(نعيب زماننا والعيب فينا... وما لزمانِنا عيب سوانا!!!) – (الإمام الشافعي)
هناك (آفَّتان) فكريتان تفتكان بمجتمعاتنا الثقافية العربية، منذ أكثر من ربع قرن، هما:
أولاً: (آفَّة التلذُّذ بالتبعية)!!، التي تصاعدت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك، وهي (ليبرالية محافظة)، توصف بأنها (جديدة!!)، نشأت متوازية مع (ظاهرة المحافظين الجدد) في إدارة زمن (بوش)، حيث روجت لمفهوم (الخلط بين المقاومة، والإرهاب)، وأيدت (عسكرة العولمة)... الخ. هنا نميز بين هذه الظاهرة المعادية للتقدم، و(الحداثة الحقيقية)، و(الليبرالية العربية التقدمية) العفوية، التي أسست للنهضة والتنوير منذ مطلع القرن العشرين.
ثانياً: (آفَّة العقل الحاراتي)!، التي تبنت (نظرية أولاً)، بأسلوب غرائزي، وقامت بإقامة الأسيجة الحديدية، حول نفسها، بترسيم حدود الحارات، متوهمةً أنَّ سياسة (اللَّهم نفسي)، سوف تحميها من الأعداء!!، لأنه حين تنفجر الغرائز، تحرق نفسها (أولاً)، وتحرق الآخرين في الأوطان المشتركة، وما بين الآفتين: (الاندلاق، والانغلاق)، حدث التشتت الفكري.
(1) – التلذذ بالتبعية:
الحرية، والديمقراطية التعددية النوعية، العدالة في توزيع الثروات، وتوزيع السلطة الإدارية، هي من أُسس جوهر (الليبرالية القومية، والوطنية) في الدولة الديمقراطية. كما أنَّ )حق الاختلاف)، كان وما يزال، حقاً مشروعاً في التعددية الفعلية، لأنَّ حق الاختلاف، يقود إلى شرعنة الديمقراطية، مهما كانت ردود الفعل: غير عقلانية، أم عقلانية لدى الأفراد، فهي في النهاية، تمنح الحيوية للمجتمع الديمقراطي. وفي المقابل، فإنَّ (التضامن)، ضد الإكراه الخارجي، لا يتم إلاّ عبر (سياسة التشاور)، إذْ لا يجوز للطبقة الحاكمة، التي يعاد إنتاجها بين حين وآخر، خصوصاً في الأزمات، أن تدعي أنها صاحبة الحق الأوحد في تحديد آليات مواجهة الإكراه الخارجي، ما لم تكن منتخبةً من المجتمع، وتمثله تمثيلاً صحيحاً، وما لم تكن (القوانين) نفسها من إنتاج المجتمع نفسه، أي (وطنية قومية)، ولها مرجعية خاصة، حتى لو استفادت من التجارب الديمقراطية في العالم، فهي في النهاية، يفترض أن تحمي حقوق: الأفراد، الجماعات، الدولة، بعيداً عن تغول سلطة الحكومات على الأفراد والجماعات، وبعيداً عن ادعاءات بعض الأفراد، أنهم يمثّلون (الوطنية الصحيحة)!!. فالوطنية الصحيحة، هي التي تمتلك ما يشبه الإجماع الذي يتحقق عبر تطبيق القوانين التي صاغها المجتمع بنفسه. و(المرجعية)، أيضاً، تحتاج إلى إجماع، لتصبح نموذجاً يقتدى، حتى لو قمنا بتطعيم هذه المرجعية القومية والوطنية، بأفكار مستوردة من الخارج، لأنَّ درجة شرعية هذه الأفكار المستوردة، يفترض أن تتطابق مع الإجماع، أو شبه الإجماع، حتى لو كان الإجماع على (الاختلاف المهمش). وهذا لا يتم إلاّ عبر (سياسة التشاور) التي تقود إلى الإقناع العقلاني، بوساطة الحوار. لقد تشكلت نواة الليبرالية القومية في النصف الأول من القرن العشرين حول فكرة الحرية، والتعددية الثقافية، والعدالة، ومحاربة الاستبداد – قادتها (طليعة ثقافية متنوعة الأفكار) في ظلّ ظروف هيمنة الاستعمار الأوروبي على البلدان العربية. ونشأت هذه الليبرالية من الاحتكاك مع النموذج الأوروبي المتقدم، شبه الحداثي، لكن هذه الليبرالية القومية والوطنية، نقلت النموذج حرفياً، دون أن تنجح في توطينه، لهذا، كانت ذات طابع (شعاري)، كما أنها كانت وطنية قومية، وإسلامية عفوية، بسيطة وبريئة: (عبدالرحمن الكواكبي، رشيد رضا، خيرالدين التونسي، رفاعة الطهطاوي، بندلي الجوزي، جمال الدين الأفغاني، علي عبدالرازق، طه حسين، ساطع الحصري، زكي الأرسوزي، نجيب عازوري، وغيرهم كثير)، فقد طُرحت أفكار جديدة حول: الإسلام، وأصول الحكم العادل، والقومية العربية، والديمقراطية، وعلاقة العرب بالغرب، والنموذج الأوروبي، والحداثة، والفكر القانوني....الخ، وقد سميت (النهضة!)، تجاوزاً، لأنَّ عملية التوطين، ظلّت في إطار نخبوي (غير شعبي)، كما أنَّ الأفكار ظلَّت تدور في إطار حلقة نظرية )مثالية)، لكن هذا الفكر الليبرالي القومي المثالي، كان تعددياً بالفعل، وكان متنوعاً، أي لم ينحصر في اتجاه واحد. ثمَّ ظهرت تيارات فكرية جديدة في النصف الثاني من القرن العشرين، تمركزت حول تجديد الفكر الإسلامي، وصعود الفكر اليساري، وتجديد الفكر القومي، وظهرت نزعة تعددية تكاملية، ونزعة ليبرالية فردية : (مالك بن نبي، صادق جلال العظم، محمد عابد الجابري، عبدالله العروي، حسين مروة، أدونيس، مهدي عامل، عبدالله القصيمي، وغيرهم كثير)، وقد تأثر المفكرون بالأفكار (العالمثالية)، والنقد الذاتي، وقراءة الموروث من جديد، والصراع الطبقي، والنزعة الليبرالية الفردية....وغيرها. وهناك أيضاً، نزعة التمترس (بين بين) في ظل الحرب الباردة، وأفكارها العنيفة الناعمة (القوة الناعمة)، بينما انحاز البعض إلى هذا الطرف (الرأسمالي)، أو ذاك (الاشتراكي). وحين تأثرت (الدولة الوطنية)، بهذه التيارات، قامت بنقل النماذج الأوروبية، والأميركية، والصينية، والروسية، نقلاً حرفياً، فشاعت معركة (صراع النصوص) بين المفكرين. ومنذ كارثة 1967، بدأ التراجع عن المبادئ، وانتشر (الفكر التبريري)، و(الفكر الانعزالي)، فأصبحت قضية فلسطين، مثلاً، قضية قابلة للتفاوض حول (الحلّ الممكن)، بعيداً عن (الحلّ العادل والشامل).
(2) – (ثقافة المقاومة): الحياة الحرّة الكريمة:
أولاً: عندما تتحالف (المقاومة الشعبية) مع جيش الدولة، يكون الانتصار، شبه حتمي على العدو الخارجي: هناك تجربتان هامتان تحققتا في هذا المجال :(معركة الكرامة)، التي خاضها جيش الدولة الأردنية، والفدائيون الفلسطينيون معاً، عام 1968. وهناك (معركة حرب تموز 2006) في لبنان، حيث تحالف جيش الدولة اللبنانية مع المقاومة اللبنانية، وحققا انتصاراً حقيقياً على العدو الخارجي، تماماً، كما حقق الجيش الأردني، والفدائيون الفلسطينيون، انتصاراً حقيقياً على جيش العدو. إذن (معادلة: الشعب، الجيش، والمقاومة) تمَّ تجريبها والتحقق من صحتها.
ثانياً: انطلاقاً من المراجعة النقدية، التي مارستها (مصر عبدالناصر) في نهاية الستينات، ولدت (حرب الاستنزاف)، ضد العدو الخارجي، تمَّ فيها نوع من التحالف بين المقاومة الشعبية المصرية، وجيش مصر، حيث أدت حرب الاستنزاف ذات الطابع الشعبي المسلّح إلى (النصر) الذي تحقق في حرب أكتوبر 1973.
ثالثاً: استطاعت (الثورة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية)، عام 1982، رغم (حصار بيروت) لثلاثة أشهر، أن تصمد في وجه العدو، حتى أنه لم يستطع دخول بيروت الغربية، إلاَّ بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وهي مزيج من مقاومة شعبية فصائلية، وقوات نظامية (جيش التحرير الفلسطيني)، بل استطاعت الثورة الفلسطينية هزيمة العدو في عدة معارك أساسية عام 1982، منها (معركة قلعة شقيف، معركة مخيم البص، معركة مخيم الرشيدية، ومعركة الدامور، ومعركة مطار بيروت، ومعركة المتحف، ومعركة خلدة، وغيرها). وتجلت روح المقاومة في المثال التالي: يقول المقدم في الجيش الإسرائيلي (عقيبا تسيموفي)، الذي جرح جراحاً خطيرة في معركة الدامور، ما يلي حرفياً: (لن أنسى ما حييت، منظر ذلك الطفل الفلسطيني اللعين (14 عاماً)، الذي كان يطلُّ علينا من سيارة جيب عسكرية، وبيده قاذفة (آر بي جي)، وهو يسخر منا. كم وددت لو يقع ذلك الطفل الفلسطيني اللعين في قبضتي، لكن ما حدث، هو العكس، فقد مد لي لسانه هازئاً، حينما عاجلني بقذيفة، جعلتني أبكي دماً).
رابعاً: عام 2005 ،انسحب العدو من قطاع غزة المحتل، تحت تأثير ضربات المقاومة في انتفاضة الأقصى. وفي عام (2008 – 2009)، شن العدو، عدواناً على قطاع غزة، بهدف (الإبادة التدريجية) للشعب الفلسطيني، لكن النتيجة، كانت (صموداً يشبه النصر).
(4) – عسكرة الليبرالية الجديدة:
- لكن هذه الانتصارات منذ (معركة الكرامة، 1968)، وحتى صمود غزة الرائع (الذي يشبه النصر)، مروراً بحرب الاستنزاف المصرية، وحرب أكتوبر التحريرية، وانتصارات المقاومة اللبنانية عام 2000 و2006، وقبلها معركة صمود بيروت 1982 – كل هذه المقاومات، لم تقنع (التيار المتأمرك، والمتأسرل)، و(التيار الليبراليالعدمي)، بأنّ ثقافة الحياة، هي ثقافة المقاومة، التي تنتج حياة حرة كريمة، بدلاً من (ثقافة التسول)، التي كانت نتيجة لنهج )مفاوضات من أجل المفاوضات)، والتي شقَّت المثقفين العرب إلى قبائل وحارات.
- وهكذا، وفي ظلّ الاحتلال الأمريكي للعراق، تمَّت (عسكرة الليبرالية الجديدة) الأمريكية، في الشرق الأوسط، وفي ظل (ليبرالية ثقافة الاستهلاك)، التي قادها (المحافظون الجدد) في أميركا، ولدت في الوطن العربي، (ليبرالية جديدة) عربية، تابعة لمفارقة الجمع بين )الأفكار الليبرالية)، و(أفكار المحافظين الجدد) الرجعية، وأصبحنا (سوقاً للاستهلاك)، لا أكثر، ولا أقل: استهلاك السلاح، استهلاك السلع، استهلاك الثقافة القادمة عبر المحيطات، بعيداً عن أية مرجعية عربية متفق عليها. ففي ظل عولمة القطب الواحد، تمّ احتلال بلادنا، ونهب ثرواتنا، وقتل علمائنا، وتدمير بيوتنا، وأشجارنا، واغتيال مقاومينا... الخ. وتتميز (الليبرالية الجديدة) العربية، التي تقودها نخبة قليلة من أشباه المثقفين، بكل خصائص النخبة التابعة: ترفع الشعارات الأورو-أميركية، حول (الديمقراطية)، و(الحرية)، و(الرأي والرأي الآخر)، و(التعددية)، و(مؤسسات المجتمع المدني)، و(الدولة المدنية)، و(محو الحدود)، بأسلوب دعائي، شعاراتي، حتى تنامت (نزعة التصنيم)، لكل ما هو قادم عبر البحار: تمجد الأصنام الثقافية والاقتصادية، والسياسية، ونصوغ لها تماثيل التمر نهاراً، ثم نأكلها في الليل، بعد أن كنا قد صفّقنا لها، وصغنا آلاف الشعارات التي تهتف باسمها، وكأننا مجرد (سوق استهلاكي لاستهلاك الاستهلاك نفسه)، ثمَّ نجلس كالعجزة، بانتظار نظريات جديدة. وتتميز (الليبرالية الجديدة) بالديكتاتورية، فالرأي والرأي الآخر، هو رأيها الواحد والأحادي، رغم أنّ الشعار يظلّ مرفوعاً: (لا إكراه في الدين)، و(لا إكراه في الرأي) – (الطاهر وطّار)، في غياب (حق التفكير والتعبير). وقد رافق كل ذلك (تأليه التقنيات)، إلى درجة (التشيؤ): يصبح الإنسان: برغياً في الآلة الجديدة، حسب (لوكاتش)، بدلاً من النظر إلى التكنولوجيا الساحرة، على أنها مجرد أداة لخدمة تقدم الإنسان من أجل تنمية الحداثة: (الطائرات الإسرائيلية، والأميركية، هي الأكثر حداثة من الزاوية التقنية، لكن استخدامها العنصري، يضعها في خانة التخلُّف والهمجية، والعنصرية!!.
هكذا أصبح عندنا (ليبرالية قومية وطنية تقدمية) في النصف الأول من القرن العشرين، و(ليبرالية جديدة تابعة) إلى درجة التسول، في الألفية الجديدة، إحدى خصائصها، هي الانقلاب على القيم والمبادئ: بعض أشباه المثقفين، كان ينام ويأكل، ويشرب، حول موائد (الديكتاتورية)، عندما كان مثقفون وطنيون، ينتقدون الدكتاتور والدكتاتورية، ويدفعون الثمن. فجأة أصبح مداحو ثقافة الدكتاتورية، مدافعين عن شعارات الليبرالية المحافظة الجديدة، بقدرة المال الأورو-أميركي. ووصل الأمر إلى النكتة السوداء التالية: (24) مليون دولار أميركي، تتبرع بها الإدارة الإميركية، كافية لصياغة (الديمقراطية!!)، وخلق (شرق أوسط جديد!!!)، والأرجح أن هذا المبلغ، هو من أموالنا المسروقة. وتتميز الليبرالية الجديدة، بأنها تحت شعار (التفاعل الثقافي مع الآخر)، وهو أمر مشروع، نسيت أنَّ (الآخر الإسرائيلي)، هو حالة خاصة لا مثيل لها في العالم، فهو آخر، احتلالي، نووي، عنصري، دكتاتوري، قهري، استعماري استيطاني، غير شرعي، وبالتالي، فهو غير طبيعي، ولهذا لا يمكن (التطبيع) معه، سواء أكان هذا التطبيع مجانياً، أم غير مجاني، لكن) الليبرالية الجديدة)، تصف دولة الثكنة المغلقة بِـ(الديمقراطية والحداثة!!)، ولكن ما معنى هذين المصطلحين؛ أمام فضائح (مذبحة صبرا وشاتيلا)، على سبيل المثال!!. وما معنى الديمقراطية، أمام تهجير مليون فلسطيني عام 1948، وأمام الشعار الإسرائيلي (يهودية الدولة!)، وأمام (جدار العار الإسرائيلي). أخيراً، جاء (تقرير غولدستون)، ليخبرنا لأول مرة شيئاً عن (الديمقراطية)! الإسرائيلية!!.
- لقد فوجئ: القوميون واليساريون، والوطنيون، والليبراليون العفويون التقليديون العرب، بأنَّ هذه الشريحة الصغيرة (الليبرالية الجديدة)، التي نقلت أفكار المحافظين الجُدد، قد اغتصبت (التمثيل) في وسائل الإعلام، وفي المحافل والمؤتمرات الدولية، منذ مطلع التسعينات، وما تزال. وبدلاً من مواجهة هذه الليبرالية التابعة، صب) الليبراليون التقليديون) العرب، جام غضبهم على هزيمة القوميين واليساريين الذين لم يقوموا بمراجعة نقدية حقيقية للماضي القريب: (نقد الدكتاتورية والفساد)، حيث حدث العكس، أي مقارنة الليبرالية الجديدة الفاسدة أيضاً، من أجل حجز مقعد في السلطة الجديدة، تحت شعار (ضرورة التكيف) مع الظروف الراهنة. أما (الوطنيون)، فقد تمترسوا حول مفهوم (الدولة القطرية)، حيث لجأوا إلى (نظرية أولاً) أي إعادة تقسيم الحارات، وتمكين وتحصين حدودها: (كل واحدٍ يقف عند مارسه)، يضع الأسلاك الشائكة حوله، والمفارقة هنا، هي أنّ نمو (العقل الحاراتي) ورعايته، يتم في عصر العولمة، كاسحة ألغام الحدود، وعابرة للقارات، حيث يلتقي (العقل الحاراتي) المغلق، مع عقل الليبرالية الجديدة التابعة، التي فهمت (الذرائعية) على أنها (الانتهازية)، وفهمت العالمية على أنها (التأمرك، والتأسرل، والتفرنس)، وفهمت تحرير اقتصاد السوق على أنه يعني: (من يهبش أكثر من الوطن!) حتى أصبح الطرفان: (المنغلق والمندلق)، يخافان من طرح شعار: (من أين لك هذا!)، لأنه يعني كشف الفساد بأشكاله كافة. وهكذا، أصبحت (الليبرالية المحافظة الجديدة) الفاسدة، تصف المقاومة، بأنها (حقيرة!!)، وبأنها (إرهابية!)، وبأنها (ثقافة الموت)، وتصف الشهيد، بأنه (انتحاري). أما حول التطبيع الثقافي مع العدو، فهو بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة، (معرفة العدو من الداخل!!): ترويج لثقافة السلام مع إسرائيل، يوازيه تعتيم على الثقافة الوطنية الفلسطينية!!. أما المثقفون القوميون الوطنيون (البريئون)، فهم حيارى، أو سكارى وما هم بسكارى، تأكلهم الحيرة:
اشترى مثقفان مقهوران، (جزراً إسرائيلياً) من سوق الخضار في بلد عربي وعادا إلى بيتيهما:
الأول: أكله الندم في الطريق إلى البيت وبدأ يفكر في الخلاص من الورطة، لكنه لم يتخذ قراراً، بل ظلّ حائراً، ووضع الجَزر في مطبخ العائلة. لاحظت ابنته الصغيرة، وزوجته كتابات عبرية على الكيس، فتصرفتا كما لوكان رب العائلة قد ملأ كيساً بالأفاعي، وطلبتا رمي (الجزر) في الحاوية، وأذعن المثقف للقرار دون مجادلة، وشعر بالراحة للقرار، لكن الندم ظلَّ يلاحقه، لأنه لم يتصرف منذ البداية.
الثاني: قدم التبرير التالي: الجزر تنامى في تراب فلسطين – 48، أي في أرضنا المغتصبة، فأنا أشم من خلاله رائحة فلسطين، ثمّ إنني دفعت ثمنه للبائع، وكان عليه أن يرفض استيراده، حصل جدل خفيف بين أفراد العائلة، ثمّ التهموه.
- وباختصار، يمكن أن نحدد أهم صفة لمفهوم (الليبرالية الجديدة)، التي ظهرت موازيةً لأفكار المحافظين الجدد، هي (فلسفة الانتهازية)، وهي غير البراجماتية الذرائعية، التي تعني تبادل المصالح. فالفلسفة الانتهازية الليبرالية، هي نوع من التستر بالقيم المثالية، والعمل ضدها في انٍ معاً، للحصول على مقعد في قطار امتيازات حاويات العولمة، حيث تضخ العولمة، يومياً نفايات المعرفة، ونفايات السلاح، لإشعال الحروب المذهبية، والطائفية، تحت ذريعة (محاربة الإرهاب الأصولي)، رغم أن الإرهاب الأصولي، هو أيضاً من مخترعات العولمة. وكان الهدف، هو الخلط بين المقاومة المشروعة إنسانياً، وفي القوانين الدولية، وبين الإرهاب، الذي هو اعتداء وعدوانٌ على المدنيين الأبرياء، الذين لم يقترفوا ذنباً، فهدف الإرهاب ووسيلته، ليسا مشروعين. أما (المقاومة)، فهي فكرة وممارسة إنسانية عالمية، يمارسها البشر، ضد معوقات التقدم والتحرر والتحديث، ومن هذه المعوقات: الاحتلال، العنصرية، الاضطهاد، والتخلف بأشكاله كافة، وبالتالي، فإن (المقاومة)، ليست حالة تاريخية مؤقتة، لأنّ المجتمع المثالي العالمي، لم يتحقق بعد، حتى نسبياً. وهي حالة إنسانية دائمة، ما دام الفقر والتخلف والاحتلال والعنصرية، والإرهاب، والاضطهاد، موجوداً على وجه الأرض. وقد أثبتت تجارب الشعوب المقاومة، التي تحررت من الاستعمار، أنه: (لا مفاوضات بدون قوة مساندة)، وأن (ما أُخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة)، وأن (التلذُّذ بالتبعية)، لا يعيد أرضاً محتلة، ولا يدفعنا إلى الحداثة!!.
(5) – العقل الحاراتي:
- ومن جهة أخرى، فإن (العقل الحاراتي)، الذي قادنا إلى (نظرية أولاً)، التي جاءت للتغطية على أمور أخرى داخلية، يتناقض مع الثقافة القومية المشتركة، ومع الدين، واللغة الواحدة، والميراث المشترك، والعيش المشترك، رغم أننا عبارة عن مجموعات (غير متحدة)، تتكامل ولا ينبغي أن تتناقض: (1 .بلاد الشام، 2 .العراق والخليج، 3 .وادي النيل، 4 .اتحاد الدول المغاربية)، حيث يفترض أن تتلاشى الحدود تدريجياً في عصر الاتصالات السريعة، والإنترنت، والفضائيات، والشركات عابرة القارات، والثورة الجينية، فالفارق بين القرن التاسع عشر وبين الألفية الجديدة، هو المثال التالي: وصل خبر موت (نابليون) من (جزيرة سانت هيلانة) إلى باريس، بعد شهور. أما الآن، فالخبر يصل بعد أقل من دقيقة واحدة، حتى ولوكان في أقصى القطب الشمالي، بل يمكن رؤية الحدث في نفس لحظة وقوعه أحياناً.
أولاً: لا تناقض بين (الوطنية القطرية)، و(العروبة الديمقراطية) من حيث المبدأ، فالوطنية القطرية، هي طابق أساسي في بناية العروبة، فالكل يتكون من أجزاء، كما أن الجزء، هو طوبة في الكل القومي، ينهار البناء بدونها. صحيح أنني أحب أمي أكثر، ولكنني أحب خالتي، وعمتي أيضاً. وصحيح أنني أعتز بمسقط رأسي، وأفخر بوطني الخاص، لكن لا وجود حقيقياً لي، إلاّ بوطني العام. إنها الجدلية الواقعية المشروعة بين الخاص، والعام. وما يربطني بالوطن العام، أشياء كثيرة: العيش المشترك، والثقافة المشتركة، واللغة المشتركة، والدين، والمعتقدات، والتقاليد، والموروث المشترك، والتطلعات المستقبلية المشتركة. طبعاً مع حفظ (حق الاختلاف، والتنوع) داخل البيت المشترك. كانت الإشكالية الرئيسة في الماضي، هي منع مناقشة (المسكوت عنه)، أي ما يتعلَّق بالحساسيات الشعبية: مناقشة الثقافة الشعبية، المذاهب، اللهجات اللغوية، الدين الآخر (المسيحي التلحمي)، بصفته شريكاً في الوطن، والأقليات اللغوية، والعرقية. وهذا المنع، أدى إلى انفجارها تدريجيا، بفضل العقل (الحاراتي الغرائزي)، وبفضل العقل الليبرالي التابع، فنحن حتى الآن، لم نناقشها مناقشة علمية واقعية، بل قمنا بتحويلها إلى (بنك المسكوت عنه)، وأصبحت في فترة ما، نوعاً من (المكبوت)، المرتبط بذهنية التحريم، حتى غدت فكرة المناقشة العلمية نفسها من المحرمات. وبهذا تركنا للأعداء فرصة تبنيها من أجل مصالحهم الخاصة طبعاً. الحالة الوحيدة في (القطريات العربية)، هي (حالة فلسطين)، التي هي قطرية افتراضية لم تتحقق بعد، ومع هذا، فنحن نلحظ مشاعر قطرية لدى الفلسطيني، لأنه يبحث عن الأرض، والدولة، والشعب في الوطن، والمنافي العديدة في إطار تسويغ الهُوية، لكن الفلسطيني، يظلُّ فلسطيني المزاج في المنفى، عروبياً في الوطن في مقاومته وتحديه للاحتلال، على طريقة الشاعر اليمني عبداالله البردوني: (فلسطينيونَ في المنفى، عروبيون في الوطنِ)، مع الإضافة المؤكدة، أنَّ (فلسطين -- الشتات)، تمارس العروبة، والعالمية في منافيها المتعددة من الناحية العملية. لهذا كله، يفترض أن نتسامح قليلاً مع بعض المشاعر القطرية الفلسطينية، عندما يقول لك أحدهم: (فيروز)، المطربة الساحرة، فلسطينية، لأنَّ والدها الفلسطيني، غادر مسقط رأسه الأصلي، بلدة فَسوطة، قضاء عكا، عام 1926، إلى لبنان، وتزوج أمها اللبنانية) فالمبالغة التي يمارسها الفلسطيني أحياناً، تصبح مقبولة، لأننا نتفهمها، ومع ذلك، يفترض أن يعقلن الفلسطيني مشاعره الغرائزية، وأن يضيف: فيروز لبنانية العيش المشترك، والثقافة، والحياة، لأنها ولدت وعاشت في لبنان، وعبرت (كلُبنانية) عن الحياة اللبنانية، والعربية، وغنت أجمل أغانيها عن مأساة فلسطين، فهي مطربة العرب)، وهي أيضاً، (فلسطينية – لبنانية). ما المشكلة!!. وهكذا، يمكن تصنيف هوية فيروز، ضمن مفهوم (الهوية عبر الاختلاف) وهو أمرٌ مشروع.
ثانياً: لا تناقض بين (الإسلام المكّي – المدني)، وبين (المسيحية التلحمية النصراوية)، فكلاهما شريك في الوطن، واختلاف نسبة الشراكة، لا يلغي الشراكة. فالمسيحيون العرب، هم أُمة القومية العربية منذ مطلع القرن العشرين على الأقل، وهم حماُة اللغة العربية، (ناصيف اليازجي، إبراهيم اليازجي، بطرس البستاني، فارس الشدياق، جورجي زيدان، يعقوب صروف، فارس نمر، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، خليل مطران، أمين الريحاني، مي زيادة، جورج أنطونيوس، نجيب عازوري، وغيرهم، وكان الشاعر رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، من أكثر الشعراء، تمجيداً للإسلام والعروبة... الخ). حدث هذا بعيداً عن (دولة الطوائف!) لاحقاً.
ثالثاً: في الماضي القريب، كان البعض يضع الإسلام في حالة تناقض مع العروبة. والصحيح أن الإسلام هو الذي صاغ مقولة: (عرب وعروبة)، إذْ قبل الإسلام، كانت العروبة، تعني (البداوة)، وبدون العرب، لم يكن للإسلام أن يصبح ديناً عالمياً. وكان البعض يضع (الإسلام) في مواجهة (التراث الوثني)، رغم أنَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، جاء لـِ(يتمم مكارم الأخلاق): فالعروبة الحديثة، هي ابنة (العروبة الكنعانية القديمة(، واللغة العربية القديمة، هي ابنة اللغة الكنعانية. كلُّ أمم الأرض، تفخر بموروثها، سواءٌ أكان قبل الميلاد، أم بعد الميلاد، وسواءٌ أكان هذا الموروث: مادياً، أم ميتافيزيقياً، أم عقلانياً!!: قد أكون (عقلانياً مادياً)، مع هذا، فأنا أُعجب بقول الشاعر الفرنسي (باتريس دوبان، 1911-1975): (البلاد التي لا أساطير لها، محكومةٌ بالموت من البرد)، عندما أعيش برد ثقافة الاستهلاك في عصر العولمة، وعندما أعيش جفاف اقتصاد السوق الحاراتي. ويبقى السؤال: كيف يواجه (العقل الحاراتي)، عسكرة (الليبرالية الجديدة) المحافظة: فجأة جاء الجواب، في (نوفمبر 2009) :(حرب داحس والغبراء)، حيث شارك (مئات الألوف) في معركة وصل فيها العقل إلى الحضيض، وإلى الأقدام. هبط العقل من عليائه إلى أن تمركز في الأقدام، في (لعبة كرة القدم)، بينما كانت (لعبة الأمم)، تجري في الخفاء والعلن، ضد فلسطين، ولبنان، والعراق، وأفغانستان، والصومال، والسودان، وباكستان، وأندونيسيا... إلخ. كان الحدث الكروي عادياً، ولكنه لم يكن (سحابة خريف عابرة!!)، كما عبر البعض بنية طيبة، بل كشف فجأة عن غرائزية حاراتية دموية خطيرة جداً، إذْ ذهبت أفكار (التنوير) مع الريح، تلك الأفكار التي تعب المفكرون العرب في صياغتها، ودفعوا الثمن غالياً (الكواكبي مات مسموماً) من أجل الوصول إليها. هكذا (أصبحنا نفكر بأقدامنا في الألفية الجديدة)، بفضل (الليبرالية الجديدة)، التي روجت للفكر الإندلاقي، والتقط (الفكر الحاراتي) الانغلاقي، ملامح كانت باهتة أو مكبوتة، وقام بتضخيمها إلى درجة الصفر من العقل. والأكثر خطورة، هو أنّ ذلك، قد يتكرر في أمكنة عربية أخرى. والمسألة الأخرى، هي أنه لا يمكن تلخيص كل ذلك في (غرائزية الفضائيات والصحف)، لأنّ هذه الفضائيات والصحف، تمتلكها السلطات، والقطاع الخاص الذي يدور في فلكها، فهي انعكاس لحالة التردي، حيث تمّ اعتقال (حرية التفكير) وتوجيهها نحو النتيجة السيئة. وماذا بعد: فالمصالحات الصورية لا تكفي، بل يفترض أن تدرس هذه المسألة في المستوى القومي في مراكز الأبحاث، والمؤسسات الثقافية، والجامعات، بتحليل العقل الحاراتي، وبتحليل العقل التابع اللذين قادا إلى حرب داحس والغبراء الكروية، التي هي تجسيد ظاهري، لظواهر باطنية، قد يتكرر انفجارها بأشكال أخرى.
- يقول القرآن الكريم: (إن الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بانفسهم). – سورة الرعد: 11.
(6) – جون ستيوارت ميل: الليبرالية
- (الليبرالية)، كما يرى الفيلسوف (جون ستيوارت ميل)، طريقة في التفكير، تركّز على حرية الفرد، لأنّ زيادة سيطرة الدولة، تشوه الحرية، إذا تدخلت الحكومات في هذه الحرية، وأثمن ما في حياة الإنسان، هو (الاختيار التلقائي)، فإنّ أي شيء يتم إنجازه باستعمال القوة الجبرية، فسوف يحد من مجال الاختيار، وبالتالي، يقلص مساحة الحرية. وتشمل منطقة الحرية البشرية، حسب (ميل)، ما يلي:
أولاً: مجال الوعي الباطني، الذي يطالب بحرية الضمير بأوسع معنى لها، وحرية التفكير والشعور، والحرية المطلقة للرأي.
ثانياً: الحرية في التخطيط لحياتنا على نحو يتناسب مع شخصيتنا، وطباعنا، وحرية العمل الذي نهواه، متحملين ما ينتج عن هذه الحريات من نتائج.
ثالثاً: حرية اجتماع الأفراد، وحرية الاتحاد والتعاون، لتحقيق أغراض لا تتضمن إلحاق الأذى بالآخرين – (جون ستيوارت ميل).
وكانت الليبرالية الأوروبية، قد مرت بعدة مراحل، كما يقول (عبدالله العروي): الأولى، كان المفهوم الأساسي فيها، هو (مفهوم الذات)، فالإنسان هو الفاعل، صاحب الاختيار والمبادرة. والثانية، هي مرحلة (الفرد العاقل) المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله، والثالثة، هي مرحلة (المبادرة الخلاّقة)، فالفرد الخلاّق، هو نتيجة تطور تاريحي طويل، حيث لا بد من الاعتماد على التطور التدريجي، دون اللجوء إلى مفهوم (الطفرة)، التي تقطع حبل الاستمرار التاريخي. أما المرحلة الرابعة، فهي التي حملت مفهوم (المغايرة، والاعتراض)، أي حق الفرد في الاختلاف – (عبدالله العروي). ففي أي مرحلة، نعيش نحن العرب في ظلّ هيمنه عسكرة (الليبرالية الجديدة) المحافظة، وفي ظل انفجار غرائزية (العقل الحاراتي!!)، الذ يعاد بنا إلى (حرب داحس والغبراء). وما أشبه اليوم بالبارحة. ولماذا نتجاهل (ثقافة المقاومة الإنسانية) المشروعة ضد التخلف والاحتلال، والعنصرية، وهي (ثقافة الحياة)، الحُرة الكريمة، بدلاً من العجز، والتواطؤ، والتخلف، حيث أنجزنا كتاب: (خزان النضح في فن الردح)، الذي أصبح أكثر الكتب مبيعاً بعد انفجاره، وترك جروحاً في القلب والعقل. فأين هي شعارات: الحوار الديمقراطي، والتضامن الأخوي، من أجل (الشهداء) على الأقل، ومن أجل ثقافة الإجيال الصاعدة.
(7) – هابرماس: سياسة التشاور
يحدد الفسلسوف (هابرماس)، (سياسة التشاور) على النحو التالي: (يحيل التشاور إلى موقف أكيد بخصوص التعاون الاجتماعي، وبالخصوص (إرادة الاقتناع)، بالحُجج التي تأخذ بعين الاعتبار كذلك، (مطالب الآخرين)، لا المطالب التي نعبر عنها نحن فقط. فالتشاور يتم بوساطة تبادل وجهات النظر على أساس الانطلاق من نية حسنة. (هابرماس). فهل يمكن أن تصبح (سياسة التشاور)، والحوار، والإقناع، هي البديل الصحيح من عسكرة (الليبرالية الجديدة)، وغرائزية العقل الحاراتي. تلك هي رغبة شعوبنا، وقواها الطليعية العقلانية. يتابع (هابرماس) قائلاً: (لا شك في أنّ المناقشات المرتبطة بالهوية الجماعية، هي مكون أساسي للسياسة، فبوساطتها يعي المنتمون للجماعة في الآن نفسه، الطريقة التي يتفاهمون بها فيما بينهم كأعضاء لأمة محددة لجماعة أو دولة أو كسكان لجهة ما... إلخ. كما يكون لديهم وعي بالتقاليد التي يسعون إلى تطويرها، وانطلاقاً من الهوية نفسها، يعي هؤلاء الطريقة التي يريدون العيش بها مع الآخرين والجماعات المهمشة، وأيضاً نوع المجتمع الذي يتمنون العيش فيه. – (هابرماس).
وبما أنَّ (هابرماس)، يرى أنّ (سلطة الدولة، ليست سلطة أصلية في النظام الديمقراطي)، فإن أي قرار يصدر عن الجماعة، لا بد أن تصاحبه سياسة التشاور مع المجموعات المكونة للدولة، من أحل اتخاذ القرار الصائب، لا أن تلجأ الحكومات إلى (استنفار الغرائزية)، الكامنة في العقل الحاراتي، أو تأخذ قراراً منفرداً، باللحاق بِـ(عسكرة الليبرالية الجديدة) المحافظة، دون التشاور مع المجتمع الديمقراطي التعددي. يقول (الإمام الشافعي): نعيب زماننا، والعيب فينا... وما لزمانِنا عيب سوانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق