السبت: 17-11-2018
مجنونتي الحلوة، وشاعرتي النقية:
أيّ امرأةٍ ألذّ منك في هذا الوجود؟ صباحك أجمل من الجمال، وأشهى منه عناقك بلذيذ الوصال. ومساؤك عسل أيتها العسلية، الحبيبة التي أشتاق رائحة جسدها المتدفق كل حين بفضل الحب، كأنه سرد كوني أبدي في سفر الوجود، أما بعد:
فما زالت بيَ رغبة أن أحدثك عن السرد ومشقّاته وأهواله، فالسّرد خطِرٌ، بل أخطر أحيانا من الشعر، وهو غير مأمون العواقب إذا جرى الكاتب مع شهوة اللاوعي، فلتحذري هذه المطبات. أسعدني جدا أن المقال الذي أرسلته لك أمس قد أعجبك، إنني دائم التفكير بما تفكرين فيه، لقد شعرت بأهمية أن تقرئي هذا المقال إنه يطرح أسئلة على السارد، عليه أن يقف عندها مليا، ويفكر بها كثيرا. لقد أعجبني جدا ما ورد في المقال من قول الكاتبة الأمريكية توني موريسون: "لو كنت ترغب في قراءة كتاب لم يكتب بعد، فما عليك إلا أن تبدأ بكتابته بنفسك"، إنه مقتبس كفيل أن يلخص حياة كل كتاب وكاتب، ومن الطبيعي إذن أن تقولي في رسالتك المقتضبة: "أشعر أنني في دوامة السرد أتخبّط بلذّة من يقفز على نطّاطة في كل قفزة أرتطم بها بحدث". يا له من تصوير لحالة الكتابة التي أراها تنبجس ينابيع سرد من مخيلتك الخصبة.
تكمن متعة السرد يا عزيزتي في ذلك التدفق، ولكن عليك بصنع القوالب المناسبة التي تستطيع أن تجعل هذا التدفق تماثيل فنية نابضة بالإبداع، هنا فلتسمحي لي أن أستعرض لك رسائل يوسا الاثنتي عشرة التي بعثها لروائي ناشئ، وما دام أنك لم تصدري رواية إلى الآن أو مجموعة قصصية، فإنك ما زالت في طور الروائي الناشئ الباحث عن صيغته ومبتغاه.
يؤسس يوسا لهذه الرسائل برسالة أولى يوضح فيها أهميتين، الأولى تتعلق بالرقابة، وخطر الرقيب، ولك أن تتصوري الرقيب وانشغاله بالأدباء والأديبات تحديدا، إنها مسألة في غاية الخطورة، عليك أن تحسبي لها حسابا، وأهم أنواع الرقيب، "الرقيب النقدي" الذي يقف شامتا أو صامتا، أو مجاملا، أو مؤلفا الإشاعات الحارقة، هنا تذكري جيدا ما قاله يوسا حول "الميل الأدبي"، وهو الأهمية الثانية: "فالميل الأدبي ليس تزجية للوقت، وليس رياضة، ولا لعبة راقية تمارس في أوقات الفراغ"، إن ثمة حياة يدفعها الكاتب وهو يكتب كتابه، إنه بالضبط كما قال يوسا: "الميل الأدبي يتغذى على حياة الكاتب". أو كما قال فلوبير: "الكتابة هي طريقة في الحياة". عليك أن تقفزي أكثر وبتركيز أكبر فوق النطاطات لعلك تعثرين على الكثير من الأحداث، بل الكثير من الحياة. إن الروائي والقاص دائم الاشتغال على تطوير ذاته، ولذلك فقد أخذ يوسا في المقارنة بين الشعراء والروائيين في هذه الرسالة بقوله: "أما ذلك الشيء الآخر الغامض الذي نسميه الموهبة، النبوغ، فلا يولد على الأقل لدى الروائيين بصورة مبكرة وصاعقة، وإن كان ذلك ممكنا أحيانا لدى الشعراء والموسيقيين". عليك التقاط هذه الفكرة وأن تظلي في شغل دائم في تطوير أدوات السرد وتقنياته. فلم يوجد الروائي العظيم إلا بعد التعب والمجاهدة والإعادة، أحد الروائيين أعاد كتابة رواية من رواياته عشر مرات، هذا درس مهم لكل من يريد أن يكون عظيما في فن الرواية ويترك بصمة فيه.
أظن أن هذا أمر مهم أن تفكري به على هذا النحو. أدرك أن مشروعك السردي القادم ذو فكرة إنسانية واقعية، لا تخافي من ذلك، فليس كل أدب يمتح من مفردات الواقع هو أدب خالٍ من الفنية والإبداع، ما رأيك إذن بما قاله يوسا في الرسالة الثانية حول هذه النقطة بالذات، إذ يبين علاقة الروايات بتجارب كتّابها الحقيقية، وكيف يجب التعامل مع تلك التجارب، ليتوصل إلى هذه الجملة البديعة: "أصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها"، أرأيت كيف جعل الأمر وكأنه ابتكار للواقع من جديد، إعادة خلق له، ليبدو كأنه خيال؟ لقد ناقشتُ هذه المسألة في بحث مطول حول علاقة الكتّاب برواياتهم، وكل الكتّاب العظام أجمعوا على أنهم كانوا يوظفون حياتهم الشخصية فيما يكتبون من قصص. تحدّث هنري ميللر خلال حوار معه كيف أنه تخفى مرة بثياب القس يوم الأحد في الكنيسة ليستمع إلى اعترافات المذنبين، بحثا عن فكرة وحدث. إنه كان يقفز على نطاطة خاصة به ليرتطم بأحداث لها طزاجتها. لقد نجح في التلصص ليسبر الأرواح الغارقة في الظلمات كما قال. لا تخافي إذن من تلك الأفكار الواقعية، إنها روح القصص وجسدها أيضا.
إن الكتابة بحاجة إلى خبرة وتجربة، ومتعة في الصناعة والخلق، اصطدمي أكثر، لتنبجس الأفكار حرة وشهية وطازجة، ولكن عليك أن تكوني مقنعة، ها أنا أدخل إلى الرسالة الثالثة ليوسا، وقد خصصها لأمر يبدو مهما جدا، إنه "الإقناع". صحيح أننا نكتب أدبا متخيلا له صلة بالواقع من جهة ما، ولكن لا بد من أن يكون مقنعا، فإقناع القارئ مهمة ليست بسيطة، تأملي جيدا ما يقوله يوسا، لك ولكل روائي ناشئ: "الرواية الرديئة التي تفتقر إلى قوة الإقناع، لا تقنعنا بقوة الكذبة التي ترويها لنا، وعندئذ تظهر لنا تلك الكذبة على حقيقتها مجرد "كذبة"، خدعة، بدعة تعسفية، وبلا حياة خاصة بها، تتحرك بتثاقل وخرافة مثل دمى محرك عرائس سيئ". إن الإقناع يفترض أنك أصبحت داخل العمل، وأن القارئ يتخيل نفسه داخل العمل، إن توقف عن القراءة ضاع أو شعر بنوع من الهوس والجنون إلى متابعة القراءة. الإقناع أن تكتبي من داخلك إلى داخل القارئ، تجعلينه بعقلك وتستوطنين عقله، هل بمقدورك أن تجعلي كل القراء أحبارا على مائدة كتابك أو على الأقل تلاميذ منصتين بشغف لروعة ما يقرؤون؟
هذه يا عزيزتي أبرز الأفكار التأسيسية في الرسائل الثلاثة الأولى لأي روائي ناشئ كتبها روائي حاز على جائزة نوبل يوما ما. يتابع يوسا في الرسائل المتبقية مناقشة مجموعة من الأساليب الروائية، وضرورة البحث عن الأسلوب الخاص بكل كاتب، وكنت قد تحدثت لك عن أهمية خلق أسلوب مميز يخصك وحدك في الرسالة السابقة، ولن أزعجك بأحاديث النقد التفصيلية حول الأساليب والتقنيات السردية للكتّاب العظام، فقد بسطها يوسا بسطا جيدا في رسائله من الرسالة الرابعة وحتى الحادية عشرة، ليصل في الرسالة الثانية عشرة إلى "النقد" وأهميته وكيف يكون، كما يراه. ولكن إن أحببت أن تتعرفي على تلك الأساليب، فسألخصها لك في رسالة قادمة، فالأمر يعود إليك، فاكتبي لي إن أحببت التعرف إلى ما قاله يوسا حول ذلك.
سأورد هنا وجهة نظره حول النقد بتلخيص شديد، لأن النقد نشاط إبداعي مهم، لا بد من أن يواكب أي عمل إبداعي، مع أن يوسا، سامحه الله وعفا عنه النقاد، يلمز بهم كثيرا، فهم المتحذلقون الذين "ابتدعوا تسميات متعددة لشيء يمكن لأي طارئ أن يتعرف عليه دون أدنى مشكلة". إن يوسا يتعامل مع النقد والنقاد بنظرة المبدع، فلذلك طغت عليه "الفوقية الإبداعية" في النظرة إلى النقاد، وبدا ذا منطق براغماتي في حديثه عن النقد، إنه مع النقد وضده في الوقت ذاته، يريد من النقد أن يكون خادما له وللمبدعين، لاحظي مثلا نبرته وهو يحدد معالم النقد وأهدافه: "لست أعني بالطبع أنه لا جدوى من النقد، وأنه يمكن الاستغناء عنه، لا شيء من هذا، بل على العكس, إذ يمكن للنقد أن يكون مرشدا عظيم القيمة في النفاذ إلى عالم المؤلف وأساليبه، ويمكن للبحث النقدي بحد ذاته أحيانا أن يكون إبداعيا مثل أي رواية قيمة أو قصيدة رائعة دون زيادة أو نقصان". هل تظنين أنه مع النقد والنقاد؟ إن يوسا مع ذلك يعتبر النقد قاصرا في نهاية المطاف، ما دام أن المبدع له "عالم" ومجموعة "أساليب" والناقد يتحتم عليه ولوج تلك العوالم ويفكك تلك الأساليب، إنه أشبه بالميكانيكي من وجهة نظر يوسا، كاشفا عن روعة الإبداع، لا شيء أبعد من ذلك.
إن تلك العوالم أحيانا عصية على الناقد من وجهة نظر يوسا: "إن النقد بحد ذاته حتى في الحالات التي يكون فيها شديد الصرامة والصواب لا يمكن له التوصل إلى استنفاد ظاهرة الإبداع وتفسيرها بشموليتها، فهناك على الدوام في الرواية أو في القصيدة الناجحة عنصر أو بُعْد لا يمكن للتحليل النقدي العقلاني أن يمسك به، لأن النقد هو تمرين للعقل والذكاء، بينما يتدخل في الإبداع الأدبي وبصورة حاسمة أحيانا إضافة إلى هذين العاملين الحدس والحساسية والتخمين وحتى المصادفة، وهي عوامل تفلت دائما من أكثر شباك البحث النقدي دقة".
ماذا يريد أن يقول يوسا يا عزيزتي عن النقد؟ ربما أراد أن يقول لذلك الروائي الناشئ، كن على ثقة أن من يصنعك هو أنت وليس النقاد، فما النقاد إلا تابعون لك، يتلصصون على نتاج عقلك ولغتك، وأحيانا ربما أغبياء، صدقا أحيانا النقاد أغبياء جدا، عندما يحمّلون النص أكثر مما يحتمل، أو يهملون عملا أدبيا دون احتفاء أو احتفال لدعاوٍ سقيمة وذاتية وأنانية، ومصلحية مقيتة. فكم من كاتب جميل أماته النقاد، وكم من كتاب رديء سوّقه السفهاء منهم، وربما كانوا يعملون ذلك مدفعوعي الأجر من هؤلاء "الكتّاب".
وأخيرا أيتها القصصية القادمة إلى بحر من السرد متلاطم الموج، تأكدي أنك تسبحين وحدك في هذا العالم، أو كما قال يوسا نفسه: "لا يمكن لأحد أن يعلّم أحدا الإبداع، وأقصى ما يمكن تعليمه هو القراءة والكتابة، وما تبقى يعلّمه المرء لنفسه بنفسه، ويعثر ويسقط وينهض دون توقّف". كوني على استعداد كامل للمواجهة، مواجهة الكتابة، ومواجهة النقد والنقاد المتطفلين.
زيدي رقّاص القفز، واكتبي بشهية من يمارس الحب بشغف، وستنجحين بلا شك، فمخزونك العقلي والسردي واللغوي يؤهلك للنجاح والإدهاش، لنحارب معا ضد الرداءة وأشباه الروايات والروائيين الساعين بلا توقف إلى الكتابة وعيون أغلبهم على الجوائز التي يسيل لها لعابهم القذر المدجج بالفيروسات اللغوية المميتة.
دمت متفوقة أيتها المرأة الشجرة، الكاتبة المثمرة سردا شهيا طازجا. أحبك سامقة ومبدعة بهية.
فراس حج محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق