أبدأ من حيث انتهى إليه اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الأخير، الذي انعقد في مدينة رام الله بين 28 و 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وحمل تسمية "دورة الخان الأحمر والدفاع عن الثوابت الوطنية". فإن إطلالة متأنية على البيان الختامي لذلك الاجتماع، لغرض التعرف على ما جاءت عليه القرارات التي تمخض عنها بيانه الختامي ومعرفة ما إذا كانت تلك القرارات قد شكلت حالة متميزة أو جاءت مختلفة بشكل أو آخر عن قرارات اجتماعات المجلس التي سبقت، تقودنا إلى القول بلا تردد أو تلكؤٍ أن ما من أحد اطلع على ذلك البيان إلا وأدرك أن جميع قراراته لم تخرج عن سياق قرارات اجتماعات المجلس المركزي السابقة، ولا حتى عن سياق قرارات اجتماعات المجلس الوطني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الأخيرة والسابقة، لجهة السقوط في "الروتين السياسي الفلسطيني المعتاد" وإعادة تكرار المكرر وتأكيده من جديد، بدءاً بجريمتي الاعتراف بالكيان الصهيوني والتنسيق الأمني مع هذا الكيان المجرم، مروراً ببروتوكول باريس الاقتصادي - لعام 1994 - الذي نُظمت بموجبه العلاقة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني في قطاعات الضرائب والجمارك والبنوك والاستيراد والتصدير والإنتاج والعملات المتداولة وحركة التجارة، والإعلان عن رفض قرارات الإدارة الأمريكية الخاصة بمدينة القدس و"صفعة" الرئيس دونالد ترمب التصفوية التي حملت تسمية "صفقة القرن" زوراً وبهتاناً، وانتهاءً بتكليف رئيس السطلة محمود عباس واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي يمسك بكل خيوطها بتنفيذ المقررات التي خرج بها اجتماع المجلس، وإطلاق يد الرئيس بتشكيل لجنة خاصة لهذه الغاية .
الحقيقة المرة لِما تقدم أثارت هواجس الفلسطينيين وخشيتهم على مستقبل منظمة التحرير الفلسطينية، التي تُعتبر المرجعية الوطنية الجامعة لهم في الوطن والشتات، والتي يتظافر السعي الشعبي والفصائلي الحثيث لتفعيلها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ممثلاً شرعياً وحيداً وحقيقياً وفاعلاً للكل الفلسطيني، كخطوة هامة على طريق إنهاء الانقسام البغيض الذي تواصل للعام الحادي عشر وتحقيق الوحدة الوطنية التي طال انتظارها.
وضاعف من هواجس الفلسطينيين وخشيتهم على مستقبل المنظمة أن كل ما جرى منذ 30 نيسان/أبريل الماضي - تاريخ انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الذي تواصلت أعماله لأربعة أيام في دورته الثالثة والعشرين خارج إطار التوافق الفلسطيني وتحت نظر سلطة الاحتلال الصهيوني – جاء على غير ما رغبوا وتمنوا، وعلى عكس ما افترضت ضرورات الإنقاذ الوطني المطلوب، وهو ما بدا بجلاء ووضوح من خلال الطريقة التي اتبعتها سلطة رام الله لتأمين النِصاب العددي لعقد ذلك المجلس، الذي بدأ أعماله بـ 605 من الأعضاء مع إضافة ما يزيد عن 100 عضو آخرين بدل المتوفين اختارهم رئيس السلطة الفلسطينية بنفسه، وما بدا أيضاً من خلال استمرار فصائل فلسطينية فاعلة وأساسية في منظمة التحرير الفلسطينية مثل الجبهتين "الشعبية" و"الديمقراطية" بمقاطعة اجتماعات المجلس المركزي الأخير، وخروج نصوص قرارات ذلك المجلس إلى العلن من دون أن تُرفق أو تُلحق بآليات واضحة ومحددة للتنفيذ.
ولربما أن ما زاد "الطين بلة" هو أن الغياب عن اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الأخير لم يقتصر على "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، ومُضي السلطة في تغييب فصيلين أساسيين آخرين مقاومين وفاعلين عنها عُرفا بسعيهما الدائم والجدي للانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، لكن على أسس جديدة وبعد إصلاحها وتطويرها، هما حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي". فمعظم طلائع النضال الوطني الفلسطيني وقياداته وكوادره التاريخية، التي عُرفت على المستويات الوطنية والعربية والدولية على مدار العقود السابقة من عمر الثورة الفلسطينية، بإخلاصها ووفائها وتفانيها، أُقصيت وباتت خارج الأطر التنظيمية والمؤسساتية المعروفة لمنظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي جعل كثيراً من الكتاب والمحللين والمراقبين السياسيين الفلسطينيين والعرب يؤشرون إلى ذلك بكثير من الغضب والرفض وعدم الرضا.
وليس من قبيل المبالغة القول أن التدقيق والتمحيص في البيانات الختامية لاجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية السابقة لا ينبئان بالاطمئنان ولا يبشران بمستقبل زاهر، لأن تلك البيانات عملت بشكل أو بآخر على الانتقاص من قدر المجلس واللجنة عن طريق تقليص صلاحياتهما وإحالتها أو بعضها إلى المجلس المركزي. والمتابعون للشأن الفلسطيني يعرفرفون حق المعرفة أن هذا المجلس في وضعيته الجديدة يتشكل بغالبيته من موظفي سلطة رام الله التي يمسك بمفاصلها ويقبض على أنفاسها الرئيس محمود عباس والمتكسبين منه ومن سلطته، مما قد يعني توقع مزيد من الخطوات المتسارعة التي ستهدف إلى إخضاع منظمة التحرير الفلسطينية لسيطرة الرئيس وسلطته وتطويعها لخدمة مصالحهما والتحرك وفق حساباتهما الشخصية ومراعاة التزاماتهما وتعهداتهما دون غيرها، وهو ما يمكن أن يمثل انقلابا حقيقياً على الأسس والمرتكزات والأهداف التي قامت على أساسها المنظمة في عام 1964، بعد انعقاد "المؤتمر العربي الفلسطيني الأول" في مدينة القدس "التي كانت يومذاك تحت سلطة المملكة الأردنية الهاشمية ولم تكن محتلة"، نتيجة لقرار مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في القاهرة في ذات العام لتمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية، وهو ما يتضارب مع دعوى أن ما يجري يندرج في سياق تهيئة المنظمة لتقود الفلسطينيين في حال تعرض السلطة للانهيار أو السقوط لسبب أو آخر!!
وهذا بالطبع يؤشر بوضوح وبشكل لا يدع مجالاً للشكك إلى رغبة غير معلنة لدى السلطة الفلسطينية ورئيسها للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وإنهاء وجودها، أو في الحد الأدنى تغيير وظيفتها الأساسية وتحويلها إلى اسم "على غير مُسمى" وفارغ من كل المضامين والدلالات، وهو توجه بدأ يعبر عن نفسه بشكل مبكر وخجول منذ أن تم الإعلان عن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتمت الدعوة إلى ما أطلقت عليه تسمية "سلام الشجعان" مع الكيان الصهيوني!!
وألتقي في هذا الاستنتاج مع كثير من الزملاء الفلسطينيين والعرب الذين تطرقوا إلى مستقبل منظمة التحرير الفلسطينية بشكل آو آخر. فعلى سبيل المثال لا الحصر رأى الزميل د. ابراهيم ابراش في مقالة له، أنه مع انفضاض سامر دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في العاصمة الجزائرية في عام 1988 وحملت تسمية - دورة الانتفاضة، دورة الشهيد خليل الوزير - "بدأت الحالة الفلسطينية تشهد تخلياً تدريجياً عن طابعها التحرري الوطني الشعبي لصالح بلورة طابع جديد ومختلف تماماً هو طابع سلطة الحكم "الدولة"، بدءاً بتحويل مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج إلى سفارات للدولة الفلسطينية لدى البلدان التي تتواجد فيها، مروراً بتحويل دوائر المنظمة إلى وزارات للدولة، وفيما بعد للسلطة، وانتهاءَ بإلغاء العديد من مؤسسات المنظمة، أو تغيير وضعياتها الوظيفية، أو استبدالها بمؤسسات أخرى"، أو شل فعاليتها لغاية ما هنا وهناك في نفس "يعقوب".
وبدون الاستغراق كثيراً في التفاصيل التي باتت معروفة للعيان وتجنباً لإعادة اجترار الأحداث والحيثيات التي لن تقدم أو تؤخر، يمكن القول أن حالة من الضياع والدوران في المجهول وغياب الاستراتيجية الوطنية تتحكم الآن بكل مكونات النظام السياسي الفلسطيني. ففي الوقت الذي تدعي فيه قيادات في منظمة التحرير الفلسطينية أنها تتوجه لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير على أسس سليمة وراسخة، وفي الوقت الذي يواصل قادة الحركات المعارِضة لنهج سلطة رام الله السعي لتنفيذ مخرجات اجتماع بيروت وضرورة إعادة بنائها بالإضافة إلى رفعها لخطاب المقاومة، نلمس ممارسات عملية من كل الأطراف تتعارض، بل تتناقض كليا مع ما يصرحون به!!
يُذكر أنه في كانون الثاني/يناير من عام 2017، عقد في بيروت اجتماع اللجنة التحضرية لعقد مجلس وطني توحيدي لمنظمة التحرير، وقد تم التوافق بين كل مكونات النضال الوطني والإسلامي الفلسطيني، ومنها حركتا "فتح"، و"حماس" ومنظمة "الجهاد الإسلامي"، وترأس اللقاء القيادي التاريخي في "فتح"، ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني أبو الأديب الزعنون، لكن رئيس السلطة محمود عباس وحده ودون سواه، رفض كل ما كان، ليقطع الطريق على أول فرصة جدية لعقد مجلس وطني توحيدي وتمثيلي لكل الفلسطينيين في الوطن والشتات!!
واستنتاجاً، يمكن القول أنه ما لم يُعِد الجميع، وفي مقدمهم سلطة رام الله ورئيسها محمود عباس والمجلسان الوطني والمركزي الفلسطينيان، إلنظر في أمر منظمة التحرير الفلسطينية ويتعاطىوا معها بالجدية المطلوبة وبالروح الوطنية الخالصة ويُصار إلى إعادة بنائها وهيكلتها وتفعيلها بحيث تستوعب جميع الفصائل الوطنية والإسلامية، وإن لم يبادروا إلى التأكيد على التزامهم بروحيتها وصفتها التمثيلية كممثل شرعي وحيد لكل الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه، وإن لم يتخذوا موقفا جاداً وحاسما بشأن "اتفاقية أوسلو" اللعينة ومسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني ومسألة التنسيق الأمني مع هذا الكيان، وإن لم يُعيدوا النظر ببروتوكول باريس الاقتصادي ويصار إلى فك ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الصهيوني، وإن لم يثبتوا من خلال الممارسة أنهم لا يخططون لإيجاد كيان يكون بديلاً لها، فمن المؤكد أن هواجس الفلسطينيين ستتظافر وخشيتهم عليها ستتحول إلى أمر واقعً مُر، وستصبح تصفيتها وإنهاء دورها مجرد مسألة وقت فقط!! وهذا ما يجعلنا نسأل بجدية وإلحاح: منظمة التحرير الفلسطينية إلى أين؟ وهل ما يجري يؤشر إلى أن مستقبلها بات على المحك، وأن ساعة الصفر لإعلان نعيها قد أزفت؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق