في السياق العام لتاريخ المنطقة العربية نجد أنّ "الخارج الأجنبي" يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه هذا "الخارج" أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم.
لكنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف فقط على سوء الأوضاع العربية وعلى المخاطر الناجمة عن المطامع الأجنبية، بل تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية.
ففي هذا الزمن الرديء الذي تمرّ به المنطقة العربية، تزداد مشاعر اليأس بين العديد من العرب وتصل ببعضهم إلى حدّ البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وتحميل هُويتهم العربية مسؤولية تردّي أوضاعهم.
وهولاء مخطئون لأنهم لا يميّزون بين هُوية الانتماء وبين ظروف الواقع، بين العروبة والحكومات، بين الفكرة والممارسات. فهي مشكلة تعاملهم مع الانتماء القومي بمقدار ما ينظرون إليه آنيّاً وليس بمقدار ما هو قائم من عناصر توحّد في أمّتهم العربية.
إنّ الانتماء الوطني والقومي، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء، بل هو جلد جسمنا الذي لا نستطيع تغييره مهما استخدمنا من بدائل مصطنعة. وسواء رضينا بذلك أم لم نرضَه، فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي ينتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
هذا من حيث المبدأ.. أمّا من حيث التفاصيل، فإنّ الحالة العربية السوداويّة الراهنة هي مسؤولية الخجولين بانتمائهم قبل غيرهم، لأنّهم عرفوا أنّ هناك مشكلة في أوطانهم فرضت عليهم "الخجل" بالهويّة، إلا أنّهم عوضاً عن حلّ المشكلة أو المساهمة بحلّها قدر الإمكان، اختاروا التهرّب من الانتماء المشترك، فهم سلبيون أمام مشكلة تعنيهم، فهربوا منها، إمّا إلى الأمام لانتماءات أممية (بأسماء تقدّمية أو دينية)، أو للخلف بالعودة إلى القبلية والطائفية والعشائرية..
إنّ العروبة والانتماء لها فخرٌ لنا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فيكفينا فخراً أنّ أرضنا العربية كانت أرض كلّ الرسالات السماوية، وأنّ الله عزَّ وجلَّ كرّمها بأنّ بعث رسله كلّهم منها وعليها، وكانت هذه الأرض الطيّبة منطقة ومنطلق الهداية الإلهيّة للناس أجمعين وفي كلّ مكان.
يكفينا فخراً أنّ القرآن الكريم هو خاتمة الرسالات السماوية، أنزله الله تعالى عربيّاً على نبيٍّ عربيّ في أرضٍ عربيّة.
يكفينا فخراً أنّ ما تعيش عليه الحضارات الحديثة من علوم وفلسفة وطب وثقافة وهندسة ما كان ليحدث لولا المساهمات التي قام بها العرب في مراحل ازدهار الحضارة العربية وانتقالها إلى الغرب في قرونٍ سالفة.
يكفينا فخراً أنّ الأرض العربية هي أرض خيرات طبيعية وصلة وصل بين قارّات العالم وشعوبه.
إلا أنّ هذا المجد والاعتزاز والافتخار بالتاريخ الحضاري وبالموقع الجغرافي، لا قيمة له ما لم نجعله بالعمل المستمرّ وبالمسؤولية الواعية، حاضراً نعيشه، وجسراً يصل بنا إلى مستقبل أفضل.
فإذا ما كانت المشكلة على الصعيد التحرّري أنّنا نزداد احتلالاً، فإنّ هذه المشكلة تعرّضت لها دول في العالم نعتبرها مثالاً الآن، وهذه الأمم لم تنتهِ بمجرّد حدوث احتلال لأراضيها.
ففرنسا جرى احتلالها من قبل ألمانيا النازيّة، وكذلك تعرّضت معظم دول أوروبا للاحتلال النازي، وكان هذا الاحتلال مشابهاً للحالة العربية الراهنة من حيث عدد وضخامة الدول الأوروبية التي تعرّضت للاحتلال من دولة نازية واحدة.
كذلك، فإنّه رغم الصراعات الدموية التاريخية بين شعوب أوروبا، نجدها الآن تقيم ما بينها أواصر الاتّحاد والتكامل من خلال صيغة بُنيت على وضع دستوري سليم في بلدان هذا الاتّحاد. فلماذا لا يأخذ العرب بالنموذج الأوروبي من حيث القدرة على تحويل سلبيات الصراعات التاريخية إلى حالة البناء الداخلي السليم والعلاقات التكاملية بين الأوطان والثقافات والمصالح المتعدّدة؟!
إنّ الشعوب تنتقل خلال مراحل تطوّرها من الأسرة إلى العشيرة ثمّ إلى القبيلة ثمّ إلى الوطن أو الأمّة الواحدة، فلِمَ نريد أن نعيد دورة الزمن إلى الوراء؟ بل ماذا فعلنا حتى تبقى أوطاننا واحدة تتطوّر وتتقدّم وتتكامل بدلاً من دفعها للعودة إلى حروب القبائل والطوائف؟!
ولأنّ الشعوب هي مجموعة أفراد، ولأنّ الوطن هو مجموعة مواطنين، فإنّ المستقبل العربي يتوقّف على مجهود كلّ فردٍ فيه، ويتحمّل كلّ مواطن عربي في كلّ مكان مسؤولية وأمانة رسم آفاق هذا المستقبل، وتصحيح خلل المعادلة ما بين المقوّمات الإيجابية التاريخية والجغرافية للأمّة العربية وبين الواقع السلبي الراهن لمعظم أوطان الأمّة.
هناك حاجةٌ الآن لإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، فهذا حجر الزاوية في بناء المستقبل العربي الأفضل. لكن المدخل الصحيح لأي نهضة عربية هو في تحقيق أوضاع دستورية سليمة في البلاد العربية. عِلماً بأنّ المشكلة الآن ليست فقط في غياب الحياة الديمقراطية السليمة، بل أيضاً في ضعف الهُويّة العربية المشتركة وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلد عربي، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي.
وحينما تضعف الهُويّة العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
إنّ العودة العربية للعروبة هي حاجةٌ قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاونٍ عربيٍّ مشترك وفعّال في المستقبل.
إنّ العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل هي عودةٌ إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية. ومن دون عروبةٍ جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة!!.
إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.
إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" مقابل "فكر ديني"، تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي. فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.
إنّ "الهويّة الثقافية العربية"، كلغة وثقافة، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرناً من الزمن، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، وبالأصول العرقية للقبائل، وبمواقع جغرافية محدّدة .. بينما العروبة – كهوية انتماء حضاري ثقافي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب. فهكذا أصبحت "العروبة الحضارية" هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها ل"العربي"، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من حيث اعتبار الأقليات الدينية في المنطقة العربية نفسها كجزء من الحضارة الإسلامية، ومن حيث تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق.
فعسى أن نشهد قريباً ولادة حراك عربي جادّ يحرص على الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى " اتّحاد عربي ديمقراطي" حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق كل المواطنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق