أزمة المثقفين المنخرطين العرب ليست فقط أزمة علاقتهم بالسلطة السياسية والدينية، بل إنها في عمقها أزمة ضمير وأخلاق والتزام يولّد شقاءً أو ينتج جاهاً. فلا غرابة أن يكون المثقفين إما أهم أدوات الدفاع عن الحريات الأساسية للناس، وترميم المجتمعات التي أعطبتها الأنظمة البوليسية، أو أن يكونوا سلاحاً بالغ الخطورة بيد السلاطين، لتزييف وعي وواقع البشر وذاكرتهم وتاريخهم.
من البؤس والوحشة أن يكون الفرد تعيساً بسبب وعيه. في المناخات العربية التي ابتليت بكافة أمراض النمو، ولم تنل أية جرعة لقاح حقيقية، رغم وفرة الأطباء، تتعدد الظروف التي تضاعف شقاء المثقفين، شقاء يسببه وعيهم المعرفي، وشقاء آخر ناجم عن الإقصاء والتهميش التي تعتمده السلطة كمنهج للتعاطي مع المثقفين، وشقاء يتولّد عن قيام المثقف بالانكفاء والانعزال عن المجتمع طواعية، أو ربما يكون العزل قسرياً، حيث يدفعه تجاهل الجماهير له ونبذهم لأفكاره ومواقفه على الخلوة وترك الشأن العام، عزلة مميتة قد تتسبب بالانتحار الثقافي، وأحياناً يُرغم المثقف على الرحيل الفكري.
ليست المعضلة في السفر الثقافي، من خلال انتقال المثقف من أيديولوجيا إلى أخرى، ومن مذهب فلسفي إلى آخر، في مسيرته البحثية لاكتشاف الصواب والحقيقة، ما دام هذا الانتقال له ما يبرره فكرياً، ومبني على إعادة قراءة التجربة وتقييمها. أو إن دُ فع للانتقال قسراً، لكن المصيبة في السفر الطوعي الانتهازي، في الانتقال بهف تحقيق المنفعة الشخصية. الإشكالية المفجعة في السبات الطويل لضمير بعض المثقفين، الذي لا يصحو من غفوته إلا من خلال مقايضات خالية من المنهجية ومن الأخلاق، والطامة في وجود بعض المثقفين الذين هم أشبه بالمقاولين للأفكار والمواقف والخطابات والشعارات، عبر توظيف ذخيرتهم المعرفية واللغوية، في سوق المشتري فيه من يدفع أكثر.
خطاب تغريبي
لا يستوي المثقفين في التعريف والدور والتصنيف، فمنهم المثقف التقليدي أشبه بأجير العمل الوظيفي الثقافي، يكرر القيام بما يجيد فعله. وفيهم المثقف العضوي الذي إما أن يكون ملتصقاً بسلطة، أو مناهضاً يسعى للتغيير. وهناك بعض أشباه المثقفين الذين يتسمون بالانتهازية، فترى أحدهم قد انتحل شخصية المثقف ويتلوّن حسب مقتضيات المناسبة وشروط الولاء، ويتحول في كل مرحلة، يقوم بالتشكل حسب القالب كأنه مادة هلامية، يؤمن بأن لكل مقام مقال.
يعاني المثقف العضوي المشتبك والمساهم في الصراع لإحداث تغيير حقيقي في واقع الإنسان نحو الأفضل، من مأزق إشكالي يتجلى في مفارقة عجيبة، بين دوره الريادي في مجتمعه، وعدم إظهار التقدير والاحترام له من قبل أفراد هذا المجتمع. يظهر المأزق في حالة الإرباك التي يعاني منها رغم نبل أهدافه ورزانة رأيه وحماسه الطفولي، فالمثقف العضوي الحداثي لم يستطيع إدراك عدم جدوى فعاليته وجهوده في المجتمع الذي ينشط فيه. فحين تمارس عليه السلطة السياسية أو الدينية القمع والقهر وتحاصره وتزج به في السجن، يصاب بالإحباط والقنوط حين يلمس اللامبالاة وعدم الاهتمام من الناس الذين كان يؤمن بهم، خاصة أنه يجهد ويناضل لأجل مصالحهم ومستقبلهم، وقد يقضي السنين خلف القضبان لا يذكره أحد سوى في المناسبات الثورية، وحين يموت يخرج خلفه القلة ممن يعرفون القيمة الحقيقية لجهده وأفكاره ومواقفه، وإن كان محظوظاً يرثيه البعض في ذكرى غيابه ويتأسفون عليه.
ربما هذا المأزق بظني يعود في أحد جوانبه إلى المفاهيم المثالية التي يتصورها المثقف عن الغالبية الكبيرة من أفراد المجتمع الذين لا يمتلكون مصادر الوعي الثقافي والمعرفي التي يمتلكها المثقف ذاته، لذلك قد لا يلحظ في غمرة اندفاعه للدفاع عن مصالح الناس، أنهم ذوي ثقافة تقليدية اجتماعية، يعتبرون أنها ثقافة آمنة تجنبهم سخط السلطات السياسية والأمنية والدينية.
تبدو هذه المفارقة جلية أكثر ربما مع مثقفين الأحزاب القومية واليسارية الليبرالية، وهو ما يفسر سبب انسحال هؤلاء وفشلهم في الالتحام مع الجماهير. وفي مقابل هذا الفريق من المثقفين هناك طائفة أخرى من المثقفين التقليديين، الذين تمكنوا من التأثير على مواقف البشر وأفكارهم، لأن المثقف التقليدي تربطه بمحيطه الاجتماعي تداخلات اجتماعية وتاريخية ومكونات متوارثة. واتضح أن المثقفين التقليديين الذين يبدون كأنهم جنوداً قدامى متقاعدين، أكثر تأثيراً وفاعلية في المجتمع من المثقفين الليبراليين واليساريين، من خلال مقدرتهم على التواصل مع الجماهير، رغم أنهم مثقفين غير متنورين وعايشوا فترات زمنية مغايرة تماماً عن عصرنا، وخبروا نظماً اجتماعية وسياسية وعادات وتقاليد ومشاكل تختلف تماماً عن النظم الحديثة التي يعيشها الإنسان المعاصر، إلا أنهم يمتلكون ثقافة يصل الناس إليها بدون مشقة، ويتسلحون بمرجعيات فكرية وفلسفية يخبرها الناس، ويستخدمون رموزاً مألوفة للعامة، بعكس المثقف التنويري الذي يجعل الناس تنتقل إلى عوالم زاهية يكونوا فيها مواطنين أحراراً يتنعمون برغد الديمقراطية، لكنه بالمقابل يكون غافلاً عما يدور حوله من شقاء وضنك للحياة، وقمع وقهر تمارسه السلطة.
مأزق المثقف اليساري لجوئه إلى الأفكار والأيديولوجيا الغربية عن مجتمعه، واستعماله المصطلحات التي لا يفقهها الناس، والتي هي بالأساس مفردات مرجعيته الفلسفية التي تشكل مذهبه. بظني أن هذا الاغتراب عن الناس هو الذي جعل من الخطاب الثقافي التنويري العربي عديم الفعالية، وأحدث الأزمة الثقافية الراهنة في نهاية المطاف، والانتقال إلى مرحلة مختلفة سمتها فشل الفكر الحداثي وسطوة الأفكار الظلامية.
معظم المثقفين لا يدركون أنهم يخاطبون جماهيراً لا تعيش في قلاع الأيديولوجيا، ولا تنام على سرير الفلسفة. إن ما يظهر أنه مسلمات بديهية بالنسبة للمثقفين، ليس هو كذلك بالنسبة لعامة الناس، وإن دعوة بعض المثقفين للجماهير أن ترتقي بأفكارها إلى مستواهم المعرفي، ما هي إلا أوهاماً مريضة، ودليلاً لافتاً على اتساع الفجوة بين الأفكار والمعرفة النظرية للمثقف الليبرالي وبين أفكار مجتمعه، فجوة لا تساعد على تحقيق أي انسجام وتناغم بين الطرفين من جهة، وتعمل على تعميق أزمة المثقف من جهة أخرى. فنجد بعض المثقفين يبتعدون عن مجتمعاتهم، وبعضهم يشتمه، والبعض الآخر يتعالى عليه. إن التطور الهائل في وسائل الاتصال والثورة المعلوماتية التي أسهمت بصورة سحرية في سهولة الحصول على المعلومة، وجعلت العالم متعدد الثقافات ومتنوع الأفكار، وأثرت العقول بالمعرفة، لكنها في ذات الوقت غرّبت المثقف عن عالمه المحيط.
شقاء الوعي
من أشهر أبيات الشاعر المتنبي "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"، هذا البيت ثري بالحكمة وهو ينطق بالمعنى ولا يحتاج تفسير.
لقد بدأ الفيلسوف الألماني "فريدريك هيغل" مشروعه الفلسفي في نقد نظرية الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" وغيرها من النظريات الفلسفية بوصفها شديدة التقييد، حيث طور ما يدعى بالتفكير الديالكتيكي أي التفكير الجدلي. ربط هيغل مفهوم "الوعي الشقي" بإحساس الفرد بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، اغتراب يسببه العقل الجدلي التنويري للمثقف العضوي، ومقدرته على الاستبصار.
"جان بول سارتر" اعتبر أن المثقف هو ذاك الفرد الذي يسعى للقيام بواجبات لم يكلفه بها أحد، إذ أن المثقف العضوي المترابط مع قضايا الناس يشكل الضمير والوجدان المجتمعي، لكنه ضمير يشقى في سعيه الوصول لغاياته.
الأديب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي" ذكر إن الإفراط في امتلاك الوعي ما هو إلا علة، علة مرضية حقيقية وتامة. وقال مرة إن العقل هو الذي يقوده، وذلك تماماً ما تسبب في ضياعه.
إن أفظع ما في القضية في نظري هو أن تفهم كل شيء، فيمكن للوعي ببساطة أن يتحول إلى مصدر للتعاسة والشقاء، ومن سخرية الاقدار هنا أن يصبح الجهل نعمة لصاحبه غالباً. فالإنسان القانع بحياته والراض عن واقعه لا تقلقه الأسئلة، ولا ينتظر إجابات، ولا يشغله البحث ولا تستنزفه الأفكار، فهو قابل بما يمنح له من حقوق. لكن الإنسان الذي يمتلك ناصية الوعي والمعرفة، فإنه مصاب بالقلق ومتوتر بالأسئلة، يبحث دون كلل عن إجابات ترضيه، متعطش للعلم والتقدم، منسحق تحت وطأة المفارقة التي تأزمه، وهي بين وعيه المعرفي الذي ينشد الأمثل، وبين واقعه الرديء.
فالوعي العميق بحقيقة الأشياء وإدراك أبعادها يتسببان بالعذاب للبشر، بحيث يبدو أن أفظع ما في القضية هو أن تفهم كل شيء. ذلك أن الفرد الواعي يمتلك نظرة شاملة، وبعداً أعمق للقضايا، وطموحاً يسعى للأفضل، ويمتلك عقلاً متفحصاً ناقداً محللاً، ووعياً يمكنه من إجراء المقاربات واقتراح البدائل. الإنسان الواعي صاحب خاصية النفاذ إلى عمق القضايا وجوهر الظواهر، يمتلك العزيمة وملكة الإقدام للمضي بحثاً عن الحقائق، ولديه الجرأة لمواجهة وتعرية كل ما هو زائف ومبتذل وسطحي.
هذا حال المثقف حيث أن كثير من المفكرين كانوا يصنفون شرائح المجتمع إلى صنفين "الخواص والعوام" ومنهم الفيلسوف وعالم الاجتماع "ابن خلدون" ووضعوا المثقفين في خانة الخواص، يمتلكون المعرفة ويفتقدون الحظ.
جلد الذات الشقية
هل يمكن أن تتحول الثقافة من وظيفتها الفكرية في تطوير العقل إلى مس يصيب المثقفين بنوبات التعاسة؟ وهل يصبح الوعي المعرفي بما يتضمنه من أفكار سامية مصدراً للشقاء؟
عانى المثقفين العرب دهراً الرهبة والخشية المستمرة من قمع وقهر السلطتين السياسية والدينية، فظلت أسئلتهم مبتورة، وبحثهم غير مكتمل، وخطاهم متعثرة، وشعاراتهم وعباراتهم مواربة ودورهم ضبابي، وعلاقتهم بالناس ملتبسة، وخطابهم مراوغ، لذلك لم يكتمل مشروعهم، وأحلامهم تم إجهاضها وبقي وليدهم يعاني من ضعف ووهن في النمو. ولأن معظم المثقفين العرب لم يتمكنوا من توجيه الانتقاد الفعال للسلطة، بسبب السياسات الاستبدادية التي اتبعتها معظم الأنظمة العربية وأدواتها الأمنية بحق المثقفين، وبالتالي لم ينجحوا في مهامهم، ولم يتبلور مشروعهم التقدمي، لجأ معظم المثقفين العرب إلى سياسة نقد الذات وجلدها بقسوة وتأنيب أنفسهم لهزائم وكوارث العرب التي لا تتوقف، وبالتالي عجزهم عن إجراء أي تغيير حقيقي في مجتمعاتهم. هذه الانتكاسات التي مني بها العرب ما هي في الواقع إلا نتيجة السياسات غير الصائبة والخيارات العشوائية التي أقدمت عليها بعض الأنظمة العربية، التي غيبت بالكامل دور الجماهير في تقرير مصيرها، ولم تتمكن من بناء دولة المؤسسات، لكن وحدهم المثقفين هم الذين نسب إليهم أبوة الهزيمة.
الراهن العربي بخيباته وبؤسه دفع الكثير من المثقفين العرب أن يخطّئوا أنفسهم ويتحملون مسؤولية الشقاء الذي حل بالأمة، وعانوا من الإحساس بالذنب، ومنهم من انتكس وانكفأ على ذاته من مجتمعه، مما أنتج حالة من الاغتراب والشقاء لدى قطاع واسع من المثقفين الذين سقطوا في جادة توبيخ أفعالهم وتقبيح فشلهم، لكن هذا النقد الذاتي للمثقفين العرب لم يكن لا علمياً ولا موضوعياً، بل كان عاطفياً انفعالياً غالباً، بدلاً عن انكبابهم على نقد السلطة وسياساتها، وتحليل مواقفها ومواجهة تسلطها، وتفكيك إشكاليات المجتمع والبحث عن مكمن العلة.
بالرغم من سياسات الإقصاء والتهميش التي تعرض لها زمناً المثقفين العرب- ومازالوا- من جانب معظم الأنظمة العربية تاريخياً، ومعاناتهم نتيجة فقدان الحرية والمناخات الديمقراطية، وانتهاك حقوقهم من السلطة، وشعورهم بالاغتراب وسحق روحهم الإبداعية، إلا أن المثقفين العرب يجدون أنفسهم مسؤولين بشكل مباشر عن إنجاز الأهداف الإنسانية السامية التي جاهدوا لتحقيقها في مجتمعهم. ويشعرون بتأنيب الضمير الأخلاقي، فيقومون بتوبيخ حالهم على ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد.
لكن في الحقيقة هل المثقفين وحدهم يتحملون مسؤولية هذا الشقاء، وهل يجب أن يسددوا أثمان الخسائر التي لا تتوقف التي مني بها العرب؟ وهم الذين ظلوا منبوذين وخارج مؤسسة صنع القرار، ولم تأخذ يوماً أية سلطة عربية مواقفهم ورؤيتهم على محمل الاحترام، بل كانوا دوماً في موضع الشك الأمني. هنا المثقف يجلد ذاته على هزائم لم يتسبب بها، والمجتمع لا يعفيه من المسؤولية، والسلطة لا تقيم له وزنا، ويبدو الأمر وكأن المثقفين قد شاركوا في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا. هذه المفارقة تمثل الموت البطيء بالنسبة للمثقفين الذين يمارسون بحق أنفسهم رقابة ذاتية صارمة، قد تؤدي إلى الانسلاخ الإرادي عن المجتمع، بحيث لا يستطيع المثقف أن يعبر عن نفسه، ولا يتمكن من إخراج هذه الأفكار بصورة تسهم في تطور مجتمعه، حيث الإشكالية الشقية هنا أن الالتحام مع الناس يثير غضب السلطة، والتقرب من أجهزة السلطة يعني الانسلاخ عن الناس وهمومها وواقعها.
يبدأ المثقفين بالتساؤل عن أسباب هذا الوضع المربك المقلق والمشوش، فهل هم في الجبهة الصحيحة لخوض المواجهة مع أسباب التخلف والإخفاقات والانكسارات التي أصبحت سمة الأمة العربية، وما هي أسباب فشل المشروع الإصلاحي التنويري النهضوي، هل السبب في الرؤية أم في العقل أم في الوسائل، في الاستراتيجيا أم في العجز عن فهم وتحليل الراهن، هل الإشكالية في التوقيت أم في طبيعة الأهداف وتحديدها؟
مثقف مستهلك لا منتج
ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا. والبعض منهم سقط في اعتبار الموروث أو جزءًا منه معيار أساسي لمقاربة الراهن العربي، دون الاعتبار للاختلافات المرتبطة بالسيرورة التاريخية، وتغير عاملا الزمان والمكان، مما يجعل من إعادة إحياء الماضي كما كان أمراً طوباوياً. من جانب آخر نلاحظ تأثر بعض المثقفين الكبير بالنظرة التحليلية لغالبية المستشرقين الغربيين، هذا التأثر دفع المثقفين للنقل وإجراءات المقاربات بمنظور غربي دون تفكيكه، وبأدوات غربية من دون إدراك المصالح الغربية خلفها.
لذلك تحول غالبية المثقفين العرب إلى مستهلكين للأفكار والنظريات، وليسوا منتجين لها، حيث كانوا منبهرين أمام الفلسفة الغربية وثقافتها. وأكبر الأخطاء التي لم يتوقف أمامها المثقفين العرب منذ عقود، أنهم -أو معظمهم- رغبوا بشدة في الحصول على إجابات جاهزة من تراثنا وتاريخنا، أو من التجربة الغربية، أجوبة لأسئلة الراهن وإشكالياته وانسداداته، بينما أغفلوا -عمداً أو جهلاً- أن عليهم ابتداع أجوبتهم الخاصة، وإجراء مقارباتهم من عمق التجربة في الواقع المعاش، ومراعاة النظرة الشمولية في السياق التاريخي. إن الكثير من المثقفين لم يدركوا أهمية أدوارهم التاريخية، في أن يكونوا مثقفين عضويين ملتحمين مع الواقع، وينغمسون مع هيئات المجتمع غير الرسمية المتعددة في مواجهة السلطة واستبدادها، بل أن بعضهم راهن على أن الموقع السياسي كفيل بتحقيق مشاريعه الثقافية عامتها وخاصتها، مما جعل هؤلاء البعض خارج إطار التأثير المجتمعي.
في واحدة من المفارقات التعيسة، وضع معظم المثقفين العرب أنفسهم أمام خيارات ثنائية " التراث والحاضر، العراقة والحداثة، الشيوعية والأصولية، اليمين واليسار، الأسود والأبيض، أنا والآخر، الخ" وكأن الأفكار والنظريات والتاريخ قوالب جامدة معبأة في صناديق، فإما أن تحمل هذا أو تأخذ ذاك. هذه العبثية فرضت سطوتها على المثقفين والمجتمع، وأفرزت نماذج متعددة فظهر المثقف القائد دون تكليف، المثقف الذي يمور مع حراك المجتمع كيفما كان، المثقف المتعالي على الناس، والمثقف الناقد الذي يمتلك نظرة ورؤية وموقف وملتصق بقضايا الناس، وهو الأكثر شقاء وشعوراً بالخيبة والبؤس، لأنه يرقب الانهيارات والانهزامات والكوارث التي تصيب العرب في أكثر من مفصل، ويجد نفسه مصاباً بالشلل وعاجزاً عن إيقاف هذا الخراب أو مواجهة طوفانه، وعدم مقدرته على الترميم والإصلاح، في ظروف يعاني فيها من الحصار وضنك الحياة، ويكابد من أجل لقمة العيش.
للشقاء الذي يصيب المثقفين العرب أكثر من مصدر، فإن أقدم المثقف على طرح الأسئلة الشائكة الصادمة يتم اتهامه من السلطة الدينية بالزندقة، وتتهمه السلطة السياسية بتمزيق الروابط الاجتماعية، حتى المجتمع نفسه يكيل له تهم تهديد السلام والوفاق الوطني. من جهة أخرى إن واكب السياق العام للمواقف تم اتهامه بالنفاق والمساومة وعدم المبدئية، وإن صمت تكال فوق رأسه تهم الانهزامية والانبطاحية وعدم الجذرية.
يقف المثقف العربي اليوم بلا جدار أيديولوجي، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقف عارياً من أي حماية، معلقاً في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذموم من السلطة السياسية، وموضع شك من السلطة الدينية، يشعر بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، حائراً مربكاً غير واثق، يواجه مجتمعاً مأزوم مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفه أو تهميشه أو سجنه أو تصفيته.
نهاية منفرجة
من المثير أن تتحول رفاهية الوعي المعرفي إلى فعل مضني ومكابدة للضنك والشقاء، وقد تتحول إلى دافع للاغتراب وسبباً للعزلة والانكفاء ثم المنفى التعيس. فامتلاك الوعي في المجتمعات المتطورة يتم تحويله إلى طاقة بناءة تنتج الفعل الثقافي والإبداعي، وتسهم في التطور الاجتماعي، بينما يصبح الوعي في البلدان النامية سبباً للقلق والتوتر ويؤدي إلى الضيق والمشقة، وقد يتحول إلى ذريعة للاعتقال ومسوغ للموت في بعض الحالات.
في المشهد العربي لم يعد كافياً تغيير بعض السياسات المتبعة من بعض الدول، ولا حتى تغيير بعض الأنظمة القهرية، أصبح لزاماً تبديل العقول وتغيير الأفكار، وخلق وعي مختلف لدي شرائح المجتمع، وهي مسؤولية المثقفين، القيام بتفكيك منظومة المفاهيم والأفكار التي ترسخت في اذهان الناس وأعرافها وثقافتها، وربما تتسبب هذه المهمة لهم بشقاء إضافي، لأن سعي المثقفين لإحداث تغيير جدي في حياة البشر قد يبعدهم عن مواكبة الراهن لانشغالهم في مهام ذات محاصيل استراتيجية، وخاصة إن كان الراهن محتقناً بالأحداث.
حين تعتمد السلطة السياسية القوة والقهر لإدارة الشأن العام للناس، تبدأ شرائح المجتمع بالتفتت، وتأخذ الجماعات بالانسلاخ عن النظام والعودة إلى أصولها الثقافية كرد فعل تحسسي حمائي بمواجهة تنازل الدولة السياسية عن دورها الطبيعي في رعاية الجميع. ولأن السلطة انحرفت عن تأدية دورها الثقافي والمعرفي، تصبح الثقافة في هكذا ظروف شيء يشبه الترف، وتظل أفكار ونظريات لا تلامس الواقع، ويصبح المثقف أداه فائضة عن الحاجة المجتمعية لا أهمية لوجوده، ذلك أن قوة السلطة لم تعد تحتاج إلى مبررات أخلاقية وثقافية، ولا إلى مسوغات اجتماعية كي تحقق شرعيتها، لأنها استعاضت عن المثقف ودوره، بوسائل أخرى، مثل الاستبداد والقمع والأجهزة الأمنية والترويع الفكري. وبهذه الصورة تكون الثقافة الممسوسة في الجحيم العربي قد رسبت، والمثقف الشقي سقط وفشل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق