ما الذي يمكن أن يُقالَ في هذا الكتاب بعد ما قاله الأديب فيصل الحوراني في التقديم وتحت عنوان: "قراءة الرقم الصعب"؟!
وللعيّنة يكتب الحوراني:
"إن هذا الكتابَ استبطن شخصيّة عرفات ودوافعَه، ووصف اوجهَ سلوكه، ورصد أهمّ ما اتّسمت به شخصيّاتُ الذين زاملوه في قيادة العمل الوطني الفلسطيني وغيرِهم. وإلى هذا، قدّم الكتاب نماذجَ منتقاةً بعناية من بين القادة العرب والأجانب العديدين الذين تعامل عرفات معهم، وأوضح أسلوب القائد الفلسطينيّ الفريدَ في التعامل مع كلّ واحد من هؤلاء ورأيَه فيهم. إنه الكاتب الذي يبوح دون تهيّب بما اختزنته ذاكرته من الحكايات التي تتصل بعلاقات عرفات بالقادة الآخرين، فلسطينيّين وغير فلسطينيّين، ثقتِهم ببعضهم وشكوكِه بكثيرين منهم. وفي هذا المجال، تميّز الكاتب بجرأة محمودة على تظهير ما كان مسكوتًا عنه، فوضع على حروف الكتابة الفلسطينيّة النقاط التي ما أكثر ما افتقرت هذه الحروفُ إليها، وأضاء أحداثا ووضع تحت المجهر شخصيّاتٍ كثيرة."
وفيما مكان آخر يقول:
"التحرّر من التمجيد والتفجّع ومن النفاق والتحامل أباح للقلم المتمرّس أن يصف الواقع كما هو ويرسم الشخصيّات كما هي، أو، في الأقل كما تراها عين صاحب القلم النفّاذة."
ويتابع:
"لسنا نحن إزاء مذكّرات، ولسنا إزاء سيرة، بل إزاء شهادة مبرّأة من التركيز على الذات."
طبعا الحوراني يطرق في تقديمه أبواب أخرى كثيرة ميّزت هذا المُنتَج. وحين أبحرت في عباب الكتاب وجدتُّني أوافق على جلِّ ما خطّه الحوراني.
ما من شكّ أن العنوانَ لافتٌ؛ جنون الجغرافيا، ولكن نبيل عمرو وقبل أن يأخذ بيدنا إلى الفصل عنوان الكتاب، يمسِّكنا الناصيةَ في تمهيده، فيكتب ممّا يكتب حول ذلك:
"في حال كحال زعيم استثنائي ذي طموح صعب فإنّ الجغرافيا النموذجيّة هي تلك التي يتوافر معها فضاءُ حريّة واستقلالٌ سلطوي معنوي ومادّي.. فلا معنى لحريّة بلا جغرافيا إذ إنّها في هذه الحالة تعني أمورا معنويّة كالحلم والسباحة في فضاء الأمنيات وليس الحقائق.
جنون الجغرافيا فيه الكثير من المشترك.. مع الأمراض التي يعاني منها البشر سواءٌ جسديّا أو روحيّا.. فهي تدفع المُصابَ بها إلى حالات أقرب إلى الهوس والجنون، وهو يسعى للحصول عليها وتوفيرِ مستلزمات البناء السلطوي على أرضها، وكذلك الأمرُ حين يفقدها ليبدأ دورة جديدة في البحث عن تعويضها إمّا في أمكنة أخرى وإمّا بحالات أخرى."
يقول الكاتب:
"لقد دفعت الجغرافيا المفقودةُ عرفات إلى الإسراع في إنجاز أوسلو، تماما مثلما دفعته الجغرافيا الناقصة على أرض الوطن (فضاء الحرية فيها كما يقول الكاتب في مكان آخر) لأن يتمرّد على أوسلو ولو بسلوك يكاد يكون انتحاريّا.."
هل فعلا هذا ما دفعه إلى أوسلو أم محاولةُ تحييده في مؤتمر مدريد؟!
سؤال لعلّ الكاتبَ يفيدُنا بالإجابة عليه في تعقيبه بأكثرَ تفصيل عمّا جاء في الكتاب مقتضَبا ص272!
الطاغي في أدبيّاتنا العربيّة عامة والفلسطينيّةِ خاصّة هو التجمّل، والتجمّل هو نوع من الكذب النابعِ عادة أو على الغالب من "طفوليّة جمعيّة"، يطغى عليها الخوف من تناول أو الاعترافِ والجهر بالسلبيّ فينا. فصلاح الدين الأيوبيّ مثلا، بطل "كامل الأوصاف" في جلّ أدبيّاتنا وبالتالي في تشكيل ذهنيّتنا عنه، رغم ما ارتكبه من مصائب كثيرة سياسيّة واجتماعيّة.
تاريخ حركتنا الوطنيّة الفلسطينيّة في جلّ أدبيّاتنا صحائفُ ورديّة وهي أبعدُ كثيرا عن أن تكونَ كذلك، عرفات والثورة الفلسطينيّة أيقونةٌ مقدّسة كلُّ ما فيها مضيءٌ وهي ليست كذلك.
أعتقد أنّنا كمجتمع وشعب وأمّة شببنا على طفولتنا الجمعيّة، وإن كان ما زال فينا منها الكثير فهذا دور مثّقفينا، إن لم يحسن الأمر ساستنا، أن ينطلقوا بنا نحو شباب وكهولة وشيخوخة تشير بالبنان إلى سلبيّاتها دون إغفال إيجابيّتها، وعندها أعتقد أننا نكون قد بدأنا وضعَ خطواتنا في المسار الصحيح، وآن الأوان.
هذا ما فعله نبيل عمرو في كتابه هذا، وبكلمات الحوراني:
"تميّز الكاتب بجرأة محمودة على تظهير ما كان مسكوتًا عنه، فوضع على حروف الكتابة الفلسطينيّة النقاط التي ما أكثر ما افتقرت هذه الحروف إليها..."
يفتتح نبيل مؤلّفه بحكاية الجاسوس زهران المنزرع في الصفوف، ويقول: ظلّت حكاية زهران، تلح عليّ في الذاكرة والواقع، وليتساءل: "كيف يصلُ هذا الجاسوسُ إلى عرين أبو عمّار وأبو جهاد؟!" ص27
مباشرة وبعد هذه الافتتاحيّة الصادمة نوعا ما، ينتقل نبيل إلى عرفات الشعبيّ، معيدا إليّ مشهدا عايشته مع وفد رؤساء مجالس محليّة التقينا عرفات في تونس عام 1993 وتماما كما يذكره نبيل حين يقول ص32: "لم ينجُ ضيفٌ واحد من لقمة عرفات، التي تحمل مئاتِ السعرات الحراريّة والتي يصرّ أن يقدّمها بيده لكل من يجلس على مائدته."
غيرَ أن عمرو يعود إلينا في محطّات كثيرة إلى نبر أو نبش "السلبيّات"، ولسانُ حاله يقول قولَ نلسون مانديلا: "ويلٌ للقائد الذي كلّ من حولَه يقولون له نعم"، وللمثال:
الحجز\ الاعتقال، وفي سياقنا احتجاز الكاتب، اعتمادا على وشاية ولمجرّد الكتابة مباشرة للرئيس ص44، والنزوات الرئاسيّة ص47، والأسئلة المريحة ص51، والاغتيالات ص61.
بعد هذه الوجبة من السلبيّات يعود بنا الكاتب إلى نقاط نور أو العكس، وهذا منوطٌ في فهم المقروء، فمثلا يقول ص66:
لقد نجح عرفات في تحييد الإيديولوجية وحتى البرامج السياسيّة كليا بعيدا عن تحالفاته وقراراته، وقد برع في وصف دافعه لذلك، حين اختصر الأمرَ بجملة واحدة: "ومن هو الذي يتخلّى عن المساحة المتاحة من الحريّة، ليُدخِل نفسَه في سجن الأيديولوجيّات؟! ثمّ أي أيديولوجيا نحتاج كي نتحالفَ مع عدد كبير من الدول والأحزاب والمنظّمات؟ إنّ أقربَ ثنائي منسجمٌ فيها تضطرم علاقاته بخلافات وتناقضات سرعان ما تنفجر مع اقتراب أول عود ثقاب!"
ولكنّ نبيل والعارف خفايا الأمور، وتتملّكه الرغبة الشديدة في أن يشاركَنا ما آلمه في المسيرة من سلبيّات، لا يغفلُها في أي محطّة مهما زهت ورديّتُها. فيضعنا في الانفلات وإساءة استخدام الثورة في الأردن... ص70، ونتائجِ قرار إسرائيل بتصفية عرفات وفضل السعودية ص76، وتبسيطِ الوجود الفلسطيني في لبنان ص79. وأنشطةِ تخريبيّة في سوريا ص218، والتلاعبِ مع حواتمة وحبش في إشكاليّة النصاب في دورات المجلس ص199، والأمثلة كثيرة.
نبيل عمرو يطالنا نحن الفلسطينيّين هنا بواقعة لافتة تصبّ هي الأخرى فيما ذهب إليه في هذا البابِ من كتابه الذي أتناوله، "وضع الحدّ في موارسنا"، فيقول ص 188 وفي سياق الحديث عن يمينيّة أبو جهاد:
"ذات مرّة تلقى عرفات طلبا بتوفير دعم إعلاميّ للحملة الانتخابيّة للحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح. وقد تجاوز عرفات المحاذيرَ السياسيّة والمعنويّة ووافق. وأوفدني إلى براغ للتنسيق، وهناك التقيت أعضاء وفد رفيع المستوى من راكاح. أبلغت إليهم استعدادَنا لدعم حملتهم الانتخابيّة، وتقدّموا بعدة طلبات أخرى، نقلتها إلى عرفات وأحالها على الفور إلى أبو جهاد، وقد ظننت وكنت متأثرا آنذاك بحملة اليسار عليه أن إحالةَ الطلبات إلى الرجل المتهم باليمينيّة ومعاداةِ اليسار هو نوع من التعاطي السلبي مع الأمر، أما في الواقع فقد تمّ تأمينُ لقاء مباشر بين قيادة راكاح وبين أبو جهاد. كان لقاءٌ محرجا لليسار، فبدون نقاش قدّم أبو جهاد كلَّ ما طُلب منه ووعد بمواصلة الدعم دون تحفظ ودون شروط."
اعتقد أن القمّة والأوج في هذا السياق الذي أورِد، سياق الإشارة إلى سلبياتنا لا بل خطايانا وليس فقط أخطائنا، هي حكايةُ الامرأة وابنها من مخيّم تل الزعتر مع عرفات والكاتب، بعد احتلاله عام 1982 ص 88 و92. ففيها من الدلالات المضحكة المُبكية أكثر من كثير.
لا أرى من نهاية أجمل لمداخلتي هذه من كلمات الحوراني في التقديم:
"التحرّر من التمجيد والتفجّع ومن النفاق والتحامل أباح للقلم المتمرّس أن يصف الواقع كما هو ويرسم الشخصيّات كما هي، أو، في الأقل كما تراها عين صاحب القلم النفّاذة."
يعطيك العافية وإلى اللقاء في الجزء الثاني "شرخ في القمّة"، علّي أجد فيه ما عرفته خلال أسري ومن مصدر أوّل عن إطلاق النار عليك!
مداخلة مؤسّسة درويش للإبداع 17.11.2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق