بكركي (لبنان)- 9 تشرين الثاني 2018
***
(القيت هذه الكلمة في المنتدى الاجتماعي الاقتصادي الدولي الأول الذي عقد في بكركي (لبنان) 9-11 تشرين الثاني 2018 بدعوة من المنتدى ولتكون الكلمة الأساسية فيه).
***
ها نحن نجتمع اليوم في هذا الصرح البطريركي. هذا الصرح الذي " مجد لبنان اعطي له". ولكن تعالوا نسأل، ماذا تبقى من مجد لبنان؟ هذا المجد الذي يغوص في التاريخ ويتمدد على ساحة الأرض كلها. لماذا لا يسكن هذا المجد هنا؟ بل لماذا هاجر هذا المجد من هنا؟ وهذا اللبنان الذي نحبه، لماذا هو كبير في كل مكان في الأرض الا في ارضه؟ ولماذا هو هزيل هكذا في وطنه؟. ان لبناننا الحبيب يمر في مرحلة مفصلية تاريخية وخطرة تهدد وجوده وتهدد معناه. ثلاث وأربعون سنة ولبنان في طريق الجلجلة. من ألم الى ألم. من حرب الى حرب. من أزمة الى أزمة. يحمل صليبه ويمشي. يحاولون قتله ولكنه يرفض ان يموت. وأكثر ما يوجعه ان بعض الذين يقتلونه هم أناس من أهله.
وأنا لست هنا لأتكلم عن الجلجلة. لقد جئت لأتكلم عن القيامة. عن الطريق التي تأخذنا الى القيامة. لقد تعلمت من ممارسة الطب ومعالجة الامراض السرطانية في الخمسين سنة الماضية، انه ليس هناك شيء مستحيلا؛ وان الاستسلام للإحباط ليس خيارا. جئت لأقول: لا تخافوا الظلمة، حدقوا بالنور الخافت البعيد. فالذين لا يحدقون في هذا النور يغرقون في الظلمة. وتعالوا نمشي صوب هذا النور. ولكن قبل ذلك يجب ان نركع ونصلي ونعترف امام الله وأمام العالم كله، ان مسؤولية الحرب في لبنان وانحداره الى هذا القعر لم تكن مسؤولية الآخرين، بل كانت مسؤوليتنا نحن اللبنانيين. نحن وحدنا. " ان المرء قد يفشل مراراً الا انه لا يصبح فاشلا الا عندما يلوم الآخرين على فشله". وكذلك اليوم فمسؤولية قيامة لبنان هي مسؤوليتنا نحن اللبنانيين. نحن وحدنا. وتعلمت من الطب انه لا يمكنك شفاء مريض ان لم تحدد بدقة هوية المرض المصاب به. فتعالوا نحدد هوية المرض الذي أصاب لبنان واسبابه.
ان السبب الرئيسي هو ان اللبنانيين منذ الاستقلال الى يومنا هذا لم يتمكنوا من بناء الدولة. لم تبن الدولة للأسباب الآتية:
ان المدرسة السياسية التقليدية التي حكمت لبنان لم ترد قيام الدولة لأن قيامها يهدد مصالحها ويلغي امتيازاتها. ولا أفشي سراً إذا قلت ان هذه المدرسة التقليدية حتى ولو ارادت بناء الدولة بالمطلق لم تكن تمتلك القدرة على القيام بهذه المهمة.
عدم الولاء للبنان. ويكاد عدم الولاء هذا يختصر القضية اللبنانية. وحده في لبنان من كل دول العالم يتكلم "الزعيم" السياسي ويحاضر في الوطنية، وفي نفس الوقت يعترف امام الناس جميعا بل يفتخر بان مرجعيته السياسية ليست في بيروت بل في مدينة أخرى. مدينة غير مدينتنا. وحده في لبنان تستجلب قوة سياسية قوة من خارج الوطن لتتسلق على اكتاف شركائها في الوطن.
النظام السياسي الطائفي. هذا النظام يكبل قدرة لبنان على الحياة ويقتل مواهب شعبه. ان المفهوم السياسي للمواطن في لبنان لا يحدد بما هو ومن هو كانسان ولا يحدد بفكره وعقله واخلاقه ونظافة يده وولائه للبنان؛ بل يحدد بانتمائه الى دين ما او طائفة ما؛ ويحدد أيضا بما هو أكثر اذلالا بانتمائه الى "زعيم" سياسي او "زعيم" ديني. واما اذا كان انتماؤك الى لبنان الوطن والى الشعب اللبناني كله ، فانت لست بشيء. انت غير موجود سياسيا ان لم تكن متزلما الى "زعيم" طائفة او "زعيم" سياسي . والمشكلة هي ان القادرين على التزلم ليسوا قادرين على بناء الدولة .
وها بعد ان حددنا الأسباب التي اوصلتنا الى هنا تعالوا نتلمس الطريق التي تقودنا إلى الضوء. خمسة مفاهيم تحدد هذه الطريق.
ان الغاء الطائفية السياسية وحده لا يكفي. فيجب فصل الدين عن الدولة كما يجب فصل الدين عن التربية. ان أعظم ما لدينا في هذا الشرق هو الأديان. الا اننا قد نجحنا في جعل هذه الأديان قوة ضدنا بدل ان تكون قوة لنا. ان استعمالنا الدين كأداة سياسية وأداة للحروب، لم يكن اعتداء على الدين فقط بل كان اعتداء على الله. ويجب فصل التربية عن الدين حتى يتمكن الدين من اغناء الروح وحتى تتمكن التربية من تدريب العقل؛ بحيث يصبح هذا العقل قادرا على استنباط المعرفة، وتصبح هذه المعرفة هي الطريق الى الايمان؛ الطريق الى الله. أنا "أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض"، كما انني أؤمن بأنه كلما غُصت في المعرفة كلما اقتربت من الله، واقتربت من اخيك الانسان.
بناء الدولة المدنية. وحدها الدولة المدنية تليق بلبنان وحدها تعبر بلبنان الى القرن الواحد والعشرين. وحدها ترفع الناس من رعايا الى مواطنين. وحدها تأخذنا الى الحرية الى الحضارة. ولربما يكون لبنان البلد الوحيد في هذا الشرق الذي يمكنه بناء الدولة المدنية حيث يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق وفي الواجبات.
إرساء دبلوماسية الحياد الفاعل الذي يصب في مصلحة لبنان. ان سياسة النأي بالنفس التي تبنتها الحكومات الحديثة في لبنان هي خطوة في هذا الاتجاه. هي خطوة الى الحياد الا إنها ليست الحياد. وكيف الوصول الى الحياد ونحن في ظل نظام طائفي مهترئ وظل دولة غير قادرة على بسط سلطتها على جميع أراضيها.
الولاء للبنان. ان الولاء للبنان يجب ان يكون مطلقا ومقدساً، وكذلك الولاء لبعضنا البعض يجب ان يكون مقدساً ايضاً. لقد حاول بعض اللبنانيين استجلاب الغير الى الداخل اللبناني للاستقواء به وللحصول على مغانم على حساب إخوانهم في الوطن، الا انهم فشلوا. وثمة من لم يتعلم من الماضي ويحاول اليوم الاستقواء بالخارج ولكنه بالتأكيد سيفشل.
ان المدرسة السياسية التقليدية في لبنان والتي تؤمن بأن الحكم هو جاه، وان العمل السياسي هو الحصول على النفوذ، وأن النفوذ هو الطريق لجمع الأموال ولخدمة المصالح الشخصية والعائلية، هي التي أوصلت لبنان إلى هذا الحضيض. ألم نقتنع بعد بأن الذين أخذوه الى حافة الموت لا يمكنهم ان يعيدوه الى الحياة؟ لذلك نقول ان مسؤولية قيام لبنان هي مسؤولية المجتمع المدني فيه. وحده لبنان من كل دول العالم العربي يتمتع بمجتمع مدني قادر على عملية التغيير. قادر على القيام " بربيع" جديد.
وتعالوا نسأل ما سر هذا اللبنان؟ ولماذا يجب ان يكون هناك لبنان؟ بالطبع، نحن نحبه. نحبه حتى الثمالة. نحبه كيف ما كان. ولكن فهو ليس لنا فقط. انه ضرورة للشرق. ضرورة للعالم. وبالرغم من حضوره السياسي الهزيل والمعيب، لقد نجح شعبه في صنع حضارة مميزة. حضارة يحتاج اليها الشرق لكل يحيا. حضارة يحتاج اليها الغرب لكي ينعم بالسلام. هذه الحضارة مميزة بالإصرار على الحرية ومميزة بالإصرار على التعددية الدينية والتعددية الحضارية. ان الحرية هي البوابة للحضارة دونها لا تنمو الحضارة ولا تحيا. والتعددية هي البوابة للمستقبل. ان الذي حدث في لبنان لم يحدث في العالم ولا في التاريخ. ثلاث واربعون سنة من الحروب ومن الانحدار السياسي ولا تزال المسيحية تعانق الإسلام. ولا تزال تسع عشر طائفة قادرة على العيش والفرح معا. ثلاث واربعون سنة من الحروب ولا تزال حضارة الشرق تعانق حضارة الغرب. ثلاث واربعون سنة من الحروب وليس هناك لاجئ لبناني واحد؛ كما انه ليس هناك متسول لبناني واحد في مدن العالم. وبعد ان أقرت إسرائيل قانون القومية اليهودية أصبح لبنان الدولة الوحيدة في الشرق كله التي لا دين للدولة فيها. ونحن عندما نذهب الى العالم يجب ان لا نقدمه فقط كوطن الحوار والثقافات بل أيضا كنموذج ضد الإرهاب؛ نموذج ضد التطرف. فالحرية والتعددية الحضارية والدينية هي مداميك السلام. ان عظمة لبنان لا تكمن في الحضور المسيحي الكبير فيه، بقدر ما تكمن في ايمانه بالحرية وفي ايمانه بالتعددية الحضارية. ولكي تبقى المسيحية في الشرق تنمو وتزدهر يجب تفعيل دورها. لقد علمنا المسيح ان "نحب اعداءنا ونبارك لاعنينا"، فكيف لا نحب إخواننا ونبارك شركاءنا. تبقى المسيحية وتزدهر عندما تبقى على رسالتها: رسالة المحبة. " المحبة التي لا تسقط ابدا"، ومعانقة الآخر، ونشر ثقافة العلم والسلام. تبقى المسيحية وتزدهر عندما نبني الدولة. الدولة المدنية. وحدها الدولة المدنية تؤمن الإطار السياسي لترسيخ المسيحية في الشرق.
وتعالوا نطلب التوبة عن خطايانا؛ ونطلب من الله ان يعطينا "شيئا من نوره"، وان يعطينا القوة لنقوم "بربيع" لبناني حضاري وندحرج الحجر من امام القبر حتى يقوم. عندذاك يعود مجد لبنان اليه. وعندذاك "يعطى هذا المجد " الى بطريرك هذا الصرح العظيم.
المصدر: صحيفة "النهار" - بيروت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق