يمر الوضع الفلسطينى بحالة غير مسبوقة من التيه والتخبط السياسى فى كل التنظيمات الفلسطينية بمختلف توجهاتها وأيديولوجياتها، وفى خضم هذه الحالة ذابت كل الفوارق والتباينات الأيديولوجية بين التنظيمات واختلطت المفاهيم؛ فأصبح اليساري على يمين الرديكالى وأصبح العقائدى أكثر علمانية وبرغماتية من البرغماتيين العلمانيين. ولا يمكننا اليوم أن نميز أى توجه سياسى لأحد ذو صلة بماضيه السياسى الأيديولوجى؛ فالجميع تغير وأصبح يصارع فى خضم الحالة الراهنة من أجل البقاء ليس إلا؛ وذلك فى وضع يلمس الجميع فيه ضئآلة حظوظه فى البقاء ماثلة أمام عينه مع وصول كل التجارب السياسية للكل الفلسطينى إلى نهايتها بنتيجة صفر كبير.
ومعالم حالة التيه والتخبط تبدو انعكاساتها واضحة على الفصائل الفلسطينية برغم محاولات التبرير العبثية التى لا تنطلى على أحد، ولكن هذه الحالة تبدو أكثر وضوحا على مستوى القواعد التنظيمية وتبدو أوضح ما تكون على المستوى الشعبى والجماهيرى فى كل أوساط المجتمع الفلسطينى الذى فقد الثقة بالمطلق فى قدرة قياداته على إنجاز مشروع التحرير والاستقلال علاوة على فقدانه الثقة فى قدرتهم على إدارة الحياة اليومية وتوفير الحد الأدنى من سبل الحياة الانسانية الكريمة للشعب.
فلقد أخطأنا نحن الفلسطينيون عندما ابتلعنا من اسرائيل طعم أوسلو قبل أكثر من ربع قرن وصدقنا أنه يمكن لسلطة حكم ذاتى أن تتحول إلى دولة يوما ما فى ظل حكم احتلال فاشى استئصالى استيطانى عقائدى كالاحتلال الإسرائيلي. ومنحتنا اسرائيل سلطة بمحددات مقيدة جدا ومدروسة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسيكولوجيا تجعل من المستحيل على أى قائد فلسطينى اتخاذ أى قرار خارج تلك المحددات لأنه فى تلك الحالة سيغامر بموقعه القيادي أو ربما بحياته وليس أدل على ذلك من قوافل القادة الشهداء والمعتقلين من كل الفصائل منذ أوسلو وحتى اليوم والذى كان فى مقدمتهم رأس هرم السلطة نفسه الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذى قتل مسموما عندما قرر قلب الطاولة وكسر محددات أوسلو سابقة الذكر؛ وهو على رأس قيادة سلطة الحكم الذاتي.
وفى المقابل لم تكن تجربة حكم حماس فى غزه لأكثر من عقد من الزمن مختلفة عن تجربة حكم منظمة التحرير، فحكم حماس كان أيضا تحت سقف أوسلو وبنفس محدداتها فهى وصلت إلى السلطة أول الأمر عبر انتخابات برلمانية للمجلس التشريعى لسلطة الحكم الذاتي، والغريب هنا أن حماس التى عارضت الاتفاقية والسلطة منذ اليوم الأول آثرت أن يكون تمثيلها السياسى الرسمى الفلسطينى عبر بوابة أوسلو المكلفة؛ والتى كانت تُحرمها بينما كان بمقدور حماس أن تحصل على هذا التمثيل الرسمى ودون أى كلفة من خلال البوابة الوطنية والتى هى منظمة التحرير الفلسطينية.
وهذه حالة نموذجية من الحالات المتكررة والتى تشي بحجم التناقض والعوار فى الفكر السياسى التنظيمى الفلسطيني؛ وهى تعبير صادق عن حالة العوار فى النظام السياسى الفلسطينى ككل والذى ما زال ماثلا إلى يومنا هذا بعد أن عمقته اتفاقات أوسلو فتحول التناقض إلى صراع مرير على السلطة التى هى فى الحقيقة سلطة بلا أى معنى للسلطة؛ فحتى مفهوم كونها سلطة على السكان لا الأرض أصبح اليوم جزءً من الماضى فلم تعد اليوم سلطتى الحكم الذاتى فى شطرى الوطن بقادرة على الايفاء بالحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة للشعب فى شطرى الوطن بعد أن استخدمت اسرائيل صلاحياتها العسكرية والاقتصادية فى تقليص صلاحيات سلطة الحكم الذاتي، كما أن الخلل فى النظام السياسى الفلسطينى تحول إلى فشل بفعل الانقسام الذى يوشك أن يتحول إلى انفصال .
اليوم وبعد ربع قرن وبعد أن نجحت إسرائيل فى إنجاز كل ما خططت إليه من أوسلو تريد أن تنهى أوسلو باتفاقية أخرى تستثمر من خلالها كل نتائج أوسلو وما آلت إليه الحالة الفلسطينية وتثبتها على ما هى عليه، والأغرب أننا نحن الفلسطينيون لم ندرك بعد ربع قرن أن مشكلتنا الحقيقية تكمن فى وجود سلطة الحكم الذاتى تحت الاحتلال؛ وأن هذه السلطة هى العائق الأساسى والأول نحو انجاز الاستقلال والتحرر لأن اسرائيل وببساطة أوجدتها لتكون بديلا عن الدولة المستقلة؛ وليس أدل على ذلك من تصريح نتنياهو الأخير عن الكيان الفلسطينى المقبول فى أى تسوية قادمة عندما وصفه بسلطة حكم أكثر من الحكم الذاتى الحالى وأقل من دولة.
وبعد ربع قرن من التخبط والارتجال السياسى الفلسطينى والتغيرات الاقليمية والدولية؛ وما أدت إليه من تراجعات فلسطينية وتغير فى المواقف والأيديولوجيات للفصائل الفلسطينية بقى الاحتلال كما كان ويراد له اليوم أن يبقى إلى الأبد، ولا زال البعض متشبثا بسلطته التى هى تحت سقف أوسلو ورغم ذلك لا زال البعض يرفض النظر من خارج الصندوق ولا زال يرى فى بقاء هذه السلطة بقاءً لوجوده السياسي برغم أن هذا الوجود تحول إلى حالة من المسخ السياسي . والخروج اليوم من أوسلو وقلب الطاولة فى وجه اسرائيل ونحن بهذه الحالة من التيه والتخبط لن يكون فى صالح الشعب والقضية الفلسطينية، لأن عمل سياسى من هذا القبيل يتطلب حالة فلسطينية مغايرة لما نحن عليه اليوم من تيه وارتجال وتخبط وانقسام، وعلى الرغم من أن التوقيت السياسى الراهن هو الأنسب لخطوة من هذا القبيل إلا أن الحالة الفلسطينية اليوم تقف عائق أمام تلك الخطوة وهو ما يتطلب من القادة المتشرذمين أن يدركوا خطورة اللحظة التاريخية ومدى تأثيرها على مستقبل القضية والشعب الفلسطيني .
فالطريق الى الاستقلال والدولة يتعبد بوحدتنا وإنهاء الانقسام، ولن تكون دولة فلسطينية في ظل الانقسام وتحت سقف اتفاقيات أوسلو .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق