يقول البير كامو ( ليس ثمّة ما هو عقاب أقسى من العمل غير المجدي والذي يكون يائساً لا أمل له بالوصول الى غايته ) .
لايبلغ الأدب مبلغ الروعة الخالدة الاّ اذا تحلّى بالوضوح والعمق والسموّ والرساليّة , ويتحقق هذا عن طريق إسلوب الأديب في تفكيره والشعور الذي يثيره موضوعه عند المتلقي وتعبيره اللغوي , وايضاً عن طريق نظرته الى الاشياء نظرة قويّة وعميقة , بحيث تتمثّل له تلك الأشياء في صور وظلال , ينقل كلّ هذا الى المتلقي بحيث يصبح الأخير يمتلك من المقدرة المماثلة على ذلك النظر والتصوّر ومشاركة الأديب في عمله . وكلّما تكاثر الظلم والحرمان والأضطهاد واختلّت موازين القوى في مجتمع ما , ترتفع من هنا وهناك الأصوات تطالب بالخلاص والأنتصار , يرفعون شعار الثورة والأعتراض والسخط على الواقع المرير , حينذاك تبرز الطبقة المثقفة في المجتمع تأخذ دور المتصدي لكل هذا الخراب , ومن أهمهم يقف الشاعر نازفا يحمل هموم الانسان معتمدا على تفجير طاقات اللغة وإعادة تشكيل الواقع البائس بخياله الخصب , وتسخير طاقة المفردة موسيقيا وتصويريا وتشكيلا وتلوينا , وكل هذا لا يتأتّى الاّ عن طريق الموهبة والصنعة . فالشاعر هو الوجدان الرقيق والساحر الحاذق والمتنبىء الجسور , يجيد قراءة الواقع ويجيد تجميع وخلط صوره في لوحة مكثّفة موجزة تعبّر أصدق تعبير عمّا يعتريه , ويفرض سطوته على ذهن المتلقي وإقحامه داخل عمله الشعري مرغما مستانسا ومتلذّذاً بما يطرحه .
لقد تفكّك النشيج الاجتماعي بعد مايسمّى بـ ( الربيع العربي ) في البلاد العربية التي غمرتها هذه الرياح الهوجاء , وتشوّهت مباهج الحياة وأصبحت عبثيّة , وأختفت من الأفق الأحلام التي كان يحلم بها هذا الأنسان المغلوب دائما والخاسر الوحيد داخل وطنه وبين أهله , وتلاشت الأمنيات والآمال وتصحّرت الحياة أكثر , وانتشرت الفوضى تقضم الباقي في النفوس , فاصبحت الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات مقفلات بوجهه , وكانّها تعاقبه على تخاذله بعدم الأنتصار على الظلم , فأصبح يعيش داخل حلقة مفرغة وثقل هذا الكون قد سُلّط عليه , فبدأت من هنا مأساته التي قد تطول وقد لا تنتهي .
بالعودة الى نصّ الشاعرة والناقدة التونسيّة ( خيرة مباركي ) نجد أنفسنا أمام قوتين تتصارعان فيما بينهما / الصعود – النزول و / النجاح – الفشل / الأنسان – القوة الغيبية / , ومن جهة أخرى نجد قوى أخرى تتصارع فيما بينها وهما / الأسطورة – الواقع / , وكذلك نجد اربع شخصيات تمثّل محنة هذا الأنسان / عشتار – تمّوز / و سيزيف – شخصية الشاعرة / هكذا صنعت الشاعرة تراجيديا هذا الأنسان داخل نصّها المثير / أحلام مهجّرة / , فاصبح النصّ مشعّاّ مزوّداً بالكثير من الطاقة اللغوية ومساحة يستطيع المتلقي من ممارسة لعبة الأكتشاف والمجاهدة الأبداعية . من خلال هذا / الربيع العربيّ / بدأنا نسمع ونستخدم مفردة / التهجير / بكل تصريفاتها وقسوة معانيها , فأصبحنا نعرف جيداً معنى التهّجير القسري عن البيوت والأوطان , فجاء هذا النصّ ليتحدث لنا عن تهّجير الأحلام عن طريق هذا الأنزياح اللغوي الغريب .
/ ها هو .. سيزيف يقاوم ظله / يُرسي صخرته العنيدة شِرعةً للمتسلقين .. / لا يحلم بأشياءَ كثيرةٍ .. / . انّه انسان اليوم المغلوب والمنهزم والمقاوم والعنيد في نفس الوقت للخلاص والخروج من قعر السُلّم الأجتماعي والحالم بواقع آخر يعيد له كرامته المستلبة ويعيد له انسانيته , لمْ يعد يحلم باشياء فاخرة كثيرة بعدما فقد كل شيء في هذا الوطن .. / يحلم بأنشودة وحيدة يغنيها للوطن/ يهشّ بها على أزقةٍ فارقها الحب فغادرته / في ظلال الدراويش ../ . أصبح لا يملك الاّ الحلم وأنشودة يرثي بها الوطن يشدوه عذاباته وما يجيش في نفسه من لواعج وعتاب وخيبات امتلأت به حاراته الكئيبة بعدما غاب عنها الفرح والحياة في زمن الفتن والاقتتال والتدمير وضياع الوطن وظهور زعامات وأحزاب وميليشيات تدافع عن زعاماتها ونسيت الوطن المنكوب . / هو سيزيف يقاوم ظله
ويرفع صخرتَه العتيدةَ / إلى سماء لا تُقايضُ العواصف المعتلّة بالمنافي ، تنهض من لغو المحطات الملقاة على قارعة السحاب/ .. . هو نفسه انسان هذا الوطن مازال يقاوم محاولا ان يرفع عن كاهله كابوس ثقيل الهموم كالجبال جاثمة على صدره , متضرعا للسماء بان تفتح أبوبها وتمنحه الخلاص رغم كثرة الأصوات المنادية بالخلاص والأنتفاضات , لكنها غير صادقة في انتماءاتها وولائها لهذا الوطن . / وفي مشهد آخر تأخذنا اليه الشاعرة تطالب / العرّاف – الشاعر / أن يدوّن في قصائده ملحمة هذا الشعب المنكوب عن طريق إستحضار شخصيتين من شخصيات التاريخ وهما / عشتار = آلهة الحب والجمال والتضحية في الحرب في زمن البابليين / وشخصية / تمّوز = زوج عشتار = رمز الحزن التراجيدي المتمثّل في روح الانسان في وادي الرافدين ورمز العذاب والاضطهاد / فيا أيها العرّاف ..دوّن على صحائفك / تاريخ تهجير عشتار / واستخر لعودة تموز بعد المواسم المبعثرة / فوطني يغرق يغرق..ويختنق ..!!/ ربيعه مريب ..مهدور المنايا ..وملبّد .. يحتضر يواري سوءات المتبدّلين الذين / باعوا آخر عظامه للمحرقة ../ . ان استخدام الرمز هنا منح النصّ بُعداً دلالياً وطاقة معنوية , فنجد هنا تداخل الازمنة والامكنة فيما بينها تداخلا لا نستشعر به , استطاعت الشاعرة ان تقحمنا به دون عناء , ونجد ثلاثة امكنة وجدنا انفسنا فيها / السماء .. حيث الآلهة عشتار / تمّوز .. حيث الحجيم في العالم السفلي / والأرض .. حيث الأنسان / . فبعد تهّجير / الجمال والحبّ وبقاء الجحيم والاضطهاد , لم يبق سوى الشاعر المنتمي لهذا الوطن , الوطن الغارق حدّ الأختناق في وحل الهزيمة , فلا ربيع في الأفق يلوح , يُذبح كلّ يوم امام أنظار مواطنيه الذين تبدّلت طباعهم ونفوسهم وآثروا مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة , انهم يبيعون الوطن خلف الكواليس , لقد باعوا كل شيء فيه حتى عظامه دلالة على الفناء والضياع , كي تلتهم عظامه المحرقة المستعرة دوماً . نتلمس هنا ظهور وحركة تصاعدية في النصّ من خلال ظهور هذه الفئة المنتفعة وصعودها الى السطح بجلاء نتيجة هذا الاضطراب والتفكك في المجتمع وضعف الرقابة وعدم المحاسبة , لقد تسلّقوا وبسرعة نتيجة هذه الفوضوى واستلموا المناصب الرفيعة والمهمة في الوطن فعاثوا به خرابا ودمارا . / هاهي عيون النخاسين عطشى !!/ والأشرعة المهاجرة سنّة المحرومين / حين يستعيروا الأرواح للجوازات الممنوعة ../ فالأحلام تشرب الغروب/ .. . شرهة حتى عيونهم اصبحوا يتاجرون بأبناء الوطن المحرومين , ما بين تهريبهم الى البلاد البعيدة او ارسالهم الى الاماكن التي تكثر فيها الحروب , لا لشيء سوى الخلاص منهم ونفيهم خارج الوطن والأستئثار بما فيه من خيرات , فالأحلام الجميلة تلاشت حينما زحف الغروب يشربها . ان للعيون تأثير كبير من خلالها نعرف شخصية الأنسان , ففيها تتجلّى افراحه واحزانه ومكره وخديعته , وتتكرر مفردة / العيون / للمرّة الثانية في النصّ دلالة على كثرتها وانتشارها في هذا الوطن . / فثمة أعينٌ تبيع الوطن على قارعة اللاّأحد .. لكنَّ وطني لم يمت .. يرتّق حلمه من المسافات/ .. . وكذلك تتكرر مفردة / الوطن / في هذا المقطع من النصّ تأكيدا على مظلوميته وإستباحته من قبل هذه العيون التي / تبيع / في هذا الزمن الحاضر والمستمر , لكن يبقى الوطن حيّاً كبيراً لا تطاله أيدي المرابين والمتاجرين به , سيعود رغم هذا الخراب ينعتق من رماد أحزانه كالعنقاء . وتتكرر الأسطورة من جديد في هذا النصّ عن طريق / أوديب = الذي حقق البنوءة وجلب الكارثة على بلده وشعبه / . انّ رمزية / أوديب / تعني صراع الأنسان أمام قوة هائلة لا قِبَلَ له بمواجهتها , دلالة على ضعفه وتحدّيه في نفس الوقت , هذا الأنسان الذي اوجدته السماء / الله / في هذا الوطن وتركته يختار طريقه دون تدخّلها في رسم مصيره , لكن رغم ما آثامه بقي مؤمنا بالخلاص والأنتصار ../ وأوديب ما باع أمه ../ مازالت آية الكرسي تحيط أحلامه من خلف يديه.. / وترميهم بسجيل الحجارة " / بشفاه النار / في مواقد المرايا / كزيتونة على جناح الحلم..
شرقية وغربية الحجى / ترسمك ياوطني بريشة رمل تُبعثر / صوت الرصاص في موجة الكراسي !!/ . مازال مؤمنا بالسماء / الله / وانها ستتدخّل في الوقت المناسب وتنتصر له , مازال مؤمنا بالغيب وبعجزه وضعفه امام هذه القوة الجديدة التي ظهرة في غفلة من الزمن وسرقت بهجة الوطن .
انّ النصّ تسري عليه عملية إشتعال تدريجي لها سحر ينفذ الى وجدان المتلقي من خلال استخدام الشاعرة لرموز الأسطورة وتركها تتحرك داخل نسيج النصّ وتنصهر داخله لما تحمل هذه الرموز من عبء ومعاناة مستمرة تجعل النصّ يتوهّج ويستمر في تأثيره . لقد اكتسب هذا النصّ عمقاً وجودياً انسانيّا .
في النصّ نجد الشخصيات التالية / سيزيف / عشتار / تمّوز / اوديب / الوطن / والشاعرة / تتصارع وتتحرّك ضمن الحدود المرسومة لها , لقد تناولت الشاعرة فلسفة الأسطورة وأسقطتها على الواقع اليومي , لتخبرنا قصة التحدّي والأصرار على البقاء رغم عبثية ما يحدث , ان الأنسان في الوقت الحاضر ما هو الاّ رمز من هذه الرموز الأسطورية , لقد اعادت رموزها هذه الى أرض الواقع متكئة عليها في إنضاج فكرة النصّ وتطوره ابداعيا . ولقد تميّز النصّ بلغته المثيرة وترابطه المحكم , لقد كانت السطور الأخيرة من النصّ تنطوي على فكرته الرئيسية , بينما بقيّة النصّ كانت تهيّء وتسعى لأبراز هذه النتيجة , وكأنه عمل مسرحيّ تكوّن من / إستهلال / وشرح الثيمة / ثم جاءت / النهاية / .. هذا النصّ عبارة عن تراجيديا وصراع مستمر بين الأنسان وقوى لا يستطيع الصمود امام طغيانها , ومع ذلك فهو يحاول التغلّب عليها والأنتصار , انتصار للأنسانية والأنتصار للوطن . لقد إلتجأت الشاعرة للأسطورة من أجل الخلاص من الخيابات والهزائم في محاولة لردم هذا الخراب وإيجاد عالم آخر أكثر عقلانية وإشراقاً . ان استخدام الأسطورة في هذا النصّ حرّكت الخيال والأيحاء لدى الشاعرة فأستطاعت من تعرية الواقع وحالات النكوص والخيبة لدى الأنسان , وحاولت إستنهاض الهمم والنظر بعقلانية أكثر لما يمرّ به الوطن ومحاولة الصمود أمام هذه الفئة الجديدة من البشر التي طفت على السطح وعبثت بمقدراته ونهبت خيراته وأستأثرت بها لنفسها فقط .
النصّ :
أحلام مهجّرة
ها هو .. سيزيف يقاوم ظله
يُرسي صخرته العنيدة شِرعةً للمتسلقين ..
لا يحلم بأشياءَ كثيرةٍ ..
يحلم بأنشودة وحيدة يغنيها للوطن
يهشّ بها على أزقةٍ فارقها الحب فغادرته
في ظلال الدراويش ..
هو سيزيف يقاوم ظله
ويرفع صخرتَه العتيدةَ
إلى سماء لا تُقايضُ العواصف المعتلّة بالمنافي ،
تنهض من لغو المحطات الملقاة على قارعة السحاب ..
تقلع من قبضتها الجهات حزمة من ورق وقصائد
تشجب المرايا بأكفٍ راعشة !!
فيا أيها العرّاف ..دوّن على صحائفك
تاريخ تهجير عشتار
واستخر لعودة تموز بعد المواسم المبعثرة
فوطني يغرق يغرق..ويختنق ..!!
ربيعه مريب ..مهدور المنايا ..وملبّد .. يحتضر
يواري سوءات المتبدّلين الذين
باعوا آخر عظامه للمحرقة ..
هاهي عيون النخاسين عطشى !!
والأشرعة المهاجرة سنّة المحرومين
حين يستعيروا الأرواح للجوازات الممنوعة ..
فالأحلام تشرب الغروب ..
تتناوم على أعمدة مستأجرة المنال..
من ردف سحابة شهيّة المواجع
تستعير صرخة الحناجر
تقايض الحريّة بالميراث ...
فثمة أعينٌ تبيع الوطن على قارعة اللاّأحد ..
لكنَّ وطني لم يمت .. يرتّق حلمه من المسافات ..
وأوديب ما باع أمه ..
مازالت آية الكرسي تحيط أحلامه من خلف يديه..
"وترميهم بسجيل الحجارة "
بشفاه النار
في مواقد المرايا
كزيتونة على جناح الحلم..
شرقية وغربية الحجى
ترسمك ياوطني بريشة رمل تُبعثر
صوت الرصاص في موجة الكراسي !!
خيرة مباركي / تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق