الثلاثاء: 16-10-2018
شاعرتي الجميلة، وجملتي الناعمة كالحرير، حياك وحي الشعر وبياك أيتها الشهية، أما بعد:
عادة أدمنت عليها مذ تركت الفيسبوك، عادة البحث عن منشوراتي في المواقع والصحف، والبحث عما ينشر لي على الفيسبوك من القراء، لقد فاجأني كثير من المنشورات، ومنها منشور طريف من قارئ مغربي يتندر على قصيدة لي منشورة في صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" المغربية. القصيدة هي "على كراسي العرش"، أما المنشور فمكتوب باللهجة العامية المغربية، وقد جر موجة من التعليقات الساخرة لأصدقائه كذلك من القصيدة ومن قصائد ومنشورات أخرى في الصحيفة ذاتها.
أثار فيّ التعليق موجة من الضحك، لقد سررت به كثيرا على الرغم من أن فحواه وصف القصيدة بالرداءة، وخاصة بداية القصيدة التي كانت هكذا "أناديها: ارتعشي عليّ" ما دفع هذا القارئ أن يكتب: "شريت الاتحاد الاشتراكي يحسابني اليوم كايكون فيه الملحق السينمائي. ولكن لقيت فيه الملحق الثقافي. على الحلة خرجت فواحد الشاعر سميتو فراس حج محمد كاتب قصيدة باديا هاكا: أناديها، ارتعشي عليّ".
إلى هنا ينتهي المنشور الأساسي، ولكنه فتح شهية أصدقائه للتندر على الشّعراء. أحدهم كتب: "أنا حضرت مهرجان الشعر واحدة قالت: "أنا الشرنقة أنا الفراشة" فكراتني بمقرر النشاط العلمي ديال الرابع". وكتب آخر يطالب صاحب المنشور أن يكمل فقد شوقه المنشور إلى المزيد، فأخذ يستعرض منشورات الملحق الثقافي بسخرية فيكتب يونس برياز ربما هكذا يلفظ الاسم (Baraiz) مستشهدا ببعض الأسطر الشعرية من مقاطع متعددة: "يقول نفس الشاعر في نفس القصيدة:
تعالي
وازرعي نهديك في صدري بحق الرب
......
انعجني فيّ بعنف
......
أيتها اللذة انهمري عليّ"
ويردفه بتعليق آخر: "إلى أن يقول بلا حياء:
اعتلي برجي المغمس بالندى
وانتصبي مثل ضوء باذخ يهدى
بعرف الند".
وقد طالت التعليقات الساخرة شعراء آخرين كتبوا في الملحق نفسه، يقول معلقا على أحد النصوص لشاعرة مغربية: "في أعلى نفس الصفحة تكتب شاعرة اسمها مالكة حبرشيد قصيدة بعنوان: لن أموت حتى أفقأ عين الانتظار استهلتها بالمقطع التالي: أقطع ذيله الذي زاد عن حده".
ولم تسلم القراءات النقدية من اللمز والهمز فيكتب يونس هذا التعليق: "وفي الملحق كذلك مقال كتبه دكتور اسمه أحمد زكي كنون عن الشاعر محمد السرغيني يصفه بـ "المتألق، الفواح بعطر العطاء، الغارق في بحر المعرفة...".
يبتعد صاحبنا قليلا عن السخرية، فيشير إلى مقال ما إشارة عابرة كأن اللعبة أسعدته وشوقته: أما حسن إغلان فكتب مقالا مطولا عن رواية "دانتي" لمحمد الهرادي الملتزم بـ "العلامات المزوبعة للدليل". كأن هذه الجملة الأخيرة لم تعجبه أيضا، وربما كانت غامضة فلم يستطع استيعابها.
ولم يسلم الشاعر الكبير شوقي بزيغ من التعليق فيعلق على حديثه خلال حوار مع الشاعر منشور في العدد نفسه. قائلا: "أما الشاعر اللبناني شوقي بزيغ فيعترف بأن زواجه أدى إلى تراجع منسوب قصيدة الحب لديه لأن الزواج حالة نثرية". وتخرج التعليقات خارج الملحق الثقافي ليكتب أحدهم متندرا: "وفي اليوم العالمي للشعر صاح أحد الشعراء الشباب: تحية لكل الأصدقاء والصديقات الذين من أجلنا أصبحوا (طريطورات). وتساعدني خدمة الترجمة الإلكترونية لأفهم معنى الكلمة (Traiteur)، وتعني "متعهد حفلات". وهكذا تنتهي التعليقات الساخرة على القصيدة والملحق الثقافي في صحيفة الاتحاد الاشتراكي بهذا التعليق: "في الواقع، وجدت هذه الصحيفة، وقرأت كل صفحات الملحق الثقافي"، وينهي التعليق أنه لم يعد يقرأ في صحف اليوم ما كان يقرأه سابقا من مادة أدبية وفلسفية ونقدية، وأن هذا الأمر لم يعد مستغربا.
وقفت عند هذه الحادثة، متأملا بعد أن سكتت عني موجة الضحك، ربما هناك أشياء نجهلها نحن الجيل الجديد من الكتاب والشعراء، وربما القراء أنفسهم يجهلون أشياء كثيرة أيضا، فهل يعقل أن يكتب شاعر عاش في الألفية الثالثة كما يكتب شاعر من جيل الخمسينيات والستينيات؟ وهل فعلا كانت الرداءة بهذا الحجم بحيث طالت كل مواد الصحيفة؟ ألا يوجد فينا كاتب رشيد، رصين، يُسعد يونس وأصدقاءه؟
على كل حال، بدا الأمر عابرا، أحببت أن أطلعك عليه، مع حزني المؤكد على صاحبنا الذي اشترى صحيفة الاتحاد الاشتراكي ولم يجد الملحق السينمائي، فقد خبيت وزملائي الكتاب ظنه، وذهب عمله باطلا، ولكن رب ضارة نافعة، لنا نحن الكتاب الذين حظينا بفرصة القراءة، في مجتمع أصبح فيه قراء الصحف الورقية وقراء الكتب عموما عُمْلة نادرة.
لو أردت أن أسترسل في موضوع التعليقات الساخرة على الشعراء لطالت الرسالة طولا يحملك على قوائم من خشب الملل، ولكنني أذكرك بقصيدة "الحليب والعسل" للشاعر التونسي المنصف الميزغني التي أثارت موجة من السخرية، وسرعان ما ربط القراء بينها وبين قصيدة مرجان أحمد مرجان/ عادل إمام "الحلزونة يما الحلزونة"، وعلى الرغم من محاولة قناة العربية رد الاعتبار للشاعر الكبير في برنامج "بانوراما"، عندما وصفت المذيعة منتهى الرمحي القصيدة بأنها عميقة، وإن كانت بألفاظ بسيطة تصل إلى الجمهور وتؤثر فيه، وبأنها قصيدة سياسية، مذكرة بقصيدة الشاعر الأخرى "خروف دخل البرلمان". إنها مرة أخرى مشكلة الشاعر الكبير وإن كان النص ساذجا أو تافها، مع أنه لا يوجد شاعر كبير أمام قراء الفيسبوك وتفاعلهم، هذه الظاهرة من التقييم التي بشر بها رونان ماكدونالد (Ronan McDonald) في كتابه البديع "موت الناقد"، إذ تنبأ بموت الناقد الأكاديمي المتخصص ليحل محله قارئ متذوق، دون أن يكون مجبرا على الاستناد إلى أي نظرية سوى نظرية ذائقته ومزاجيته القرائية.
لقد مررت سابقا بالتجربة نفسها وطالتني سهام المعلقين عندما نشرت هذا المقطع:
كوني امرأةً أنثى
والبسي تنورةً
فأنا لا أحبّ البنطلون
واستعملي أشياءنا
تلك التي اخترناها معا ذات حديثٍ
واستعدّي للجنونْ
فقد علق أحد الأصدقاء قائلا: إنه قد تذكر قصيدة "الحلزونة" لعادل إمام وهو يقرأ هذا النص. وما زلت أذكر تعليقات ساخرة كثيرة لزملاء العمل حوله. إنه لأمر طبيعي أن يحدث مثل هذا الأمر وأكثر منه أيضا. فللشعراء سقطاتهم لا شك في ذلك، وعليهم أن يحتملوا آراء القراء، وإلا عليهم أن يصمتوا، فلا يوجد كاتب بمنأى عن الرداءة مهما علا كعبه في الشعر، أو سطع نجمه في سماء الشهرة.
والشيء بالشيء يذكر كما يقولون أيتها الجميلة، فما زلت أذكر منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة حيث كان الشيخ عبد الحميد كشك في تسجيلاته الصوتية يسخر من عمالقة الفن والطرب، فبعض جمله عالقة في الذاكرة إلى الآن، معلقا بفكاهة ساخرة على العندليب الأسمر في قوله "إني أتنفس تحت الماء"، ليسخر منه الشيخ الجليل بقوله: "ألك خياشيم يا عبد الحليم"، وتعليقه على "أنا الهوى هوايا" قائلا: "ده الهوى مش هواك ده الهوى بتاع ربنا"، ولم تسلم منه أم كلثوم كذلك، فتناولها بسخريته التي كانت تسعد الجمهور وتثير فيه شهوة الضحك. لقد كان هذا الموضوع أيضا مجالا للتندر في واحدة من مسرحيات سيد زيان، عندما تناول بالسخرية مجموعة من الأغاني ومنها أغنية فايزة أحمد "يما القمر ع الباب"، ليقول: "بجيبوا الكلام ده منين"!، ولسة يا ما نشوف على رأيه في المسرحية نفسها.
أتمنى أيتها الغالية أن تبتسمي وأنت تقرئين هذه الرسالة، فـ "لا شيء يستدعي القلق" والتجهم، نصيب مرة ونخطئ مرات، وإننا لمستمرون حتى آخر الشوط، ما وسعتنا اللغة والحياة وما أمدنا الحب بالطاقة الحيوية كي نكون.
دمت بخير ورهافة حس وشعر، وإلى لقاءٍ، لعله صار أقرب من أي وقت مضى.
فراس حج محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق