التطبيع العربي الإسرائيلي بين الواقع والتمني/ رائف حسين

إن زيارة رئيس وزراء دولة الإحتلال لسلطنة عمان، ولقاءه السلطان قابوس واجتماعه بكبار المسؤولين العمانيين، في الوقت الذي تشارك فيه فرق رياضيه إسرائيليه في مباريات دولية في قطر، وزيارة الوزيرة الصهيونيه العنصريه ميري ريغيف  مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، كل هذه الأحداث، أثارت حفيظة العديد من المراقبين والناشطين السياسيين في العالم العربي واستفزت كل مكونات الشعب الفلسطيني .
 إن ردود الفعل التي راقبناها وتابعناها في الصحافة والإعلام وعلى صفحات التواصل الإجتماعي المختلفة تظهر مدى الازدراء الشعبي من خطوات التطبيع الخليجية التي لم تعد تعقد في الخفاء كما كانت بالماضي القريب، بل أصبحت حدث يتناوله الإعلام الخليجي ويروج له دون حياء ودون رادع.
 أنا شخصياً أتفهم ردود فعل الجماهير وتعليقات الصحفيين الملتزمين بالعروبة الذين مازالوا حتى الآن ورغم الظروف القاسية في الإقليم، يعتبرون التطبيع مع دولة الإحتلال مرفوض وطنياً وأخلاقياً ومدان سياسياً واجتماعياً، وأنا أضم صوتي إلى صوت هؤلاء الوطنيين، لكني أختلف مع العديد منهم في تقييم بُعْد هذا التطبيع وأسبابه، وفِي درجة التهويل من مخاطره ، خصوصاً على القضية الفلسطينية، وذلك لعدة أسباب:

أولاً : التطبيع بين بعض الدول العربيه ودولة الإحتلال لم يبدأ بزيارة نتانياهو لسلطنة عمان ولن ينتهي عند هذه الخطوة . هذا التطبيع بدأ في سبعينيات القرن الماضي بزيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات لدولة الإحتلال وخطابه التاريخي أمام البرلمان الصهيوني وتوقيعه على اتفاقية سلام مع دولة الإحتلال، ومن بعده تلته زيارات مختلفه لسياسيين إسرائيليين لدول خليجيه ودوّل في شمال أفريقيا حيث فتحوا معها علاقات تجاريه وأمنيه وعلميه سراً، وكان على رأس المطبعين آنذاك سلطنة عمان والسعوديه … فُتِح باب التطبيع على مصراعيه بعد توقيع القيادة الفلسطينيه على اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993 من خلف ظهر الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينيه … بعض قادة العرب المهرولون رأوا بالموقف الفلسطيني الرسمي فرصتهم الذهبيه في هذه الأجواء لتطوير علاقتهم بدولة الإحتلال وإظهارها للعلن … فجاء توقيع العاهل الأردني، الملك حسين بن طلال، لمعاهدة السلام مع إسرائيل وتركه لهم حرية التصرف في أراضي أردنيه لمدة خمسة وعشرين عام تكملة لمسار التطبيع، ولحقت به كل من قطر والمغرب والإمارات، وجاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق رابين إلى مسقط سنة 1994 في هذه الأجواء، وتبعتها زيارة شيمعون بيرس أيضاً إلى مسقط سنة 1996 ، وتبعتها زيارات ولقاءات سريه مع العاهل الأردني والرئيس المصري السيسي. زيارة نتانياهو لم تكن الأولى ولن تكن الأخيرة لدولة عربيه، ولَم تكن مفاجأة كما يصورها العديد من الزملاء .

ثانياً لم تعد قيادات بعض الدول العربيه وخصوصاً العائلات المالكة في الخليج ترى عيباً بالتطبيع مع دولة الإحتلال في الوقت الذي تتمسك القيادة الفلسطينيه بعلاقاتها السياسية والأمنيه والإقتصاديه مع الإحتلال وبالإتفاقات الموقعه معه، رغم كل ما قامت به دولة الإحتلال في ربع القرن الماضي من إنتهاكات لهذه الإتفاقات، وما قامت به من إرهاب دوله منظم ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1967 وسنها لقانون القوميه العنصري، الذي يضع حداً لكل طموحات الشعب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة على أراضيه .
 ثالثاً تأتي هذه الهروله الخليجيه لأحضان دولة الإحتلال في خضم إصطفافات جديدة في الشرق الاوسط وإعادة ترتيب الأوراق من جديد ، بعد أن فشل المشروع الأمريكي بما يسمى بالربيع العربي وحربه على سوريا وشعبها، ورغبته بترسيخ هيمنته على الدول والشعوب العربيه … زيارة نتانياهوإلى مسقط تأتي في سياق إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد بداية انهيار النظام السعودي والتموضع التركي الجديد وتراجع دور الولايات المتحده في الشرق، في الوقت الذي يزداد به النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وفي العالم والتسليم العالمي بالدور الإقليمي المميز لإيران وإفشال كل مشاريع التقسيم والعبث الإسراأمريكيه في الكيان العربي .
إن إسرائيل تحاول التقرب من سلطنة عمان لتموضع عسكري إستخباراتي إسرائيلي على أراضيها بعد أن أصبح واضحاً أن حرب السعوديه على اليمن للسيطره عليه وللتضييق على إيران واستلام المعابر المائية بأهميتها الجيواستراتيجيّة فد بائت بالفشل ، وأن مشروع الحوثيين ببناء دولة يمنيه بعيده عن الهيمنه السعوديه قاب قوسين أو أدنى وأن امتداد النفوذ الإيراني بالخليج لم يعد يقف شيء أمامه . رابعاً وعطفاً على ما سبق،  فإننا أمام شرق أوسط متجدد لم يكتمل شكله النهائي بعد . زمن الولايه الأمريكيه والعنجهيه الإسرائيليه قد ولّى … أصبحت إيران القوة الإقليمية الوحيده،  وأصبح حلف المقاومة الذي تتزعمه في ظل التمركز الروسي في الشرق والنجاحات العسكريه في سوريا، الحلف الأقوى بتماسك متعاظم ودعم جماهيري عابر لحدود دول هذا الحلف … بالجهة الأخرى ، نحن نقف أمام تقزم الحلف الأمريكي وتفككه …فقد كانت السعوديه بمأزق دعهما للإرهاب المتأسلم وحربها الغاشمة على شعب اليمن،  والآن أصبحت بعد فضيحة الخاشقجي بمأزق نظام سياسي سوف ينتهي بضعف واضح لدور السعوديه وإمكانية تفككها داخلياً .
أما قطر، الحليف الثاني لأمريكا بالإقليم، والذي أصيب بمرض العظمه خلال العشر سنوات الماضيه، قُزِم بصراعه مع السعوديه وعاد يتموضع بتقربه تارة من إيران وتارة من إسرائيل ليؤمن له دور إقليمي في الشرق الأوسط المتجدد، ويرى في التطبيع مع دولة الإحتلال في الوقت الذي تغوص به السعوديه في مشاكلها السياسيه والأمنيه فرصه سانحه لتقديم نفسه كبديل سني أمام المد الشيعي الإيراني خصوصاً وأنه أصبح الراعي الأول في الشرق للإخوان المسلمين بعد الإنقلاب العسكري في تركيا
 بالنسبة لتركيا، العمود الثاني للهيمنه الأمريكيه في الشرق، فهي تحاول الآن بتموضعها القريب من إيران وروسيا وبعدها عن الناتو، أن تجد له دوراً قيادياً في الشرق أمام العملقه الإيرانيه وبغياب مصر والسعوديه … في هذا الشرق المتجدد أصبحت إسرائيل معزولة مأزومة وهي تحاول بمفتاح التطبيع أن تلمم شظايا التحالف الأمريكي للوقوف امام حلف المقاومه … 

رابعاً ما زالت خطوات التطبيع التي نجحت اسرائيل بالوصول اليها مع بعض الحكام العرب خطوات تطبيع قصور، كما اسميها، ولَم تصل الى تطبيع شعبي جماهيري كما تتمناه دولة الاحتلال . تحاول حكومات دولة الاحتلال بهجمة اعلاميه ودبلوماسيه تضخيم وزن هذا التطبيع، كما يحاول قادتها كسب تاييد الشارع اليهودي الاسرائيلي لهم وزيادة نفوذ احزابهم في الداخل الاسرائيلي عبر تصريحات نوعيه عن خطوات التطبيع،  وهذا ما قصده نتانياهو في 6 أيلول/سبتمبر 2016 حيث صرح ان " التعاون مع الدول العربيه اكبر من اَي فترة كانت منذ إقامة اسرائيل، وما يحدث اليوم لم يحدث مثله في تاريخنا والتعاون قائم بقوه وبمختلف الأشكال والطرق والأساليب ، رغم انه لم يصل للحظة العلنية، لكن ما يجري تحت الطاوله يفوق كل ما حدث وجرى بالتاريخ" .  ... رغم مرور اكثر من أربعين عام على بداية خطوات التطبيع الا ان الشعوب العربيه ما زالت بأكثريتها الساحقة تقف الى جانب الشعب الفلسطيني الشقيق بنضاله من اجل الحصول على حق تقرير مصيره وبناء دولته المستقله … على الرغم من مرارة خطوات التطبيع، لكنها لا تؤثر بالواقع الفلسطيني وبنضاله ولَم تستطع تحجيم التضامن العربي الشعبي معه … ما حصل في سلطنة عمان من احراق العلم الاسرائيلي اثناء تواجد نتانياهو في مسقط وإعلان الاْردن بعدم تمديد العمل باتفاقية تأجير الأراضي الاردنيه لدولة الاحتلال إنما هي إشارات واضحه على الرفض الشعبي العربي لخطوات التطبيع … باختصار، على المراقبين السياسيين والمحللين والصحافيين عدم تناسي هذه الحقيقه والكف عن التكلم عن تطبيع عربي مع اسرائيل … الأصح هو تطبيع حكام عرب مع دولة الاحتلال .

خامساً توصيف بعض المحللين السياسيين لخطوات التطبيع انتقائي بامتياز، وهو يصب في نهر المصالح الصهيونيه التي تعمل صباحاً مساءاً لاشعال فتيل الفتنه بين مكونات الشعوب العربيه التي ما زالت بأكثريتها تقف الى جانب النضال الفلسطيني لدحر الاحتلال … 
يقول صلاح الدين العواوده، الباحث في الشؤون الاسرائيليه لدى " مركز رؤية للتنمية السياسية"  : إنه لا وجود لما يسمى " تطبيع الشعوب" لكنه يكمل ويقول خطأ " ستجد من المطبلين للأنظمة وهم قلة وغالباً من الأقليات الطائفية والدينية وخصوصاً الفنانين؛ من يؤيدون الأنظمة في كل خطواتها وسيسعون للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني" … هذا كلام باطل يراد به باطل، وكأن الأخ صلاح الدين يريد من منظوره الاسلاموي ان يقول للقارىء ان الأقليات الاثنيه والدينية بالدول العربيه هم طابور خامس لدولة الاحتلال، ويحاول هنا كدولة الاحتلال إشعال الفتنه داخل الشعوب العربيه ويضيف بالتوصيف والتحليل الخاطئين عندما يقول : " الاعتقالات الاخيرة للدعاة في السعوديه هي خطوة على طريق التطبيع مع الاحتلال" ونسي ان هؤلاء الدعاة هم من اصدروا العديد من الفتاوى التي تحرم مقاتله المحتل وتحلل قتل المسلم في دول عربيه. 

في النهايه لا بد ان نؤكد على ان دولة الاحتلال تحاول بخطوات التطبيع الاخيرة الخروج من مأزقها السياسي والأمني بعد ان كُسرت معادلة ردعها في حرب 2006 على لبنان، وتقليم أظافرها في سوريا وفشلها بالوقوف امام المد الإيراني وزيادة نفوذه … إن دولة الاحتلال لا تملك استراتيجية سياسيه ولا أمنيه للتعاطي مع الشعب الفلسطيني وقضيتة، وهي تقف حائرة امام التفاقم الديمغرافي في فلسطين التاريخية، كما وأنها لا تملك استراتيجيه أمنيه للوقوف امام تعاظم دور حلف المقاومة بالشرق الاوسط المتجدد … هي تحاول ان تقدم نفسها كمدافع وحامي للعائلات المالكة في الخليج العربي الى جانب الحامي التاريخي لهم, الولايات المتحدة, اوحتى بديل عنها  للتعوض عن خسارة فقدانها لنفوذها العسكري في الشرق وعدم قدرتها على خوض الحروب لفرض هيمنتها كما كان في الخمسين سنة الماضية … كما وتحاول بهذه الخطوات ان تقتطع لها حصة كبيرة من أموال أمراء الخليج عبر تقديم الحماية لهم واستدراجهم للاستثمار بإسرائيل وبيعهم التقنيات العسكرية والمخابراتيه الاسرائيليه . 
إن الوقوف امام الهجوم الاسرائيلي بالتطبيع يتم بخطوتان : اولا إيقاف التطبيع الفلسطيني الرسمي مع دولة الاحتلال، وتجميد كل الاتفاقات الامنيه والاقتصاديه معه، والعمل الجاد من الجهات الرسميه الفلسطينيه على دعم النضال الشعبي السلمي للشعب الفلسطيني، ووضع خطة حماية شعبيه متكاملة مبنيه على الشراكه بين كل اطياف فصائل المقاومة الفلسطينيه. ثانيا تقديم الدعم الإعلامي والمعنوي للحركات الشعبيه العربيه المناهضه للتطبيع في كل الوطن العربي لزيادة الضغط على المهرولين من زعماء العرب وإجبارهم على التراجع 
عن خطواتهم المذله لشعوبهم ودولهم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق