لم تكن تلك الوقائع الصعبة التي مرت بها القضية الفلسطينية بعد استشهاد الرئيس الشهيد ياسر عرفات سوي انعكاس لما بعد التجربة الفلسطينية التي أفرزت وقائع الانقسام بين ابناء الشعب الواحد بكل مسمياتها وإشكالها وما ألت إليه الأمور والأوضاع في غزة الحبيبة المنسية الغالية التي تنتفض وتتذكر أهم حدثين في تاريخها المعاصر علي المستوي الوطني وهي خروجها عن بكرة أبيها أطفالا ونساء ورجال من رفح الي بيت حانون يوم 1/7/1994 يوم ان عاد الرئيس ياسر عرفات لأرض الوطن لاستقبال القائد ابو عمار مؤسس الثورة الفلسطينية ومعلن الدولة حيث عبرت غزة كل غزة عن فرحتها بعودة القائد وانتصاره وتوالت المهرجانات الممتدة علي امتداد القطاع , يوم تاريخي لم تنساه غزة , والحدث الأخر كان يوم رحيل الرئيس الشهيد ياسر عرفات 11/11/2004حيث بكت غزة لفراق القائد وخرجت تنتظر مرور المروحيات المصرية من سماء مدينة غزة وهيا تحمل جثمانه الطاهر الي مدينة رام الله فخرجت غزة في لحظة واحدة ايضا من رفح حتي بيت حانون في مشهد وطني كبير لن ينساه شعبنا وبين الحدث الأول والحدث الثاني كان الحدث الأهم وهو إحياء ذكري رحيلك 11 من نوفمبر 2007،هذا اليوم خرجت غزة لتحتضن كوفيتك وتعانق صورتك ولتكون أنت رمزها ولتعلن للجميع رفضها الانقسام فكانت غزة واقفة صامدة رافضة الذل والانقسام ومعلنه أنها تحبك يا قائد المسيرة يا رمز الوحدة يا ابو الوطنية الفلسطينية فقامت حماس في هذا اليوم بقمع المحتفلين وأطلقوا الرصاص تجاه جموع ابناء الشعب الفلسطيني ، مما أدي إلي استشهاد 11 مواطن بينما أصيب العشرات بجراح مختلفة.
سيدي الرئيس :
يقولون من انت
انتصار الممكن علي المستحيل
انا من هناك .. من ارض الحب والخير والعطاء.. انا من وحي الأنبياء .. انا من تلك المساحة المنسية في عالم أصبحت فيه الإنسانية وجهة نظر .. انا من مكونات الأشياء كنت ومن بقايا الهزيمة شكلت لغتي .. انا ابن لهذه البلد المطعونة في خاصرتها .. انا من بلد يقتل الأخ أخيه ويطعن الابن أبيه .. انا من بلد التناقضات والعجب .. انا ابن المرحلة .. انا صوت من لا صوت لهم .. انا البحر الهادر حزنا من جنوبه الي شماله .. انا السماء .. انا الارض .. انا الفكرة .. انا العودة .. انا المخيم .. انا الفجر القادم ..
سيدي الرئيس :
كم مرعبة هي رائحة الموت التي تنبعث من وطن أصبح بدون عنوان.. كم مرعب أن تعيش خارج القانون وان تبحث عن شربة ماء ساعة الظهيرة .. كم مرعب أن تقف منتظراً في طابور الموت .. وأن يقرر موتك هؤلاء المارقين القتلة ..
الموت في بلادي أصبح مجرد حروف تكتب علي صفحات هزائمنا المتلاحقة.. والموت أصبح بأشكال متعددة منها من يعدم رميا بالرصاص ومنا من يعدم دهسا أو في انفجار ومنا من يعدم ضربا حتى الموت ومنا من يعدم شنقا ومنا من يعدم وهو ميت ومنا من يعدم بالسم .. القتل له أشكال متعددة والهدف هو واحد بكل الأحوال .. الهدف هو إنهاء حياة الآخرين دون ثمن أو بثمن بخس .. كم كانت وحشية المفردات .. هي بشعة لدرجة أن تكون عديمة الأخلاق وحتى عديمة الإنسانية في تلك المساحة التي هي أساسا خارج التكوين الجغرافي لمعني الكينونة والنظام والدولة..
هو الموت والموت الحتمي يأتي ألينا كل صباح مع تباشير الموج الهادر في البحر المتوسط الذي يكشف اسرار الموت هناك ..
كم هو مرعب ان تكون بدون مأوي وان تفترش الأرصفة الباردة وان يبكيك الاطفال في انتظار ما يسد لوعة جوعهم وينقذ حياتهم .. وكم هو مرعب ان يتحدد لونك من اختيار مسجدك لأداء الصلاة وتصبح عبادة الله شرطا لتحديد لونك ولفهم من تكون أنت .. فتتوحد مع نفسك للعبادة وترفض ان تنصاع للأوامر فتسجل في سجلات الخارجين عن القانون ويفتح لك ملف وتنتظر ان يزج بك في زنزانة الحقد الأسود ..
سيدي الرئيس :
لم أحاول سماع الأخبار في تلك الأيام ولم أفتش مواقع الانترنت ولم أطالع الصحف خوفا من معرفة إحصائيات القتلى الجدد والأطفال الرضع ولكن تقتحمني رائحة الموت إلي درجة الغثيان فتنبعث بأسلوب مقزز تقشعر له الأبدان ويهتز له الانسان ..
هي مجرد أرقام في سجلات الموتى الأحياء.. لم أتحدث هنا عن السبب ولا عن طريقة تنفيذ جرائم القتل فبشاعة الموقف تؤكد إننا مجرمون بكل ما تعنيه الكلمة من عبر وتؤكد أن القتل هو عنوان هؤلاء الذين يعشقون الدماء ولا حسابات عندهم سوي أن يكونوا هم أسياد القبيلة .
لم نستوعب أن نكون قتله في زمن التشرد والهزيمة ولم نستوعب معني أن يكون الفلسطيني بدون وطن وان يكون العالم وصيا علي شعب سجل في سجلات الانروا وينتظر المساعدات بداية كل شهر فهذا يعني أن نكون أسياد للقبيلة وان تكون قبلتنا هي الوهم المتجدد فينا فتلك المساحة الضيقة بين أن نكون أو لا نكون أفقدتنا البوصلة كما افتقدنا الوطن فغابت عناوين المرحلة وتبدد الحلم وأصبح رمادا.. مجرد سراب ينبعث مع رائحة الموت الكريهة ونفايات القمامة المتراكمة على أزقة الهزيمة في مدينة الخراب والدمار والحلكة السوداء .. المسماة غزة ..
إنها غزة المدينة الجميلة الهادئة الرائعة التي يحتضنها البحر بصمته الرهيب يخيم عليها السواد والحزن والموت..
غزة التي يحتضنها التاريخ تهمزنا وتبكينا وتمزق قلوبنا..
غزة العاجزة عن الوصف بلاد البرتقال الحزين والتين والزيتون يغلبها البؤس والبائسين ويهزمها المهزوم والمهزومين وينتحر علي بوابه ميماس الشوق والحنين .
غزة فجر التاريخ وللتاريخ فيها حكاية وألف حكاية كانت وكبرت وتكبر فينا لتكون بداية القصة التي نعيشها روعة العمر وخلود الوفاء والذكري والسنين.
أنها حقيقة نعيشها بكل جوارحها وهمومها.. أنها حقيقة نتجرعها كل يوم.. أنها وقائع الهزيمة التي تلاحقنا.. فما أصعب ان لا نري سوي أنفسنا .. ما أصعب أن نرى الوطن بقناع أسود وان نكون خارج الإنسانية.. ما أصعب أن نعدم أنفسنا في اليوم خمس مرات وان نقرأ الفاتحة علي قبر أبرهة الحبشي وان نكتب الشعر في زمان الردة وان نعلق قصائدنا على جدران الكعبة وان نمتدح حاكمنا وان نصبح مجرد أصنام تدعو الله الغفران وان يفرج كربنا وان ينصرنا علي أعدائنا ويعزز خطواتنا ويحفظ أموالنا وان يلهم الله حاكمنا وان نري الإمارة في حلم قبل صلاه الفجر وقد تحققت أمانينا ..
سيدي الرئيس :
ما أصعب زماننا وما أصعب أن نتنفس هواء الليل الملوث بالحقد الأسود وان نأكل طعامنا برغيف خبز ممزوج بدماء المقتولين غدرا في زمن أصبح فيه القتل هواية..
يا الله ارحم شعبنا وارحم أهلنا وكن معنا في بقاع الأرض ونحن نفترش الغربة ونتألم بوجع الانقسام ونقهر في وطن يسمي وطننا..
سيدي الرئيس :
في ذكري رحيلك عودتك كتبت لك عن مساحة حلمي التي يحاولون قتلها ويحاولون اجتثاث فلسطينينا .. فأنت ملهمنا وقائدنا أنت موحد شعبنا وستبقي رمزنا الوطني وحلمنا الكبير.. سأكتب عن تلك الحكاية عن وطن أصبح وطنين وشعب أصبح شعبين وعن علم أصبح بدون الوان ..
رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق