ما بدأنا نتابعه من دعوات لتشكيل مؤسسات بديلة عن وكالة "الأونروا"، إنما هو خطر إستراتيجي يُضعف القوة السياسية لقضية اللاجئين، ويحولها إلى قضية إنسانية، حتى أن الدعوات لتعويض برامج وأنشطة أوقفتها الوكالة أو يمكن أن توقفها من خلال منظمات إنسانية وخيرية منتشرة في العالمين العربي والإسلامي والعالمي، غير مقبولة على الإطلاق، لأن هذا سيفتح شهية صانع القرار الأمريكي والإحتلال الإسرائيلي للمزيد من الضغط وتجفيف منابع الدعم المالي من الدول المانحة لـ "الأونروا" وبالتالي ستكون خطوة تمهيدية لإنهاء دور الوكالة بالكامل، عدا عن أن تلك الدعوات تنزع عن الكيان الإسرائيلي - وبالتدرج - مسؤولياته تجاه قضية اللاجئين، وتمثل تراجع منهجي لأهمية الإلتزام الدولي من قبل جميع دول الأمم المتحدة تجاه اللاجئين من خلال وكالة "الأونروا".
كما تعتبر تلك الدعوات بمثابة إلقاء دولاب إنقاذ وتحقيق الحلم الذي يسعى ترامب ونتنياهو و"الحلفاء" إلى تحقيقه جاهدين منذ عقود، بإنهاء عمل الوكالة في ظل الوقت الذي يجري الحديث فيه عن صفقة القرن ومحاولة إزالة ملف اللاجئين عن طاولة المفاوضات المرتقبة بين الكيان الإسرائيلي والسلطة الوطنية الفلسطينية..
لكن لماذا هذا الإستهداف "الجنوني" لوكالة "الأونروا" الذي يشارك فيه صانع القرار الأمريكي والإحتلال الإسرائيلي وتُسخر له الأدوات من السياسيين والكتاب والإعلاميين والدبلوماسيين..؟
فَشِلَ إتفاق أوسلو و"ملحقاته" بالإطاحة بـ "الأونروا" وبقضية اللاجئين وحق العودة سواء على مستوى نقل الخدمات إلى وكالة أخرى عربية أو إسلامية أو بتحويل الخدمات إلى الدول المضيفة أو أي منظمة أممية أخرى، لا بل إن التجديد الأخير لعمل الوكالة في كانون الأول/ديسمبر 2016 لثلاثة سنوات حظي بموافقة ودعم 167 دولة، لهذا بات إستمرار عمل الوكالة يشكل عنصر قلق وإزعاج حقيقيين للإحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية وحلفائهما يراد التخلص منها بأي وسيلة ممكنة، وأصبحت كالشوكة في حلق الإحتلال، فهي الشاهد على جريمة الإحتلال باغتصاب فلسطين وطرد وتشريد أهلها، وتديم صفة اللاجئين لحوالي 6 مليون لاجئ فلسطيني بحسب قواعد الأمم المتحدة التي تعتبر بأن من ترك بيته في عام 1948 في فلسطين هو لاجئ وجميع ذريته أيضاً لاجئين، وتغذي روح اللاجئين وتمسكهم بحقهم في العودة، وتعبر عن مسؤولية الأمم المتحدة السياسية تجاه اللاجئين بعد أن اعترف المجتمع الدولي بالشرعية المزيفة للكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين وفق القرار 181 لتاريخ 29/11/1947، لذلك يُراد إنهاء خدماتها أو تفكيكها وبعثرة برامجها.
وكالة "الأونروا" في بدايات تأسيسها تختلف عن اليوم الوكالة اليوم؛ وفقاً للقرار رقم 212 في 19/11/1948، أسست الأمم المتحدة "هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين" وذلك لتقديم المعونة للاجئين الفلسطينيين وتنسيق الخدمات التي تقدمها لهم المنظمات غير الحكومية وبعض منظمات الأمم المتحدة الأخرى مثل اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية والمنظمة العالمية للاجئين.
بعد إنشاء "هيئة الأمم المتحدة" فقط بأسبوعين، صدر القرار 194 عن الجمعية العامة لتاريخ 11/12/1948، والذي بموجبه تم التأكيد على حق العودة والتعويض وإستعادة الممتلكات، وتشكيل لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين (UNCCP) تضم كل من تركيا وفرنسا وأمريكا وتكليفها بمهمة وضع آليات لتطبيق حق عودة اللاجئين إلى أماكن سكناهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وبعد مرور سنة أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة وكالة "الأونروا" وفق القرار 302 لتاريخ 8/12/1949 كوكالة مؤقتة لمدة سنة واحدة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بتطبيق القرار 194، فديباجة القرار 302 والفقرة الخامسة والفقرة العشرين يشيرون الى أن إنهاء ولاية "الأونروا" مرتبط بتطبيق القرار الأممي.
في العام 1949 أُعطيت الوكالة مهمة "تشغيل" اللاجئين الفلسطينيين بالإضافة إلى توفير الخدمات الإنسانية من صحة وتعليم وإغاثة والتنسيق مع الدول المضيفة لإدماج اللاجئين في إقتصاديات المنطقة والعمل على توطين غير الراغبين بالعودة ويقيمون في الدول المضيفة في لبنان وسوريا والأردن ومصر.. خاصة بأن الأمم المتحدة أجبرت تلك الدول على توقيع اتفاقيات الهدنة مع الإحتلال الإسرائيلي في فترة قياسية بين شهريْ شباط/فبراير وتموز/يوليو 1949، مما أنشأ مناخاً سياسياً مناسباً للبدء بعملية التوطين دون إعتراض الدول المضيفة، وإستغلال الوضع الإنساني المتردي للاجئين، لكن من أوقف المشروع هم اللاجئين أنفسهم بوعيهم وإدراكهم لما كان يحاك ضدهم.
في الوقت الذي جرى فيه تعطيل دور "لجنة التوفيق الدولية" منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، وعملياً تعطيل أي محاولات لإيجاد آليات لتطبيق حق العودة أو توفير الحماية للاجئين الفلسطينيين بمعناها الشمولي، القانوني والإنساني والجسدي، استمرت وكالة "الأونروا" بتقديم خدماتها ليحقق هدفين رئيسيين، الأول إنساني بتقديم المساعدات، والثاني سياسي بإبراز قضية اللاجئين وبقاء الوكالة كشاهد حي على مأساة اللجوء والتشرد إلى حين العودة. لا تزال ولاية الوكالة مؤقتة يتم تجديدها كل ثلاثة سنوات، وآخر تجديد لشهر حزيران/يونيو 2020.
جرى التأكيد وفي أكثر من مرة على الهدف الذي لأجله تأسست الوكالة، فعلى سبيل المثال لا الحصر وبتاريخ 12/12/1950 صدر القرار رقم 393 وبموجبه أسندت الجمعية العامة للأمم المتحدة لـ "الأونروا" مهمة العمل على دمج اللاجئين الفلسطينيين في إقتصاديات المنطقة بجانب تقديم الخدمات الإغاثية لهم، وفي العام 1959 قدم الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد ورقة الى الجمعية العامة للأمم المتحدة تتضمن مقترحا يقضي بتوسيع برامج تأهيل اللاجئين وتعزيز قدراتهم على إعالة أنفسهم، والإستغناء عن المساعدات التي تقدمها إليهم وكالة "الأونروا" وتوطينهم في الأماكن التي يتواجدون فيها، مع مناشدة الدول العربية المضيفة للاجئين التعاون مع الوكالة الدولية".
تعتمد وكالة "الأونروا" في ميزانيتها على الدول المانحة، وتماشياً مع الهدف الرئيس الذي أُنشأت لأجله وهو دمج اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة لا نستغرب بأن الكيان الإسرائيلي كان من المساهمين مالياً في صندوق وكالة "الأونروا" حتى سنة 1995، ففي سنة 1991 بلغت مساهمات الإحتلال 68900 دولار، وفي سنة 1992 بلغت 112141 دولار، ومع توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993 وصلت مساهمات الإحتلال ذروتها لتصل إلى 1422079 دولار لتنفيذ برامج بالتنسيق مع الدول المضيفة يكون هدفها دمج اللاجئ الفلسطيني في أماكن تواجده تماشياً مع المرحلة السياسية الجديدة والإعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي والتخلص الفعلي من حق اللاجئين بالعودة.
توقفت مساهمات الإحتلال الإسرائيلي في صندوق الوكالة في العام 1995 وهو العام الذي شهد توقيع إتفاقية يوسي بيلين أبو مازن في سويسرا في نهاية شهر تشرين الأول / أوكتوبر من العام 1995، وتم تأجيل الإعلان عنها بعد إغتيال رابين مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه. على الرغم من أنه لم يتم تبني الإتفاقية رسمياً من قبل حكومة الإحتلال الإسرائيلي أو الحكومة الفلسطينية، فقد أعلن عنها بيلين في 31/7 و 29/11/1996 بأنها ستكون مرجعاً مهماً للمفاوضين السياسيين حول مرحلة الحل الدائم. ورد في البند الرابع من الإتفاقية "تَحِل هيئة دولية جديدة محل وكالة غوث اللاجئين "الأونروا" لتعمل على إعادة تأهيل وتأمين إستيعاب اللاجئين في دول وأماكن إقامتهم، والعمل على تطوير الأوضاع المعيشية والإقتصادية والإجتماعية وتذويبهم في الحياة اليومية للمجتمعات الذي يعيشون في محيطها وتتكفل حكومة "حزب العمل" التعامل ثنائياً مع الدول المعنية والأطراف الدولية الراعية، من دون صخب أو ضجيج إعلامي حتى لا يشكل ذلك إحراجاً للسلطة، وممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف بالتعاون مع الدول المضيفة لضمان إغلاق الملف نهائياً".
جاء التوقيع على وثيقة جنيف البحر الميت في 1/12/2003 لـ "حل القضية الفلسطينية" مستنداً إلى أسس وثيقة بيلين أبو مازن، وُصفت الوثيقة بأنها "أخطر مؤامرات تصفية القضية الفلسطينية" ولاقت دعماً وتأييداً دوليين؛ فقد تم التوقيع بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر ورئيس الإتحاد الأوروبي والمنسق الأعلى السابق للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي خافير سولانا، والممثل الخاص لرئيس وزراء بريطانيا لورد ليفي، ووزراء خارجية أوروبيين..
حول "الأونروا" دعت الوثيقة التي وقعها عن الجانب الفلسطيني وزير الإعلام حينها ياسر عبد ربه وعن العدو الإسرائيلي وزير العدل يوسي بيلين، إلى تشكيل لجنة دولية خاصة مهمتها إنهاء عمل الوكالة مكونة من الولايات المتحدة و"الأونروا" والدول العربية المضيفة والإتحاد الأوروبي وسويسرا وكندا والنرويج واليابان والبنك الدولي وروسيا وغيرها، جاء في الوثيقة "على الوكالة أن تكف عن الوجود بعد خمسة سنوات من بداية عمل اللجنة. تعرض اللجنة جدولاً زمنياً لنهاية نشاط الوكالة ونقل وظائفها إلى الدول المضيفة"..! وعاد بيلين وتحدث عن رؤيته لحل "الأونروا" في 23/6/2008 في معهد كارنيجي الأميركي حين دعا إلى "حل الوكالة الدولية "الأونروا" وإستبدالها بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR)".
ذكرت صحيفة "إسرائيل اليوم" في 6/12/2011 "أن إسرائيل تحرِّض على إغلاق وكالة "الأونروا" بحجة أن هذه الوكالة تشكل عقبة أمام أي اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين بسبب المعايير المختلفة لوضع اللاجئ الفلسطيني"، أما عضو الكنيست عن "حزب الاستقلال" عينات بلف فقالت، "إننا نؤيد مساعدة الفلسطينيين في الأمم المتحدة في مجال التعليم والصحة، ولكن ليس عن طريق هذه الوكالة التي تضر بجهود السلام". ودعا سلفان شالوم وزير خارجية الإحتلال الإسرائيلي السابق في تصريح له في 7/11/2005 الى نقل صلاحيات وكالة "الأونروا" الى السلطة الوطنية الفلسطينية.
على الرغم أن ما يدفع في صندوق الوكالة الدولية "الأونروا" هو عملاً تطوعياً تقوم به كثير من الدول العربية والغربية مشكورة، إلا أن الأمم المتحدة تعتبر مسؤولة مباشرة عن تمويل الوكالة الدولية في حال واجهت أي عجز مالي، لأن "الأونروا" واحدة من مؤسسات الأمم المتحدة، وفي حال تقاعست أي من الدول عن الإيفاء بإلتزاماتها، فعلى صندوق الأمم المتحدة المركزي أن يلبي الإحتياجات ويعوض العجز ولو على سبيل الإقراض.
في هذا الإطار نستطيع أن نتفهم بأن العجز المالي والتخبط الإداري الحالي في الوكالة ليس من فراغ فهو يأتي في سياق عمل منهجي سياسي أمريكي إسرائيلي يهدف للضغط على "الأونروا" وحل نفسها بنفسها والضغط عليها مالياً لرفع توصيات وإبتكار حلول "إبداعية" إما بتحويل خدماتها الى الدول المضيفة أو تحويل الخدمات كلها أو جزء منها إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أو السعي لايجاد مؤسسة بديلة تقدم الخدمات الإنسانية فقط، وقد بدأ هذا الضغط المالي مع إتخاذ إدارة الرئيس الأمريكي ترامب قراراً بتجميد مبالغ مالية كان مقرراً أن تدفعها إدارته في صندوق "الأونروا" منذ بداية العام 2018 قيمتها حوالي 350 مليون دولار، فالدول المانحة خاصة الغربية منها ليست بجمعيات خيرية ولا تقدم وجبات ساخنة، بل لها أهداف وغايات سياسية خاصة بها، وليس صحيحاً بأن أسباب العجز المالي في صندوق الوكالة يعود الى إختلاف الأولويات لدى تلك الدول وهي التي تدفع لتغذية الحروب المبالغ الخيالية، فعلى سبيل المثال تبرعت الدول المانحة لسلطة الحكم الذاتي في العام 1996 بمبلغ 2 مليار دولار والسبب في ذلك اقتصادي وسياسي يتماشى مع أهداف توقيع إتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والإحتلال الإسرائيلي عام 1993.
تكرّس دعوات البحث عن "مؤسسة جديدة" بديل عن "الأونروا" بأن أزمة الوكالة هي أزمة مالية وأنه بالإمكان من خلال المؤسسة الجديدة توفير تلك المبالغ المطلوبة وحل المشكلة، وسيكون صحيحاً وسيتم ضخ الأموال الخيالية لأنه سيجري - من خلال تلك المؤسسة - تفريغ المعنى السياسي تجاه اللاجئين من خلال "الأونروا"، وحينها لن يتأخر ترامب والحلفاء عن دعم تلك المؤسسة وبالمليارات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق