كلٌّ عن المعنى الصحيحِ مُحرّفُ
للإنجليز مطامعٌ ببلادكمْ
لا تنتهي إلاّ بأنْ تتبلشفوا
رَحِم الله الرصافي معروفَ بن عبد الغني، شاعر الوطنية والإباء الذي عانى ما عانى أخريات أيامه من الفقر والحاجة والعزل ولم يُطأطيء هامته العالية للمحتلين. بعد أن خانه زمنه وتنكّر له ساسة بغداد يومذاك غادر العاصمة الخؤون إلى الفلوجة ثم عاد إليها ليبيع التبغ ويقول شعراً كدعاوة لسجاير غازي في دكان متواضع في ركن من أركان الأعظمية.
…
إذا ذكر أبو العلاء المَعَري مدينتي هيت وتكريت في البيت الشعري
هاتِ الحديثَ عن الزوراءِ أو هيتا
وموقدِ النارِ، لا تكرى بتكريتا
فلقد سبقه أبو نؤاس إلى ذكر الفلوجة، ولكن لغرض آخر لا علاقة له بالشجاعة والبسالة والنيران وصناعة السيوف. فغرام أبي نؤاس بالخمرة دفعه إلى إمتداح خمور " الفلاليج "
(( وواحدها فلّوجة : القرية بسواد العراق… كما ورد في حاشية القصيدة في الديوان )). قال أبو نؤاس وكان يومها سجيناً :
كدّرَ العيشَ أنني محبوسُ
واقشعرّتْ عن المُدامِ الكؤوسُ
وَحَمتْ درَّها كرومُ الفلالي
جَ وحالت عن طعمها الخَندريسُ
على ذكر الفلاليج والفلّوجة البطلة الصابرة والمباحة أعود للرصافي فأرى مشابه بين أبياته سالفة الذكر وما يجري اليوم على أرض الرافدين، فلا أجد في رأسي المتعب إلاّ أصداء تضربه بعنف لا يرحم :
عَلَمٌ ودستورٌ ومجلسُ أُمّةٍ …
وبعد أن أتعبني هذا الأمر، بل وأقعدني عليلاً، قلتُ فلأُرحّل متاعبي لسيدي وصديقي أبي الطيب المتنبي، فالرصافي مثله شاعر غدرت به صروف الزمان، وقد طالما تشكّى وعاتب بغداد عتاباً مرّاً فاضطُر يوماً على مغادرتها وقال قصيدته " بعد النزوح " في بيروت سنة 1922 (( وكان قد خرج من بغداد على أن لا يعودَ إلى العراق …/ ديوان معروف الرصافي / المجلد الثاني، ص. 320 )) التي جاراه فيها بعده محمد مهدي الجواهري في قصيدته " يا دجلة الخير يا أُمَّ البساتينِ ". قال معروف الرصافي :
هيَ المواطنُ أُدنيها وتُقصيني
مثلَ الحوادثِ أبلوها وتُبليني
أنا ابنُ دجلةَ معروفاً بها أدبي
وإنْ يكُ الماءُ منها ليس يُرويني
ويلٌ لبغدادَ مما سوف تذكرهُ
عني وعنها الليالي في الدواوينِ
ما كنتُ أحسبُ أني مُذْ بكيتُ بها
قومي بكيتُ على من سوف يبكيني
وأنْ يعيشَ بها الطرطورُ ذا شممٍ
وأن أُسامَ بعيشي جدعَ عِرنيني
عاهدتُ نفسيَ والأيامُ شاهدةٌ
ألاّ أُقرَّ على جورِ السلاطينِ
ما كنتُ أحسبُ بغداداً تُحلئني
عن ماءِ دجلتها يوماً وتُظميني
حتى تقلّدَ فيها الأمرَ زِعنِفةٌ
من الأُناسِ بأخلاقِ السراحينِ
… حتى آخر القصيدة.
قلتُ فلأُرحّل متاعبي وما يشغل بالي إلى الصديق أبي الطيب المتنبي الذي قال مرّةً
تمرّستُ بالآفاتِ حتى تركتها
تقولُ أماتَ الموتُ أم ذُعرَ الذُعرُ ؟
نعمُ، سأحيل الأمر حسب العائدية لأبي الطيب، عسى أن يطيّب الخواطر بنكتة ساخرة أو بتعليق يُجلي عني بعض الهموم.
نعم. المتنبي يتكلم. ما الخبر ؟
عزيزي أبا الطيب : هل سمعتَ ما حلَّ وما يحلُّ بوطنك العراق ؟ قال نعم. نسمع الأخبار أسرع وأفضل منكم وأفضل مما تسمعون. لدينا فضائياتنا الخاصة وهوائياتها فائقة الحساسية. قلت وهل أتاك حديث مأساة الفلوجة ؟ قال نعم. قلت ولِمَ لمْ تبادر إلى قول قصيدة تخلّدُ فيها صمودها وتضحياتها ؟ قال أخشى أن يغتالني الحاكم المدني المستر بريمر. ثم إنَّ صحف بغداد لا تنشر مثل هذا الشعر. قلت بل في الإمكان نشره على صفحات البريد الألكتروني في الكثير من بلدان العالم. قال كما يفعل الشاعر سعدي يوسف ؟ قلت نعم، وغيره من شعراء وكُتّاب ومعلقين. قال وهل كتب الجواهري عنها شيئاً ؟ لقد ذهب الجواهري إلى العالم الآخر منذ بضعة سنين. قال وهل كتب (( الشاعر المخصي )) عبد الرزاق عبد الواحد شيئاً عن الفلوجة ؟ قلت كان قد أخصاه عَديٌّ وصدام في بغداد، أما الآن وهو مقيم في باريس فلم يجد من يخصيه فعمد إلى إخصاء نفسه وترك قول الشعر وجنح للهو والدعة وإجترار ماضيه وذكرياته مع سيديه. وبالمناسبة… ظهرت على إحدى صفحات الإنترنت قصيدة تُمجّد صدام حسين، أظن أن قائلها هو عبد الرزاق عبد الواحد نفسه. ما زال ممتناً لما أسدى صدام وولده له من أفضال. إنه نوع من الوفاء، لكنه وفاء مقلوب… كما ينقلب الرجل بعملية جراحية بسيطة إلى أُنثى. همهم المتنبي بصوت جدَّ خفيض قائلاً: بل وإلى خنثى أو خنيث !!
بعد فترة إستراحة قصيرة سألت المتنبي هل رأى علم العراق الجديد ؟ قال نعم. حزنتُ حين رأيت صورته في بعض الصحف الصادرة في بغداد. حزنتُ كأنْ لا وجود لفنانين مرموقين في العراق أو عراقيين مشتتين تحت مختلف السماوات. المفروض أن يصمم علم العراق هؤلاء الرجال لا سواهم من المتبرعين أو المأجورين الذين فقدوا أو فارقوا نأمة نبض دجلة والفرات وروح بشر العراق وشميم عبق ترابه وطينه وتلاوين موسيقى تأريخه. أين جلجامش سومر وبابل حمورابي ونينوى آشور ؟ أين بغداد أبي جعفر المنصور والمأمون ؟ أين سامراء المعتصم وبركة المتوكل؟ أين 14 تموز وعبد الكريم قاسم ؟ لا شيء من ذلك.
خطّان أزرقان يتوسطهما خط مستقيم أصفر !!! خطوط مستقيمة لا تتلاقى. هل غاب عن مصممه أنَّ دجلة والفرات يلتقيان في مدينة القُرنة قريباً من بصرة المِربَد وعمر بن الخطاب والحسن البصري والخليل بن أحمد الفراهيدي والجاحظ ؟ لم يعبّر هذا العلم عن وحدة العرب والكرد وسائر الأقليات العرقية والدينية والقومية. كان المفروض أن يتم عرضه في الصحف وباقي وسائل الإعلام لكيما يطلع العراقيون وذو الشأن عليه ولا سيما الفنانون العراقيون التشكيليون. كان ينبغي أخذ رأي الشعب العراقي به. إنه رمزهم وتأريخهم وفيه روحهم وملامحهم القومية والدينية.
قلت لصاحبي قد أجهدك حديث العَلَم العراقي وإنه لا شك حديث ذو شجون. قد لا تعلم أبا الطيب أننا كنا نقرأ صبيحة كل يوم خميس في مدارسنا الإبتدائية في العراق نشيداً إسمه " تحية العلم " نقول فيه :
عِشْ هكذا في علوٍّ أيها العَلمُ
فإننا بك بعدَ اللهِ نعتصمُ
ضحك المتنبي ساخراً ليقول : لا والله، لن أعتصم بعلم إقترحه وربما صممه ففرضه علينا
محتلٌّ أجنبي أمريكي يمثله سفير إسمه باول بريمر. لا والله لا والله.
سألني هل معي سجائر ؟ إعتذرت أني لست من المدخنين. سألته هل يشرب شيئاً من البيرة ؟ قال كلا، مزاجي الآن لا يسمح لي أن أتعاطى هذا البطر. ثم لا تنسَ شعري حيث قلتُ :
أفيقا، خُمارُ الهمِّ علّمني السكرا
وسُكري من الأيام جنّبني الخمرا
قلت لا أنساه وكيف أنساه يا أيها العزيز، عزيز مصر والعواصم والعراق.
ولكي أخفف عن صاحبي الزائر من الأفلاك البعيدة إقترحت عليه أن يقول شعراً شبيهاً بشعر الرصافي في العلم والدستورومجلس الأمّة. تردد باديء الأمر. سرح بعيداً ثم شرع يدندن مع نفسه غير مبالٍ بوجودي معه. رفع رأسه بغتةً ليقول وبسمة ساخرة، جدَّ ساخرة، تغطي وتطفح على وجهه المتوتر المتعب :
عَلمٌ ودستورٌ ودستُ وزارةٍ
كلٌّ عن المعنى السليمِ مُشوّشُ
للإنجليزِ مطامعٌ ببلادكم
لا تنتهي إلاّ بأنْ ( تتبوّشوا )
أخفيتُ ضحكة بعرض الأرضين لكي لا أجرح شعور شاعري وقد تصرّف وحرّف شعر زميله المغضوب عليه الرصافي. تفرّس ملياً في وجهي كمن يحاول أنْ يقرأ في وجهي رد فعل ما قرأ من شعر. كان واضحاً أن الرجل يريد مني تعليقاً، أياً كان. أطلت سكوتي لكي أطيل في فضوله. لم يطق الرجل صبراً فبادر إلى سؤالي عن رأيي فيما قال. قلت له ومن أين أتيت بالفعل ( تتبوشوا ) ؟ قال وما وجه الغرابة ، أفلمْ يقلْ الرصافي ( تتبلشفوا ) وهو فعل ليس له أصلٌ في العربية. لقد صرّفتُ إسم الحاكم بأمر الله ( بوش ) فقلتُ
( تتبوشوا ). لم أتمالك نفسي من الضحك العالي فقد وجدت في الضحك متنفساً لما يعتلج في صدري من هموم ومتاعب، وشر البلية ما يُضحك. شكراً لأبي الطيب، ألف شكر. إنه وحده القادر على تبديد الهموم وعلى قلب ( الدرامي ) إلى ( كوميدي ) كما يقول رجال المسرح، أو قلب الكوميدي إلى درامي كما يفعل بعض ساسة العراق اليوم !!
حين تركني المتنبي وإرتقى إلى سماواته العُلى ألفيتُ نفسي أحاول أن أقرأ شعر معروف عبد الغني الرصافي إياه ولكن بصياغة أخرى لا علاقة لها بالأصل ولا بتحريف المتنبي. فكّرتُ طويلاً في كيف أفيدُ من إسم المستر بريمر في صياغتي الجديدة ( كما فعل قبلي الرصافي والمتنبي مع البلشفية ومع بوش ) فعالجتُ هذا الإسم عدة مرات حتى إستقر بي الحال على الشكل التالي الذي يستجيب لدواعي الوزن والقافية ( بَرْمَرُ ) :
علمٌ بزخُرُفةٍ وخطٌّ أصفرُ
كلٌّ عن المجرى الأصيل مُزَوّرُ
للإنتقالة مجلسٌ هو والعمى
سيّانِ، يحكمه وزيرٌ ( بَرْمَرُ ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق