هي تلك الراهبة المتبتّلة في صومعة الكلمة، التي كرّست حروفها للمعنى والجمال. علاقتها مع القلم كالعينين في الرأس الواحدة، التقت مع القرّاء على حُبّ الكلمة وقدّسية الحرف، فأنّنا حيال أديبة لا يعرف المرء من أين يبدأ الكتابة عنها، ومن أيّ طرفٍ يُمسك بأدبها، تتزاحم الكلمات البنّاءة في سطورها، ودُرر الكلام ما أبهاها لديها.
رفعت لغة الأدب في مهجرها، بعد أن سهر قلمها مع النجوم حتّى بزوغ الفجر، لتقدّم أدبًا مرموقًا لقرّاء لغة الضاد، وها أنا أجد نفسي في إغراءٍ شديد للكتابة عن أدبها وعن ديوانها (مشكاة أخناتون).
فتلك المسافرة على بساط الكلمة لها القدرة على الإمساك بيد القارئ وإخراجه من ضجيج الحياة ورتابة الغربة، لتدخله إلى عالم التأمّل والبحث والتساؤل والروحانيات.
نقرأ لها في الديوان (مشكاة أخناتون) (ص 33) بعد أن صوّرت بعدسة الحرف تضامنها مع شعبٍ تلظى بنار الحروب والأرهاب.
((هي عادة ألفتها منذ زمن:
أن يحملني قلبي في كل ليلة
إلى بلد أرضه ليستْ كأرضنا
وسماؤه ليستْ كسمائنا
إلّا أنّهُ في هذه الليلة
أخذني إلى مكان
لا أظنُّني وطئتُه من قبل
قيل لي إنّ اسمَه الجحيم
وآآآه يا إلهي
كم كان شاسعاً هذا المكان
وكم كانت كبيرةً أنهارُه
وكثيفة غاباتُه
والناسُ يعيشونَ فيها
كما لو كانوا فوقَ أرضنا
أو كوكبنا الذي ولدنا
عليه وفيه جميعا))
على الكاتب أن يعتاد تأمّل الحياة والالتصاق بتفاصيلها، ففي النص ذاته من الديوان المذكور سلفًا، نجد الأديبة الفاضلة تُسطر لنا مناجاة باحت بها لربّها بعد أن التصقت بالواقع لتترجم بدفء عباراتها ما تصيدته وتأملته شخصيًا، لأن الكتابة عن الحياة يجب أن تنبع من الحياة نفسها:
((كيف يحدثُ هذا
قل لي يا إلهي
بل كيف يكون لهذا المكان فوهتَان؛
فوهةٌ عندكَ
وفوهة في الموصل
وأنا أركضُ بين الفوهتيْن
وأقلِّبُ القلوبَ
ذاتَ اليمين وذات الشمال
وصوتٌ من عندكَ يقول:
يجبُ أنْ تُشْوى جيّداً
كي تتطهّرَ هذي القلوبُ
أيعقلُ هذا؟!
*
صعبةٌ جدّا هذه الأسفارُ الجديدة
على قلبيَ الأخضر
يا إلهي
ومؤلمٌ جدّاً أن أزورَ أهل الجحيم
وأرى ما رأيتُه اليوم
شيءٌ لا يصفُهُ شِعْر
ولا نثْر
ولا يحيطُ به قلم
يا إلهي!))
د. أسماء من طينة الكتّاب الكبار، تعلم كيف تكتب وإلى من تكتب وعن ماذا تكتب، فهي واحدة من تلك البلابل المغرّدة التي تعاتب من غرّدت له كثيرًا، بعد أن شوّه تلك الصورة في المرآة، فنراها تطلقُ العنان لحنجرة قلمها لتدون له نداء توعية، تاركة أبجديتها تبوح بعتابِ حقٍ، وما أجمله في عباراتها المليئة بالمعنى، فنصوصها كمطرٍ ندَفت به السماء:
((حينما وقَفتَ أمامَ المرآةِ
رأيتَ نفسَكَ
فطفقتَ تكتبُ فيكَ لا فيَّ
قصائدَ طوالٍ حسبتَها عشقاً
وهياماً بي وشوقاً إليَّ
تلكَ كانتْ زلّتُكَ
فلا أحدَ كانَ ولم يزلْ
في المرآةِ سوايَ
ولأنّكَ نظرتَ إليْكَ
احتجبتُ بكَ عنْكَ
*
أنا لمْ أختفِ وإنّما أنتَ؛
أنتَ من أرادَ كلَّ شيءٍ
ففقَدَ كلّ شيءٍ
وأنتَ مَنْ جلسَ عندَ حافةِ النّهر
وعانقَ شجرةَ الصّنوْبر
نعم، هيَ تلكَ الشّجرةُ
مَنْ أخذَتْنِي منكَ
وأنا أعرفُها جيّداً
وأعرفُ أحاديثَها وصُوَرَهَا
وأفلامَها وعوالمَها السّاحرة
الغائصة في الخيال
والوهْم والمثال))
هي تلك الفتاة البسيطة التي تملك علاقة مميزة وفريدة مع ربّها، حيث حلمت ببراءة الطفولة بحلمٍ سردته في ديوانها الجميل كحكاية حلمٍ مازالت تعيشه كحقيقة معاشة بين البشر ((نعم، فالأطفالُ وحدهم يستطيعون رؤية الله / إنهم يرونهُ في أحلامهم / ويعطونهُ كل التصورات والتجسّدات)):
في تكملة النص سيجد لها القارئ اعترافات الطفولة عن صورة الله المحب، ساقتهُ بلغة العارفة وروحانيّة المتصوفة:
((أنا يا سادتي
مُجرّدُ فتاةٍ بسيطة
وإذا سألتموني عن اسمِي
سأقولُ لكُم: النّقطةُ العارفةُ
أيْ نعم، أنا أعرفُ اللهَ جيّداً
لكن صدّقوني
لم يسبقْ لي أن رأيتُهُ أبداً
لا بقلبِي ولا بروحِي....
نعم، أذكرُ أنني في طفولتي
حَلمتُ بالله
لقد كانَ الأمرُ رائعا
لأنني رأيتهُ في الحلم
يبتسمُ لي
ويلبسُ ثوباً أزرقَ فضفاضاً
ويغطّي رأسه بطاقية القمرِ
ويُزيّنُ وجههُ بقُرصِ الشّمس
وحينما قصصتُ الحُلمَ على والدتي
قالت لي وهي تربّتُ على رأسي
بيدِها البيضاء الكريمة:
ما دمتِ رأيتِ اللهَ يبتسمُ لكِ
فهذا يعني أنّه يُحبّكِ جدّا جدّا
قلتُ لها: نعمْ يا والدتي
وإني شعرتُ بذلك حقّاً
فلقد كان قلبي يرقصُ من فرط فيضِ المحبة)).
مشروع أديبتنا المسكونيّة لم يتغير عن أحلام طفولتها، وأظن وليس كلّ الظن إثمًا إنّ كتاباتها تدل على تميزها بالإدراك الصحيح لمفهوم الإنسان، علاوة على مناداتها بضرورة الانفتاح على الآخر في زمنٍ غابت فيه المحبة وانزوت القيم وشاع التعصب واستحكمت الفتن، فهي ترى وجه الله في ذلك الآخر مهما كان شكله أو لونه أو معتقده:
((أرى اللهَ في كلّ شيءٍ من حولي:
في وجه أمّي وهي تستيقظُ كلّ صباحٍ
لتعدّ لنا الخُبزَ السّاخن الطازج الشهيّ
وأباريق الحليبِ الدافء الحنونِ مثل قلبها
وتضعُ فوق المائدة العسلَ والزيتَ،
وكذا ظللتُ أراه في وجهِ أبي
وهو يعودُ إلى البيت
محمّلاً بكل ما لذّ وطابَ من الخيرات
ساعياً عاملاً كادحاً من أجل أطفاله الصّغار
وكذا بقيتُ أراه في وجهِ جارتنا المسيحية
وهي تطرقُ باب بيتنا كلّ جمعة
لتأكل معنا طعام المفتُول والثريد المغربيّ
وكذا في وجه صديقة بيتنا، السيدة العِبريّة
التي كانت تحملُ الكثير من الهدايا
لنحتفل معا كل سنة بعيد المولد النبويّ
وكانت تحملُ لي أنا على وجه التحديد
الكثير من الأقلام الملوّنة
لأنها كانت تعرفُ جيدا
أنني فتاةٌ من هذا الزّمان
تعرفُ من يكون الله
لأنه موجودٌ معنا في جسدِنا
وقلبنا وروحنا
وفي كلّ شيء يحيط بنَا))
راهبة الكلمة د. اسماء لها كلمة ذات لسان عفيف وضمير مستقيم، تحقن بواسطتها الحبيب بجرعة غزل فيه الشفاء، بعد أن رأت فيه أناها، فهي تخرج من ذاتها نحو الآخر برحلة محبّة بعد أن نبض قلبها به:
((في الطّريقِ إليَّ أو إليكَ
أغدو طفلةً حَيِيَّةً تحبُو وتَتَلَعْثَمُ،
قلبي ينبضُ بِي وبكَ
وثَغْرِي يفتُرُ عَنْكَ
ابتسامةً ليْسَ لوهَجِهَا مثيل
وأنتَ أنا
بكَ أكتمِلُ وأتَّحِدُ
عند المساءِ وفي سَاعات السّحر.
*
أطالعُ كلّ يومٍ
غابات الصّنوْبَر في عينيْكَ
وهناكَ بينَ الأشجارِ الباسقة
أجدُكَ طفلاً وحيداً
لا أعرفُ كيف أجلو الحُزنَ عنهُ
ولا الوحشةَ ولا الألم،
أتبنّاكَ ابناً لمْ ألِدْ غيرَهُ
وأحمِلكَ بين ذراعيَّ
أسقيكَ العِشقَ قطرةً قطرةً
وأبْنيكَ نقطةً نقطةً
ثمَّ أرتقُ قلبكَ العليلَ
جُرحاً جُرحاً
علّكَ تشفَى بِي أو أشفَى بكَ)).
إلى تلك الأخت الفاضلة والأديبة المرموقة التي امتطت جواد الأدب واستَلت سيف الحرف وآلفت الكتابة بإبداع كما تألف عملية الشهيق والزفير أقول:
بعض الناس كلّما كتبت خسرت، وبعضها كلّما كتبت كسبت، وأنني وبعيدًا عن أيّة مغالاة أجدكِ قد كسبتِ ودّ وعقول وقلوب القرّاء، فطوبى لكِ يا راهبة الكلمة لأنك كاتبة مقروءة.
أتمنى لكِ مواصلة الإبداع وديمومة العطاء، وفقكِ الله في خدمة الإنسان، وسيبقى أدبك خالدًا كالبحر، لا يمكن سبر أغواره، نكتشفُ فيه كلّ يوم اللّآلئ، وسنظل بحاجة إلى المزيد من التبحر لاكتشاف كنوزه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق