٥ تشرين ثان ١٩٥١-٢٩ أيلول ٢٠١٨
الشقيق الغالي والصديق الأعزّ،
تعجَزُ كلُّ عبارات التعزية والرثاء عن الإعراب كما يُرام، عمّا يختلِجُ في قلوب ذويكَ: زوجتك الأبيّة الأثيلة ميّادة شقحة شحادة، التي لم تترُكْكَ لوحدك ولو هُنيهة حتّى رحيلك عن هذه الفانية، وأيّ جسد يفقِد رأسَه ولا يتوجّع ويتجزّع، بناتك الثلاث كريمات المحْتِد وأهلهنّ، أحفادُك الأعزّاء، أشقاؤك وشقيقاتك، من أسىً وجوىً، من حَسْرة ولوعة، لرحيلك عنّا وعن مُريديك الكُثْر بهذه السنّ المبكّرة. الموت، مفارقة الروح لجسد كلّ كائن حيّ، هو الحقيقة الوحيدة اليقينية لدى كافّة البشر على هذه البسيطة. ولو كان سبب الموت سؤالًا مستعصيًا في الرياضيات أو الفيزياء لحلّه المرحوم نسيب وطرحه أرضًا يتفعفل.
جعلك الربُّ الرؤوف يا غالي من بين الأبرار، الذين سينعَمون بالحياة الأبدية، حياةِ الله في الإنسان، الشرِكة مع الله. ”لكن كما يقول الكِتاب: الذي ما رأتْه عين ولا سمِعت به أُذُن، ولا خطر على قلب بشَر أعدّه الله للذين يُحبّونه“ (١ كورنثوس ٢: ٩).
كنتَ يا نسيب مثالَ الإنسان العقلاني، المتأنّي، الصريح، الحليم؛ مثال الزوج المخلِص، الأب الحنون، الصديق الصدوق. ضربت مثلًا يُحتذى به في مِضْماري التربية والتعليم على مدار عقود في مدرسة ينّي الثانوية، حيث قُمتَ برسالتك بتدريس مادّتين هامّتين، الرياضيات والفيزياء، بجدٍّ وعُمق، بصبرٍ وتفانٍ، بشغفٍ وجدارة. اختبرَ ذلك خيرَ اختبار زملاؤك، الأهالي ولا سيّما آلاف الطلبة من مختلف قرى وبَلْدات الجليل الأشمّ، الذين تخرّجوا الفوج تلو الآخر من مِعطفِك.
ما غرسه الأُستاذ الفذّ نسيب جريس حريز شحادة المتواضع كسنبلة القمح الملأى بالحَبّ، الذي لا يُشقّ غبارُه، في عقول فِلَذات الأكْباد وأرواحِهم من مَنطق رياضي، وطُرق تفكير وتحليل وتفْكيك، وحبّ العلم والمعرفة، سيكبُر وينمو جيلًا بعد جيل. المرحوم نسيب نِبراس، ولا أقول كان، فما البِذار التي ”نَعَفَها“ بِأَرْيَحِيّة في أرضٍ خَصِبة إلا خير دليل على صنيعه الوضّاح ورسالته النبيلة.
كان نسيب يغرِس في قلوب طلابه وعقولهم الثقةَ بالنفس، لم ينقطع عن تشجيعهم وعن تنمية قُدْراتهم بحِنْكة وسَداد رأي، والابتسامة مُرتَسِمة على مُحيّاه. كان يحكي أبلغَ الكلام وأعمقَه وهو هادىء، صامت، عيناه تبُثّان وتستقبلان ما هو مطلوب. ما أحوجَ مجتمعاتِنا العربية لمثل هؤلاء المعلِّمين المربّين، الذين يستحقّون هذا الاسم الرفيع، إنّ الاستثمار الأجدى يبقى في الإنسان.
مسيرتنا في هذه الدنيا قدِ افترقت، إلّا أنّ أواصرَ العَلاقة الطيّبة بقيت قائمةً متنامية بمرو الزمن. ذكريات حلوة تقاسَمْناها لن تذبُل ما حَييت. نعم، لم أسكُن زمنًا طويلًا في كفرياسيف، مسقط رأسي، مقارنة بسنوات إقامتي خارجَه، في الوطن وفي الغُربة، إلا أنّ البُعد الجغرافي لم يزِدني إلا قُربًا وتفَهّمًا موضوعيًا أعمقَ للأهل والأصدقاء، للحياة بعامّة وبفلسفتها، وانتماءً لأبناء جِلدتي، لوطني وشعبي ولغتي، عنوان الهُوية القومية والتراث العريق.
تمتّعت كثيرًا بمحادثاتنا الهاتفية التي لم تعرِف لا القيل ولا القال البتّة، ذاك الداء المقيت المتفشّي في مجتمعاتنا، وبلقاءاتنا، لا سيّما الأخيرة في الربيع الفائت، أيّام عيد الفصح المجيد. كان يطيب لكَ التحدّثُ مع وعن أحفادك الذين كانوا يتهافتون عليك تهافتَ الفراشات على النور.
المرحوم، شقيقي الغالي نسيب لم يلهَثْ، بل لم تطرَأْ على باله قطّ صرعاتُ مُوضة التكريمات التي أخذت في المدّة الأخيرة بالشيوع في مدنِنا وقرانا في البلاد.
عزاؤنا يا نسيب أنّك بجوار الفادي الحبيب، وأنّك خلّفت خلفًا فالحًا صالحا.
إنّ العطاءَ في الحياة سرٌّ من أسرار الخلود
يا رمزَ الرصانة والإصرار والنخْوة والجود
منحتَ من عِلمك الثَرّ بسخاءٍ، بلا حُدود
لا ولن أنساكْ حتّى بعد أن ألقاكْ!
الصبر، الصبر، ثم الصبر لنا جميعًا!
”ولكنِ الذي يصْبِرُ إلى المُنْتهى فهذا يخْلُصُ“ (العبرانيين ١٠: ٣٦)
إنّ الإفراطَ في الأحزان والبكاء لا يتمشّى مع الإيمان والرجاء
الشكر الجزيل موصول لكلّ من واسانا بهذا المُصاب الجلل.
لا أراكُمُ الله مكروهًا في عزيز!
أخوك البعيد والقريب جدّا جدّا
حسيب جريس حريز شحادة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق