الشعوب الأوفر إرثا ثقافيا وعلميا وحضاريا عبر تجربتها التاريخية هي التى تبقى الأقل تطرفا والأكثر تنوير، ويترجم ذلك بشكل بيولوجى لصفات إنسانية سلوكية فردية وجماعية تحملها الأجيال المتتابعة عبر ثقافة جمعية؛ وهذه الثقافة الجمعية تنعكس فى الثورات والانتصارات وردات الفعل في كافة الأحداث، تلك الشعوب لا تتحرك في انفعالاتها السياسية والاجتماعية بنمط القصور الذاتى بقدر ما تحكم انفعالاتها تلك الثقافة الجمعية سالفة الذكر. وهذا الإرث هو ما دفع الألمان بالعودة لبيوتهم بعد حادثة اغتصاب مهاجر للفتاة الألمانية سوزانا وقتلها في فيسبادن ومحاولة استغلال الشعبويين المتطرفين للحادثة وتحريض الألمان على التظاهر ضد المهاجرين لإحراج ميركل التي تساهلت في سياسات الهجرة، وهذا الإرث أيضا هو ما دفع الفرنسيين في الانتخابات الأخيرة لرفض انتخاب السيدة مارى لوبان وحزبها الجبهة الوطنية اليمينة المتطرفة واختيارهم للسيد ايمانويل ماكرون، وهو نفس الإرث الذي يحمي أوروبا من الانزلاق مجددا فى أتون القومية والفاشية على يد الشعبويين واليمينين المتطرفين .
واليوم ونحن نشاهد الشعب الفرنسي يخرج في الشوارع للاحتجاج على السياسة الضريبية لحكومته ينبغي عليا أن نتذكر أننا نتحدث عن فرنسا درة تاج الثقافة الأوروبية وقلعة التنوير العالمية عبر مفكريها العظام أمثال فولتير وجان جاك روسو وآخرين، وهى صاحبة أعظم ثورة انسانية وسياسية فى التاريخ السياسى العالمي .
تلك هي فرنسا والتي برغم تمازج الهويات والثقافات إلا أن ذلك لم يهدد الهوية الثقافية لها؛ ورغم تراكم أجيال المهاجرين وتعدد ثقافاتهم وإنخراط بعضهم في تنظيمات إرهابية وقيامهم بأعمال إرهابية كهجوم تشارل ابيدو ومحطة المترو وغيرها، فلازال الفرنسيين يحتفظون على موائدهم بالنبيذ الفرنسي المعتق والباجيت والكريب ولازالوا يستمعون لمعزوفة كلود يبوسى وفريدرك شوبان، وما زال العبق الفرنسي يفوح من شوارعها .
إن الشعب الفرنسي اليوم الذى ينزل للشارع معترضا على زيادة الضرائب على الوقود، إنما يرفع بطاقة حمراء فى وجه الرأسمالية الأوروبية الوديعة حتى لا تتوحش كنظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية، فهو باحث عن العدالة الاجتماعية والتي كانت توسطت شعارات ثورته قبل أكثر من قرنين من الزمن .
وصوت المتظاهرين فى الشانزليزيه هو صدى لأصوات شعوب العالم فى رفضها لسقف العدالة الاجتماعية المنخفض للرأسمالية، والتي جعلت منه العولمة الاقتصادية سقفا عالميا، وليس أدل على ذلك من اتساع موجة الاحتجاجات إلى بلجيكا وهولندا؛ ووصول تلك الموجة إلى ألمانيا لا يبدو إلا مسالة وقت ولكن طالما لم تصل الى ألمانيا بعد فالموجة ما زالت في حدود السيطرة؛ ولازال بالإمكان وضعها فى إطارها الفرنسي برغم طبيعة دوافعه المشتركة أوروبيا وعالميا.
والآن وبعد هذه الاحتجاجات ينبغي على فرنسا والاتحاد الأوروبى إعادة النظر فى سياسات الاتحاد الأوروبي الداخلية؛ وفيما يخص العولمة الاقتصادية ومدى تأثيرها على مفهوم الدولة القطرية فى أوروبا الموحدة ككيان سياسي له مصالحه الخاصة وخصوصيته الثقافية والاقتصادية والقومية ؛والتي قد تتعارض مع سياسات الاتحاد الأوروبى، وهذا ما قد تستغله الحركات الشعبوية اليمينية والقومية المتطرفة كمدخل للوصول إلى سدة اتخاذ القرار فى الدولة القطرية الأوروبية؛ وهو ما يتطلب من القادة الأوروبيين إعادة صياغة استراتيجية أوروبية جديدة تضمن للدولة الوطنية مكان واضح ووزان لها تحافظ من خلالها على الخصوصية الثقافية والقومية لها ولتكبح جماح الشعبويين المتطرفين، وسياسة اقتصادية تضمن العدالة الاجتماعية تمنع توحش الرأسمالية تحت سقف العولمة الاقتصادية.
إن ما يجري فى فرنسا اليوم وهو ناقوس خطر ثانى بعد ناقوس الخطر الأول الذى تمثل بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، ويتوجب على أوروبا الانتباه إليه ومعالجته بشكل سريع حتى لا تنتقل احتجاجات الشانزليزيه إلى كل أوروبا وتطفئ القنديل الأوروبى المشتعل منذ سنوات طويلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق