كان عمره عشر سنين عندما ماتت امه من مرض السرطان. وطاردته الامراض السرطانية، فمات بعض من اعمامه وأخواله بسببها. فعاش في ألم عميق وخوف شديد. عاش ينتطر دوره. لم ينتظر طويلاً؛ فجاءه سرطان الجلد المعروف بال Melanoma في وجهه. ولكن بدل ان يستسلم له ويموت، عاش وثار عليه. عاش ليثأر منه، وجعل القضاء عليه قضيته الأولى، بل القضية الوحيدة في حياته. فترهب لهذه القضية. كان يعرف ان الترهب هو الطريق الى الابداع. حياته، كل حياته هي عمله. من بيته الى مكتبه الى مختبره عالم متكامل هو عالمه. وهو قلما يخرج خارج أسوار هذا العالم. وان كنت في الشارع ورأيت سيارة متواضعة تحمل لوحة مميزة كتب عليها CTLA-4، وهو البروتين الذي اكتشفه، تعرف انها سيارته. عاش في عزلة عن العالم، لم يعن له شيئاً ضجيج العالم وراء عالمه. انه جيمس أليسون، الانسان الطيب الوديع والعالم الذي حاز على جائزة نوبل في الطب لسنة 2018.
وهناك طابع شخصي لجائزة نوبل هذه السنة، اذ ان أليسون هو رئيس دائرة علم المناعة في مركز M.D. Anderson Cancer Centre في مدينة هيوستن وهو من أهم مراكز السرطان في العالم ان لم يكن أهمها على الاطلاق. هنا درست. هنا تخصصت في معالجة الامراض السرطانية وهنا كنت استاذا لسنوات عديدة قبل ان أؤسس مركز سالم للسرطان. وهناك طابع لبناني ايضا إذ ان معظم الاطباء الذين دربتهم في الجامعة الاميركية ما بين 1971 و 1986 يعملون هنا، والبعض منهم يحتل مراكز اكاديمية قيادية فيها. كما ان هناك برنامج تعاون بين هذا المركز والجامعة الاميركية في بيروت.
لقد تعلمنا في الماضي ان هناك علاقة وثيقة بين نظام المناعة والامراض السرطانية. فكلما ضعفت المناعة ازدادت نسبة الاصابة بالسرطان. رأينا ذلك في المرضى المصابين بمرض السيدا وكذلك في المرضى الذين يخضعون لعلاجات تدمر المناعة. وتعلمنا ايضا ان النظام المناعي يعمل بدقة للحفاظ على الصحة ضد الالتهابات الجرثومية التقليدية. فهذا النظام يكتشف الجرثومة المعادية، ويحدد هويتها، ثم ينقض عليها ويقتلها. فلماذا اذاً يقف هذا النظام عاجزاً أمام غزو الخلايا السرطانية وتقدمها؟ جاء الجواب من الابحاث التي قام بها كل من أليسون وشريكه في جائزة نوبل لهذه السنة، العالم الياباني تاسوكو هونجو. لقد وجد هذان العالمان ان الخلية السرطانية هي خلية ذكية، إذ انها تصنع بروتينات غير معهودة وتحملها على الغلاف الخارجي للخلية. وظيفة هذه البروتينات هي شل النظام المناعي وجعله عاجزا عن احداث أي ضرر لهذه الخلية. ولمنع حصول ذلك نجح هذان العالمان في وضع استراتيجيات لتدمير البروتينات وتحرير النظام المناعي، بحيث يصبح قادراً على التعرف إلى الخلية السرطانية وتحديد هويتها، كما يصبح ايضا قادراً على ضربها وتدميرها. هذا هو العلاج المناعي الذي أحدث ثورة علمية وغيّر استراتيجية معالجة الامراض السرطانية، وجعل هذه الاستراتيجية أكثر فعالية. وتوالت الادوية الجديدة في هذا المضمار، فجاء دواء (ipilimumab) YERVOY في 2011، وجاء بعده (nivolumab) OPDIVO، ومن ثم KEYTRUDA (pembrolizumab) وغيرها من الادوية المشابهة. وها نحن اليوم قادرون على معالجة امراض كانت عصية على المعالجات التقليدية من قبل، كسرطانات الجلد (Melanoma )، والرئة ، والكلى، والمثانة، والكبد. ولم تصبح هذه الامراض قابلة للمعالجة فقط بل أصبحت قابلة أيضا، في بعض الأحيان، للشفاء التام. لقد اصيب الرئيس كارتر بسرطان ال Melanoma قبل ست سنوات ، وكان المرض قد انتشر الى الدماغ. وها هو اليوم وفي عمر 93 سنة وهو خال تماماً من المرض ويعيش حياة طبيعية بفضل المعالجة بدواء Keytruda. انه علم جديد. علاج جديد. خطوة كبيرة للعلم. خطوة أكبر للإنسانية. ونحن لم نعرف بعد حدود الفعل الايجابي لهذا العلاج كما لا نعرف حدود فعله السلبي. هذا العلاج لا يزال في طفولته. عمره سبع سنوات فقط. ولكن على رغم ذلك ها قد بدأنا نرى نتائج مذهلة لفعالية مزج هذا العلاج المناعي مع العلاج التقليدي الكيمائي، وخصوصاً في معالجة سرطان الرئة. كما بدأنا نحن في مركزنا الطبي بمزج هذا العلاج ليس فقط مع العلاج الكيمائي بل ايضا مع العلاج المستهدف. والعلاج المستهدف هو العلاج الذي يستهدف الخلية السرطانية من غير ان يمس الخلية السليمة بأي اذى. كما اننا نتطلع الى اليوم الذي يصبح فيه هذا العلاج علاجاً فعالاً في امراض وراء حدود الامراض السرطانية. امراض مزمنة، مثل امراض ال Arthritis والالتهابات الجرثومية والامراض العصبية.
لم تكن الطريق للوصول الى هنا سهلة. كانت معبدة بالفشل. لقد اصيب أليسون بالخيبة مراراً. لم يفارقه الفشل في السنوات الاولى من ابحاثه. الا انه تعلم الكثير من الفشل. لقد تعلم انه لا يمكنك الوصول الى النجاح دون المرور بالفشل؛ وتعلم أيضا ان الفشل هو قسم من الطريق الذي يأخذك الى النجاح. كان الطريق طويلا اذ ان عمر علم المناعة يمتد الى أكثر من مئة سنة. في هذا العمر، عاش ومات علماء. واحد من هؤلاء كان عالما من أصل لبناني، وكان هذا العالم بيتر مدور الذي حاز جائزة نوبل لسنة 1960.
وتعالوا نسأل ما هو المعنى الاعمق لجائزة نوبل؟ انه في اقتناعنا بان البحث العلمي هو الطريق الوحيد لصنع المعرفة وان " العقل هو الإمام". من هنا التزامنا القوي لأهمية تغيير فلسفة التربية في العالم العربي. فالتربية في مفهومنا ليست حشو العقل بالمعرفة بل هي تدريب العقل لصنع المعرفة. تدريب العقل لصنع انسان جديد. ولا بد لنا ان نتساءل! كيف تكون هذه الخلية، وهي أصغر مركب في جسد الانسان، او جسد كل ما هو حي، عالماً لا حدود له؟ وكيف تكون هذه الخلية مثل ال Cosmos ، كلما اكتشفت شيئاً ، تتراءى امامك اشياء أخرى. وكلما فتحت باباً، ترى امامك ابواباً كثيرة مغلقة. أوليست هناك حدود لهذا العالم؟ أوليست هناك حدود للمعرفة؟ للجواب، لا بد لك من ان تركع امام هيبة الخالق وتصلي قائلا " السماء والارض مملؤتان من مجدك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق