 وما خلّفته من تداعيات ومرارة، فإسرائيل اليوم ليست تلك الدولة "المزعومة" المتمسكنة ، واحتلالها طال وشاخ وعاب ولم يعد حصان الرهانات العاثرة ؛ ولم يبق من فلسطين التي رأتها فيليتسيا ب"أم عينها" ، إلا رذاذ عطر معتق وأصداء لفرسان سقوا غد أمة تائهة برقًا ورعدًا.
كانت تستقبل فيليتسيا في مكتبها الكائن في شارع كورش ١٤ في القدس الغربية كل الفلسطينيين. لم تلتقيهم كمحامية فقط فمعظمهم جاؤوها باحثين عن حضن وحليف وسند ، ولتسمعهم بقلبها قبل أن تقف معهم في قاعات المحاكم بحنجرتها أو "بسيفها" في السجون والمعتقلات.
فلسطين لا تنسى جراحها ولا الذين أضاءوا عتمها بشموع صدورهم. أبناؤها يتذكرون الذي زرع الفل على شرفات آمالهم, ومَن صرخت، في ليل كلّه ليل، "أولئك إخواني" ومضت على طريق الشوق تخيط من أجلهم للحرية قلائد وتبني قلاعًا للكرامة وللعزة سدودًا .
ففيليتسيا التي عرفتها كانت "أمّاً" للرحمة" تمامًا كما رثاها الأسير السابق عطا القيمري، لأنها كانت بعينيه تلك "الانسانة الرقيقة الفاضلة وكانت الأم والأخت والرفيقة المناضلة ، وكانت مواقفها أمام المحاكم الإسرائيلية مواقف في الصلابة يسجلها التاريخ كشهادات في الدفاع عن الحق ورد الظلم والعدوان؛ فهي لم تنس أبدًا أنها انسانة قبل أن تكون شيوعية أو يهودية " .
قد تعكس هذه الكلمات الصادقة مشاعر كثير من الفلسطينيين الذين عايشوا النكسة، وتعكس كذلك ما شعرت به الأجيال التي كبرت لاحقًا على اسمها وعلى كتاباتها؛ فمعظم القيادات والشخصيات الفلسطينية والمؤسسات الحقوقية العاملة في قضايا الأسرى والمحررين عبّرت عن تثمين مسيرتها الكفاحية وعن " كونها من أبرز المناصرين للحقوق الفلسطينية ومن أوائل المحامين الذين دافعوا عن حقوق الأسرى الفلسطينيين في سجون ومعتقلات الاحتلال الاسرائيلي وأمام محاكمه العسكرية والمدنية" كما جاء في نعي "نادي الاسير الفلسطيني" وعلى لسان الحركة الاسيرة في سجون الاحتلال ، أو حين دعت "لجنة التنسيق الفصائلي في محافظة بيت لحم والقوى والمؤسسات والفعاليات الوطنية" وفتحت، فور وصول نبأ رحيلها، بيتًا للعزاء بتاريخ 24/6/2018 في مخيم الدهيشة، على ما يعنيه هذا المكان وطنيًا ونضاليًا في مسيرة مقاومة الاحتلال وفي الذاكره الشعبية الفلسطينية .
تحوّل مكتب فيليتسيا لانجر في سنوات النضال الفلسطيني الفضي لا إلى عنوان لاستقبال المراجعين والموكّلين فحسب، بل إلى مقر تجتمع تحت سقفه معظم القيادات الوطنية البارزة في ذلك الزمن، من فلسطين المحتلة عام 1967ومن مناطق ال 48 خاصة قادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي.
لن يكفي هذا المقال لاحصاء جميع الأسماء التي استأمنت مكتبها، فمن غزة كان حيدرعبد الشافي مرورًا ومن جنوب الضفة فهد القواسمة ومحمد ملحم ثم من القدس بشير البرغوثي وابراهيم الدقاق وجريس خوري ومن محافظات الوسط مثل كريم خلف وابراهيم الطويل وتيسير العاروري ومن نابلس بسام الشكعة فعنبتا وحيد الحمدالله وعشرات من قادة النقابات العمالية واتحادات الطلبة والاتحادات النسائية؛ كان مكتبها عنوانًا لجميعهم يلتقون فيه لمناقشة القضايا الوطنية الملحة ولرسم الموقف القضائي السياسي إزاءها.
بقيت فيليتسيا "كاللبؤة الأم" حتى نهاية الثمانينيات، حين بدأت تشعر، وهي الانسانة الحساسة والمحامية المجربة والسياسية الذكية، أن هذه "الغابة" لم تعد "ميدانها" المألوف، فقررت أن تبدل أوطانها وتستمر في عطائها وتحقيق انسانيتها الخالصة النقية، وانتقلت وزوجها من "حلبة العجز" إلى ألمانيا، أرض المجازات الموجعة، فعوّضت بنشاطاتها شقاء منفاها وضنك غربتها.
لم يبُح دمعها بجميع أسباب انخذالها، فأضافت، مقلّةً، بتصريح على أنها قررت ألا تكون "ورقة التين لهذا النظام بعد الأن.." وأنها تترك بلدها "ليكون نوعًا من التظاهر والتعبير عن اليأس والاشمئزاز من النظام".
لم تكن فيليتسيا يومًا ورقة التين لسياسات إسرائيل، بل كانت أول من أسقط جميع الاقنعة عن وجه " الغولة"، لكنها، وأن لم تعترف بذلك، هاجرت بسبب فقدانها للأمان في مجتمعها وللنور في المقاومة وللوفاء في دهرها وبعد أن تحققت خسائرها على جميع الجبهات؛ ففي بداية التسعينات قصم ظهر النظام الاشتراكي حلمها الذي تربت على أعتابه وصار هذا الفضاء سرابًا، وفي بداية التسعينيات بدأت قلاع الجبهات اليسارية تتساقط كالوهم وصار هذا المدى ركامًا، وفي بداية التسعينيات أيضاً تعرت الأيديوليجيات الكبرى من قشورها فصار بيتها/ حزبها رهانًا واهنا، وفي بداية التسعينيات كذلك لبست فلسطين المقاومة حلة أوسلو فصارت أرضها "حبلى" وكان على وعدها السلام.
لقد نفضت حطام حلمها وعادت الى قلق المنافي لكنها بقيت كما كانت، وكما وصفها رفيقها الشاعر شكيب جهشان "باقة ورد جوري ، اسراب يمام بيساني، رف سنونو، صدر معطاء ميمون كعباب التين، فيليتسيا ، دفق امومه، در حليمه، ورحيل دائم صوب النور، مدفأة في كانون، وضياء رفاق خلف الديجور"
نعم لقد عاشت حرة ورحلت حرة وكان "كعبها" كما قالت ست الشاعر يومًا "أنقى من شارب مملوك مأجور"
وستبقى لنا المعلمة والملهمة والصلاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق