هل تفقد اللغة العربية مكانتها في اسرائيل؟/ نبيل عودة

تمهيد
في جبهة أخرى غير جبهة الصراع القومي الفلسطينية -الاسرائيلية. نجد صراعا لا يقل أهمية خاصة بين المواطنين الفلسطينيين العرب داخل الخط الأخضر في مواجهة سياسة رسميا أسقطت اللغة العربية من مكانتها القانونية ومكانتها الفعلية كلغة 20% من المواطنين. كثيرا ما سمعنا اوساطا سلطوية وعنصرية تتحدث عن "التهديد الديموغرافي" او "خطر الثنائية القومية " او "ترانسفير العرب في اسرائيل" كما تفوه مرة بصورة واضحة رئيس الحكومة نتنياهو، الى جانب فبركته لشروط تعجيزية في المفاوضات مع الفلسطينيين، مثل الاعتراف ب "يهودية دولة اسرائيل"، كل تصريحاته تكشف ان سياسة ممارسة أفظع أشكال القمع بما في ذلك القتل بدم بارد ضد أبناء الشعب الفلسطيني المحاصرين والخاضعين للاحتلال، لا تتناقض مع نهجه وفكره من رؤيته لعلاقة الدولة مع مواطنيها العرب. قال قبل سنوات ان الطريق مفتوحة امام المحتجين والداعين الى اقامة دولة فلسطينية في المناطق الفلسطينية المحتلة لأن يذهبوا الى السلطة الفلسطينية ولن تضع حكومته عراقيل على انتقالهم.
اود ان أشكر نتنياهو انه كشف وجهه الحقيقي ومواقفه الحقيقية بدون رتوش واضعا نفسه في أقصى الخارطة السياسية يمينيا في إسرائيل .. هو بحق الأكثر يمينية في إسرائيل .. ويبدو مع امكانية اقتراب اجراء انتخابات جديدة وخوفا من منافسيه اليمينيين، قرر ان يتخلى عن بقية اتزانه الذي يحاول ان يظهر به اعلاميا، وان يطابق بين تصريحاته وما ينفذه بالواقع على الأرض من سياسة استيطانية ليقنع الجمهور المستوطنين ان بينيت وليبرمان مجرد يمينيان صغيران. طبعا ليس سرا على أحد ان حكومة نتنياهو هي حكومة المستوطنين!!
طبعا نسي ان العرب في اسرائيل يشكلون 20% من المواطنين أصحاب البلاد الأصليين والمتأصلين بأرض وطنهم، وانه لا يمثل كرئيس حكومة الا اليمين المتطرف الفاشي الفاقد لأي منطق سياسي او قدرة على اخفاء بشاعة نهجه السياسي والسلطوي. المأساة ان ما يسمى "يسار – مركز" في اسرائيل لا عمود فقري له وينجرف بدون منطق وراء تبرير سياسات اليمين، بكل ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
الجماهير العربية داخل الخط الأخضر تجاوزت ما هو أبشع من سياسة نتنياهو، في ظروف بالغة الصعوبة والخطر على هويتها القومية وثقافتها وما زالت تعاني من سياسات الاضطهاد القومي والتمييز العنصري في كل مجالات حياتها. آمل ان يستيقظ ابناء الشعب اليهودي لما يخططه لهم رئيس حكومتهم من مستقبل اسود ... عدوهم ليس العربي المتظاهر ضد سياسة حكومة منفلته عنصرية .. بل عدوهم الأساسي سياسة تقودهم الى مستقبل غامض لا تبشر الا بجحيم أسود لجميع مواطني الدولة عربا ويهودا!!
حكومة نتنياهو هي حكومة المستوطنين وليست حكومة المواطنين داخل الخط الأخضر!!
مكانة اللغة العربية
المستشرق البروفيسور أمنون كوهين (من الجامعة العبرية)، تساءل في مداخلة له إذا كانت " ثنائية اللغة" تختصر الفجوات وتخفي الخلاف بين متكلمي اللغتين، او انها على العكس، تشكل اداة لإبراز خلاف الرأي.
وطرح سؤال: "هل الثنائية اللغوية تهدد الخصوصية الثقافية للمتحدثين باللغة العربية الذين يعيشون داخل بحر يتحدث بالعبرية في إسرائيل؟ وماذا حققت اللغة القديمة – الجديدة (العبرية) للسبعة ملايين مواطن يهودي في الدولة الشابة، للغة (العربية) المتأصلة في افواه 250 مليون شخص"؟ (الأصح 350 – 400 مليون)
في دولة اسرائيل اليوم، اتقان اللغة العبرية هو شرط اولي لنجاح عربي اسرائيلي في جميع المجالات. اللغة العبرية هي لغة العمل والأكاديميا والتجارة والتعامل مع معظم مؤسسات السلطة. معرفة اللغة الانجليزية هي شرط للتقدم الأكاديمي، اليوم بعد الهجرة الروسية الكبيرة أصبحت اللغة الروسية أكثر استعمالا في المؤسسات من اللغة العربية، الروسي يجد من يترجم له، العربي يجب ان يعرف اللغة العبرية. اللغة الام العربية، لغة الوطن الفلسطيني، تنحسر الى المكان الثالث او الرابع، والهامشي في المجتمع الاسرائيلي ومكانتها ضعيفة ايضا في المجتمع العربي نفسه.
المؤرخ الدكتور عادل مناع مدير "المركز لأبحاث المجتمع العربي" في معهد فان لير في القدس، تحدث عن تجربته الاولى كابن للأقلية العربية في الجامعة، قال ان حتى وصل للأكاديميا، تعلم وتحدث بالعربية وان الواقع الذي التقى به في الأكاديميا كان بعيداً عن وعود وثيقة الاستقلال" (جاء في ميثاق استقلال دولة اسرائيل:" الدولة تقيم المساواة التامة في الحقوق اجتماعياً وسياسياً بين جميع رعاياها من غير تمييز في الدين والعنصر والجنس وتؤمن حرية الأديان والضمير والكلام والتعليم والثقافة")
اضاف مناع:" ان اتقان اللغة العبرية والنجاح في الدراسة، ليسوا ضمانة لنجاح العربي في الاكاديميا الاسرائيلية ". وواصل يقول:" حتى اليوم لم يعين أي عربي كمحاضر كبير في قسم الشرق الاوسط او حتى في قسم اللغة العربية في الجامعة العبرية "، أضاف:" ماذا كنتم ستقولون لو انه في قسم تاريخ الشعب اليهودي في برينستون او ييل لا يوجد أي محاضر يهودي؟" .
وقال:" انه يعرف أكثر وأكثر أكاديميين عرب، يفكرون بالعبرية حين يتحدثون بالعربية " وانه كان شاهداً لموقف مخجل عندما حاضر عربي اسرائيلي يعد للدكتوراه امام جمهور عربي، ولم ينجح بان يلفظ حتى جملة واحدة بالعربية، دون اصطلاحات عبرية "، رغم ان العريف عاد واكد للمحاضر مرات عدة انه في القاعة مواطنين من المناطق (الفلسطينية) لا يعرفون العبرية، رغم ذلك معد الدكتوراه لم ينجح ان يخرج الكلمات الصحيحة باللغة العربية واخيراً جمع اوراقه وغادر المنصة".
ولا بد من الاشارة الى ان سيطرة اللغة العبرية في اوساط الدروز والبدو أعمق كثيرا من سيطرتها على لسان الأوساط العربية الأخرى.
للوهلة الاولى يمكن تفسير ذلك بسبب خدمتهم بالجيش الاسرائيلي، لكن هذه الحجة واهية تماما. لا بد من دراسة هذه الظاهرة بشكل يأخذ أيضا برامج التعليم، خاصة تعليم اللغة العربية، مستوى هذا التعليم، جاهزية المعلمين وقدراتهم على التعليم.
كنت شخصيا قد شاركت، قبل أشهر قليلة، بيوم اللغة العربية في مدرسة ابتدائية في الناصرة، وقع من نصيبي الصف السادس، توقعت من الطلاب مستوى معرفة فوق المتوسط، حين كنت في جيلهم قرأت نجيب محفوظ، احسان عبد القدوس، توفيق الحكيم، محمد عبد الحليم عبد الله، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، مارون عبود وغيره من أهم ممثلي الثقافة العربية، كذلك قرأت الكثير من الأدب السوفييتي المترجم وعشرات روايات الهلال المترجمة وصحف ومجلات ثقافية وسياسية عربية. فوجئت ان طلاب الصف السادس لا يلمون حتى بقراءة نص واحد بشكل صحيح (مثلا قصة للصغار)، فهمهم للمقروء يعاني من التباسات حادة، تبين لي انه عدا وظائفهم المدرسية لا يقرأون شيئا، بعضهم كشف ان مكتبة المدرسة مغلقة. المعلم المتواجد في الصف أصر انها مفتوحة دائما للطلاب، الطلاب تكلموا باندفاع وحماس ان المكتبة لم تفتح ابوابها منذ منتصف السنة الدراسية الماضية. بالطبع المكتبة المدرسية ليست هي الحل للمشكلة، البيت أيضا يفتقر لمضامين هامة في التربية. بيت بلا مكتبة ليس بيتا لأبناء البشر. هذا الجيل سيكون أسوأ من آبائه، نحن ممارسي الكتابة نعيش هذه المأساة، أحيانا تجعلنا نفقد كل توهج للدخول في ابداع جديد، النشر يكلف ولا يوجد مردود لتجديد قدرتنا على نشر اعمال جديدة، فلمن نكتب؟
كذلك لا يمكن تجاهل ظاهرة الفضائيات العربية التي تضاعف الجهل والغيبية ببرامجها، شبكة الانترنت أيضا تستعمل في اتجاهات غير تربوية وغير تعليمية بغياب التوجيه الصحيح وأحيانا غياب الرقابة من الأهل لأن بعضهم لا يعرف استعمال الحاسوب وبعضهم يتوهم ان ابنهم مجتهد في دراسته والحاسوب عالم يزيد من معارفه. من المؤكد ان ضعف برامج التعليم والحالة المزرية للعديد من المدارس هي من العوامل الحاسمة في تضعضع مكانة لغتنا العربية. لا انفي وجود سياسة تمارس بصمت. لذا أجد نفسي مضطرا هنا للمصارحة.
حررت خلال سنتين مجلة للطلاب الابتدائيين، كان يشارك بكتابة موادها الأساسية الطلاب أنفسهم. عبر المواد التي كانت تصلني للمجلة انكشف بسهولة أمامي واقع التعليم ومستواه. تبين لي ان المدارس الأهلية، مدارس الارساليات المسيحية في الناصرة والى حد ما حيفا، هي الأفضل والأرفع في مستوى التعليم والطلاب. بشكل عام مستوى المدارس الحكومية في الناصرة مقبول نسبيا. كذلك الوضع في مدارس بعض قرى وبلدات عربية في الجليل والمثلث مثل كفرياسيف والرامة وام الفحم وباقة الغربية وغيرها مع تفاوت كبير في مدارس نفس البلدة، بعضها ما دون المتوسط وما دون الحد الأدنى المطلوب لمدارس ابتدائية. طبعا هناك تفاوت بين الطلاب أنفسهم .. نجد طلابا بمستوى عشر نقاط حتى في مدارس متدنية بمستواها بشكل عام، بنفس الصفوف نجد طلابا لا يتعدون النقاط الخمسة الأولى .. وأميل هنا لرؤية تأثير البيت وأهميته في تطوير قدرة الطالب. هذا ينسحب على المواد العلمية وعلى اللغة العربية وتأصلها في ذاكرة الطلاب ولسانهم. اكتشفت ان بعض المدارس جعلت موضوع المطالعة العامة نهجا مكملا للتعليم، بالفعل كان طلابها الأبرع في الكتابة والتعبير اللغوي والابداع الأدبي وأيضا الابداع العلمي في كافة المواضيع. بعض المدارس خاضت تجارب فريدة من نوعها، اذ أدخلت موضوع الموسيقى الكلاسيكية مع معلمين مستقلين ومنهم المهاجرين الروس الجدد الذي وصلوا الى اسرائيل ويتمتعون بمستويات موسيقية راقية جدا واسلوب تعليمي ممتاز، كان من الممتع ان تسمع الطلاب في الصفوف الابتدائية المتقدمة يشرحون قطعا موسيقية لكبار الملحنين الكلاسيكيين، قاد هذا البرنامج الى اكتشاف عشرات الموهوبين موسيقيا، بعضهم اليوم من الأسماء التي تنطلق الى آفاق حدودها السماء، أيضا من لم يختر الموسيقى حقق تقدما في سائر المواد التعليمية، لم تشكل الموسيقى عبئا جديدا على التعليم، بل نافذة ثقافية حضارية وسعت عالم الطلاب ومداركهم وقدراتهم على التعبير والكتابة والتقدم العلمي والانفتاح على ثقافتهم والثقافات العالمية.
أسرلة اللغة؟
بعض الكلمات العربية دخلت العبرية بلفظ مشوه لدرجة ان العرب باتوا يستعملون اللفظ المشوه في حديثهم باللغة العربية بدل ان يحافظوا على اللفظ الصحيح .. اوساطا عربية واسعة خاصة العمال العرب يستعملون في حياتهم العملية اللغة العبرية فقط وهذا الوضع بدأ يترك ترسبات اجتماعية بخلط تعابير عبرية مع اللغة العربية داخل المنازل وفي الشارع وفي مختلف العلاقات العامة في مجتمعنا العربي. المجتمعات التي فرض التجنيد عليها او نشاهد حركة تطوع واسعة بين أفرادها نجد سيطرة أوسع للغة العبرية في العلاقات اليومية، لدرجة تبدو العبرية لغة ام. حتى لو تحدثت مع أحدهم بالعربية يرد عليك بالعبرية او بكلمات مختلطة من اللغتين.
حتى اللافتات الكبرى في البلدات العربية نجد ان بعضها يخلوا من اللغة العربية.
هل هزمت اللغة العبرية اللغة العربية في اسرائيل؟
بالطبع لست في باب اعطاء الجواب الحاسم .. انما أطرح جوانب مختلفة من هذه الاشكالية المرعبة بكل المقاييس. لا بد من التنويه ان هذا يترك آثاره السلبية على الأجيال الناشئة.
انا مثلا اكتسبت ثقافتي العربية بجهدي الذاتي، بتشجيع ودفع من والدتي بالأساس، حتى اتقنت القراءة وعشقتها وانا في الصف الثالث ابتدائي، لكني واصلت دراستي الثانوية بمدرسة عبرية/ عربية، زملائي العرب بنفس الصف غير قادرين اليوم على صياغة رسالة بعشرة أسطر بلغة عربية غير مكسرة وبجمل واضحة مكتملة.
حقا لا أعرف غير القليل جدا من القواعد العربية او قواعد النحو والاعراب، قدراتي اللغوية الصياغية لا لبس فيها، معظم ما أنشره لا يمر على مصحح لغوي، لذلك أواجه أحيانا بانتقادات حول أخطاء يقع فيها من هم أكثر معرفة مني بقواعد اللغة .. أعرف ان لغتي جيدة، ورغم ان عملي كان يفرض علي استعمال اللغة العبرية لأكثر من 10 ساعات يوميا الا اني عندما اتحدث بالعربية لا استعمل أي تعبير عبري اطلاقا. وهذا بدأ كنوع من التثقيف السياسي والفكري. أحترم اللغة العبرية واستعملها بطلاقة، كتابة وقراءة وحديثا. لكن لي لغتي التي تشكل شخصيتي القومية أيضا. انسان بلا لغة قومية هو كيان يفتقر للهوية الوطنية والانسانية. من هنا رؤيتي ان محاولات افقار اللغة العربية واسقاط شرعيتها، وافقار مكانتها في مجتمعنا الهدف منه هويتنا القومية بالأساس.
في دراسة فريدة من نوعها، للمحاضر والمدير السابق لقسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب بروفسور سليمان جبران، حملت عنوان " على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة" طرح العوامل المؤثرة سلبا وايجابا .
يطرح سليمان جبران تساؤل زميل مترجم مواد تعليمية من العبرية الى العربية، يسأل: "كيف تطورت اللغة العبرية، في مدة قصيرة نسبيا، من "لغة ميتة" الى لغة عصرية تماما، بينما تعرج لغتنا وراء الحضارة المعاصرة بصعوبة؟"
ويضيف الزميل: "أترجم من الإنكليزية الى العبرية أجد عشرات بل مئات من المصطلحات الحديثة وجدوا لها البديل العبري حتى شاع على الألسن، بينما يصعب وأحيانا يتعذر علي ايجاد البديل العربي المناسب رغم استعانتي بكل القواميس المتاحة ".
يكتب الدكتور جبران: "الواقع ان العبرية تعاني أيضا كثيرا في لحاقها بالثورة الفكرية والتكنولوجية المعاصرة، غالبا ما يدور الجدل هناك أيضا بين المجددين والمحافظين، بين من يتبنى المصطلح الأجنبي بعلاته ومن يحافظ على العبرية و"نقائها" دون هوادة .... علينا الاعتراف ان العبرية تطورت فعلا أكثر من العربية في المئة سنة الأخيرة .... الدليل على ذلك ان الترجمة من اللغات الأجنبية، الانجليزية مثلا الى العبرية، أسهل بكثير من الترجمة الى العربية، سواء من حيث المصطلحات أو مباني الجمل أيضا".
يستنتج: "السبب الأول في رأينا، وليس الأهم بالضرورة، ان العبرية أكثر طواعية من العربية، فالعبرية " تخلصت " منذ عهد بعيد من حركة الآخر وعلامات الاعراب الأخرى، كما حدث في لغتنا المحكية. علاماتى الاعراب، كما لا يخفى على كل مهتم باللغة العربية، عبء على الكاتب والقارئ والمترجم. ثم ان نحو العبرية الحديثة سهل طيع، تكاد تصوغ الجملة فيه كما ترغب، دونما خوف من الوقوع في "الممنوع " أو غير المألوف على الأقل".
ويقول: "ان نحو لغتنا الفصيحة بقي صارما، تحكمه القواعد التي وضعها سيبويه وأقرانه منذ مئات السنين، فيما عدا تغييرات طفيفة أملتها الحياة المعاصرة، ويعتبرها " الغيورون" خروجا على اللغة طبعا".
ويواصل د. جبران: " السبب الثاني، وهو الأهم في نظرنا، هو سبب انساني، فالقائمون على اللغة والفكر عامة في اسرائيل، يتصلون بالغرب واللغات والثقافات الأجنبية اتصالا مباشرا، ونقل الحضارة الغربية من تكنلوجيا وثقافات وآداب، يكاد يتزامن مع نشوء هذه الحضارة في مجتمعاتها الأصلية هناك".
يقارن ذلك مع وضع اللغة العربية المختلف: "عالم مترامي الأطراف، اذاعات وفضائيات وصحف لا تعد ولا تحصى، مجامع لغوية بدل مجمع واحد مشترك وصوتها لا يكاد يسمع". يستنتج ان اللغة العربية لا تتطور بمساعدة المؤسسات والهيئات، بل يمكن القول انها تتطور رغم المؤسسات ورغم "اللغويين" الذين يعترضون على كل تجديد في المعجم أو النحو كأنما التجديد عمل منكر".
إذا كانت هذه هي حال اللغة العربية في موطنها، فماذا تنتظرون ممن واجه سياسة تجهيل مريعة في السنوات الاولى للدولة يوم كان يفصل كل معلم وطني أو لا يتماثل مع السلطة ولا يلتزم بما أعدوا له من مواد التدريس؟
كان النشاط الثقافي الحزبي (الشيوعي في وقته) واسعا ومربيا ومعوضا على نقص وشح المصادر الأدبية العربية، جعل من الثقافة الوطنية مهمة سياسية اجتماعية حضارية لها اولوية عظمى، فأصدر أفضل مجلة ثقافية عربية، مجلة " الجديد " - من أبرز محرريها المؤرخ والناقد والقائد الشيوعي اميل توما ، الباحث والمفكر جبرا نقولا ،الشاعر والكاتب عيسى لوباني الشاعر محمود درويش ، الشاعر والمفكر سالم جبران، الشاعر سميح القاسم وباقة كبيرة من الأدباء والمفكرين البارزين من العرب في اسرائيل، كذلك كانت صحيفة "الاتحاد" (الشيوعية أيضا)منبرا ومدرسة ثقافية أدبية سياسية فكرية نقدية. كانت منظمة الشبيبة الشيوعية مدرسة نضالية وتعليمية للغة العربية والثقافة والفكر والمجتمع للشباب الطلائعيين. من يقرأ كتاب "عرب طيبون" للباحث هيلل كوهين من الجامعة العبرية، يكتشف الدور المذهل في أهميته الذي لعبه الشيوعيون في الإنقاذ الوطني والثقافي للأقلية العربية في اسرائيل من براثن سياسة التجهيل والعدمية القومية والترحيل ومصادرة الأرض.
ان مساحة اللغة العربية في حياتنا داخل اسرائيل لا تتعدى 20% من ساعات يومنا، وعلى الأقل 50% من وقتنا نفكر ونتحدث بالعبرية مع بعض الخلط لكلمات عربية. هذا عدا اعتمادنا على الأخبار والتقارير الاخبارية الراقية والمثيرة بالعبرية، حيث النقد وعدم الصمت على تجاوزات المسؤولين الرسميين او غير الرسميين ولا أظن ان ذلك له مثيلا حتى في الغرب الدمقراطي.
السؤال الرهيب أكثر: هل حال اللغة العربية في مواطنها العربية أفضل من حال اللغة العربية في اسرائيل؟
كم من المواطنين العرب ملمين بلغة عربية سليمة؟
ما هي نسبة المواطنين العرب الذين يعرفون لغة الصحافة (اللغة العربية الفصحى السهلة) ويفهمونها؟
عندما يكون 80% من سكان العالم العربي فقراء أو تحت خط الفقر فهل يحتاجون الى تعلم لغة ما عربية أو غيرها؟
عندما تصل نسبة الأمية في القرن الحادي والعشرين، قرن الحضارات المنطلقة للفضاء الكوني بكل اتساعه الى 60% في العالم العربي (النسبة أعظم بين النساء)، فأي قيمة تبقى للغة، حتى بالنسبة لمن يفكون الحرف ويحسبون مع غير الأميين ...؟
وماذا نسمي أكاديميين لا شيء يربطهم بلغتهم وثقافتهم؟
من هنا أيضا أفهم خوف العرب من التطبيع ... الثقافة الدخيلة واللغة الدخيلة أكثر جاهزية للتقدم والحياة من الثقافة العربية المنغلقة فكريا ولغويا. حالة العرب في اسرائيل، حيث نسبة الأمية تكاد تقترب من الصفر، ونسبة التعليم الجامعي مرتفعة، الا ان لغتهم لا تشكل تحديا حضاريا للغة العبرية، للأسباب التي ذكرتها. ما زلنا نبحث عن المصادر الممتازة بالعبرية، ليس فقط لعدم وجودها بالعربية، انما لأن العبرية أكثر دقة في الترجمة وسهولة الفهم، وكنت قد كتبت سابقا عن حالة واجهتني مع كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، ترجمه بروفسور عربي للغة العربية، لم انجح بفهم طروحات سعيد ولغة الكتاب العربية المعقدة، فقرأته بالعبرية بلغة سهلة وواضحة. الى جانب حقيقة ان أجمل ابداعات الأدب والفكر والأبحاث والعلوم تصدر بالعبرية فورا بعد ظهورها في اللغات الأجنبية. وإذا صدرت متأخرة باللغة العربية، فهي كثيرا ما تكون بلغة متعبة للقراءة.
ان تطوير اللغة العربية يتعلق بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعالم العربي، نحو نهضة اقتصادية اجتماعية علمية وثقافية ولغوية. في واقعنا المحلي نواجه يوميا تحديات خطر اضعاف العربية وتقليص دورها في حياتنا مما يعني تشويه لهويتنا القومية. وهذا ما يجب ان نعيد حساباتنا لمواجهته.
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق