يعد غسان كنفاني رائدا في حركة الترجمة من اللغة العبرية إلى اللغة العربية، فعرّف القارئ العربي بالأدب الصهيوني، وفتح الباب واسعا أمام ترجمة نصوص ومقالات لكتاب يكتبون بالعبرية، وبشروا للمشروع الصهيوني عن طريق الرواية والشعر. وكم كانت هذه الخطوة من غسان ضرورية بالفعل؛ لمعرفة كيف يفكر الآخر أو فتح باب للحوار معه؛ لمعرفة الأصوات التي يمكن استثمارها ومحاورتها خدمة للقضية الفلسطينية، فالمجتمع الإسرائيلي ليس مجتمعا متجانسا، والمثقفون الإسرائيليون ليس كلهم صهيونيين.
وهذا أيضا يتعلق بالترجمة المعاكسة، وهي ترجمة الأدب العربي إلى العبرية وهي مفتوحة ويجب أن تكون متاحة دون النظر إلى حقوق مؤلف أو كاتب؛ إذ إن أغلب النصوص التي يتم ترجمتها منشورة على الشبكة العنكبوتية، وبذلك أصبحت حقا للجميع في أن يستفيد منها شرط أن يذكر المصدر والاسم، فمن حق الكاتب أن ينسب نصه له، ومن حق المترجم أن يترجم نصا أعجبه ويتفق مع رؤى يرتئيها أو لأي أهداف يسعى إلى تحقيقها.
إن ما حدث مؤخرا من ترجمة الدكتور ألون فراجمان لمجموعة من النصوص لـ (45) كاتبة عربية في كتاب حمل عنوان "حرية" دون أن يحصل المترجم على الإذن بذلك، وما صاحب الخبر من سلسلة استنكارات من الكاتبات ما هو إلا زوبعة فارغة من المعنى والمضمون، إذ لا يمكن أن يتهمهن أحد أنهن موافقات على هذا الفعل، أو أنهن قمن بالاتصال بالمؤلف أو الناشر، وعليه فإن مخافة الموافقة ساقطة فعلا، وربما كانت تلك الاستنكارات هي لسد باب الاتهام والتحقيق أولا، لاسيما أنهن كاتبات عربيات يعشن في دول عربية، تدعي أنظمتها أنها تكره إسرائيل ولا تتعامل معها ألبتة، وهي في حالة حرب معها ليلا ونهارا. مع أن هذا ليس هو السبب الحقيقي لهذه الموجة من الغضب العربي النسائي، إنه أشبه بتلك (الزعبرة) المقصودة للفت الانتباه إلى أن هؤلاء الكاتبات أو بعضهن بطبيعة الحال تمت ترجمة نصوص لهن إلى اللغة العبرية، وكأنها نوع من المباهاة المستورة بستار عدائي تمثيلي ليس أكثر. فلسان حالهن يقول كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني: "أفَّيهْ وخاطري فيه".
لقد جاءت معظم تلك الاستنكارات خجولة ويبدو عليها رفع العتب، لتضرب صاحبات الاستنكار عصفورين بحجر واحد، إضافة إلى عصفور ثالث سيذهب إلى أولاد العم بقضه وقضيضه وهو الأسمن والأكبر، يتلخص في عمل دعاية مجانية لهذا الكتاب، وتكون دار النشر قد حققت أهدافها بأقل التكاليف، فنحن شعوب عاطفية، يستفزها ذكر إسرائيل وسرقاتها، ونصبح وطنيين وأخلاقيين كأننا لم نسرق ولم نعتد على أحد، فكم من صحيفة عربية ومجلة عربية وموقع إلكتروني عربي ودار نشر عربية تستنزف الكتاب وتعتاش على أفكارهم، ويستغلونهم ولا يدفعون حقوقهم، نسكت عن ذلك ونصمت، وفي حالة الترجمة إلى العبرية من أستاذ أكاديمي يريد التعريف بالأدب النسوي العربي لطلابه تقوم مثل هذه الزوبعة التافهة جدا.
لعل أكبر نكتة ليست طريفة مطلقا استناد أولئك الكاتبات إلى وهم التطبيع، ونسين أن بعضهن زار فلسطين بإذن الاحتلال، ألا يعد هذا تطبيعا مكشوفا مفضوحا؟ ألا تقوم بعض الكاتبات والكتاب أيضا بالتحايل مع دور نشر أجنبية أوروبية وأمريكية لترجمة أعمالهن في الخفاء إلى اللغة العبرية؟ والأسماء كثيرة وكبيرة. كم كاتب عربي وكم كاتبة عربية اتخذ موقفا حازما ضد الدعوة والمشاركة في الفعاليات الثقافية الفلسطينية كموقف الروائية المصرية سلوى بكر التي فازت بجائزة محمود درويش للإبداع عام 2017 ورفضت أن تأتي لاستلامها؟ إن هذا الاستنكار الخجول لهو نفاق ثقافي وخديعة للقارئ العربي الذي رأى في فعل الدكنور ألون فراجمان جريمة نكراء تضارع بل تفوق سرقة فلسطين ونكبتها.
إن ادعاء الكاتبات أن فراجمان صهيوني إسرائيلي، ولذلك فهو عدو، والترجمة إلى العبرية هي خدمة لدولة الاحتلال، فماذا تهتم الكاتبات والكتاب أجمعين بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، أمريكية وبريطانية، وإلى اللغة الفرنسية والروسية وغيرها؟ ألا تعد أمريكا عدوا وقد فعلت بنا أكثر مما فعلته إسرائيل؟ لماذا يفاخر الكتاب العرب من الجنسين بإقامة الندوات في الجامعات الأمريكية وإصدار أعمالهم في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا؟ لما تتفاخر الكاتبات وينشرن على حساباتهن المتعددة صورا لكتبهن المترجمة وهؤلاء لا يختلفون عن أولئك، بل على العكس تماما، فأمريكا وكل الدول الأوروبية بلا استثناء هي الداعم الأساسي وبلا شروط لإسرائيل، وصارت تحتقر الفلسطينيين والنظام العربي برمته بكل مكوناته وجمهورياته وممالكه وملكياته من المحيط إلى الخليج ولا تقيم له وزنا. لماذ لا ترى الكاتبات في بريطانيا وفرنسا وروسيا أعداء وهم أساس نكبة العرب وضياع أرضهم، ونحن ما زلنا منذ مائة عام نتجرع سياسات سايكس بيكو وبلفور وغيرهم من الساسة المجرمين في حق المنطقة العربية؟
لقد كشفت هذه الهوشة القبلية عن عقم التفكير للمثقفين العرب العروبيين، ولم ينظروا إلى المسألة بشمولية، وإنما وجدوا صنما مصنما وتمثالا مصنوعا لرجمه، وهو إسرائيل والإسرائيليين، وبقدر ما هم جناة في حق الفلسطينيين، فهم ضحايا أيضا لسياسات استعمارية أكبر من اليهود ودولة يهود، فالغرب لا ينظر إلى هذه الدويلة إلا أنها قاعدة متقدمة له في عمق بلاد العرب، للسيطرة عليهم وتفريقهم واستمرار تجزئتهم، وإلا لماذا إلى الآن يؤمن حكامنا ومثقفونا بأحكام سايكس بيكو، ويقدسون الحدود والأقاليم، وتنشب الصراعات الدموية بين العرب في دول العرب، وقد تطورت للأسف لتكون حروبا طائفية داخل كل دولة، وحروبا فصائلية داخل كل طائفة، فماذا قدم المثقف العربي لمحاربة هذا الوضع الكارثي سوى الدخول فيه ليكون جزءا منه؟ ماذا أحدث المثقف العربي من خلخلة للوعي العربي ليثور الناس ضد أنظمة تطبق وتحرس أفكار الغرب ومخططاته العنجهية؟ ما هو موقف المثقف العربي الذي أصبح مدجنا، ضد الأنظمة العربية التي تقيم علاقات علنية مع إسرائيل؟ كل ذلك ينساه المثقف العربي ويتشبث بنص ترجم إلى العبرية، دون إذن صاحبه، أي بلاهة نقع فيها ونحن لا ندري.
لماذا لا يرى المثقف العربي والمثقفات العربيات الغضابى أن في ما قدمه المترجم الصهيوني هو اعتراف بتميز هؤلاء الكاتبات في الوقت الذي لا تهتم بهن دولهن ولا تلتفت لإبداعتهن وبعضهن لسن أعضاء في اتحادات كتاب بلادهن حتى؟ لقد كان عمله صفعة لكل من أشاح بوجهه عن إبداعات بعضهن ورمى بنصوصهن في سلة المهملات، وهن يراسلن الصحف الكبرى والصغرى لينشرن مجانا مقالاتهن ونصوصهن، ولكن المحرر العظيم أودى بكل تلك النصوص في هاوية سحيقة من الإهمال والازدراء وعدم الاهتمام. كيف يفسر المثقف العربي أن صحيفة لبنانية تنشر الخبر عن الكتاب، ولم تشر إلى الكاتبة اللبنانية التي كانت من بين المجموعة المسروقة؟ أي غباء يمارسه المحررون في فعلهم هذا، فإذا كانت القضية وطنية وقومية وقضية حقوق، لماذا لم تبرز هذه الصحيفة اسم الكاتبة وتتبني القضية عنها، فهي كاتبة معتدى على إبداعها وقبل ذلك مواطنة لها حق كبير عند دولتها لتدافع عنها. أم أن تلك الصحيفة الكبيرة لا تعترف بتلك الكاتبة، فأبرزت في خبرها الأسماء الكبيرة غير اللبنانية، وأسقطت من الخبر اسم تلك الكاتبة؟
إذا كانت الكاتبات تطالب بحقوق لدى دار النشر الإسرائيلية، مع أن كثيرات منهن ينفقن نصوصهن مجانا للمواقع، لماذا لا يطالب الإسرائيليون بحقوقهم من غسان كنفاني وغيره من المترجمين عندما ترجموا الأدب العبري، ولماذا لا يطالب الكتاب الإسرائيليين بحقوقهم عن مقالاتهم المترجمة في الصحف العربية التي تصدر يوميا، هنا أنا أتحدث عن حق شخصي للكاتب بغض النظر عن جنسيته أو دينه.
إن كل ما هو مطلوب من المترجم هو عدم سرقة النص وادعاء كتابته أو تشويه المضمون والأفكار، وأن يكون أمينا في الترجمة، وليترجم من أراد ما أراد لمن أراد في ظل هذا الانفتاح على الأفكار والثقافات، ولن يبقى غير ما هو أصيل ويتمتع بالفنية العالية، ويساهم في إعلاء صرح الثقافة العالمية. فلا تنزعجوا من ترجمة الأعداء لنا، ألسنا نحن أيضا أعداءهم؟ فلماذا يترجمون لنا؟ ولماذا نترجم لهم؟ هذا هو السؤال، بل على العكس يجب أن نسعى إلى إنتاج نصوص نجبرهم إجبارا لا مفر منه على ترجمتها والتلهف إليها، وندفعهم لقراءتها لتشيع فيهم الخوف وعدم الأمان، وليس التلهي بحقوق زائفة ليس من ورائها سوى العهر الثقافي في واقع أشد عهرا من أي وقت مضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق