الشيعيَّة السياسة وريثة مساوىء المارونية السياسية/ جورج الهاشم

منذ ما قبل استقلال لبنان وحتى الحرب الاهلية سنة 1975 كانت المارونيّة السياسية هي المسيطِرة على الساحة. الزعماء الموارنة هم الاقوى ولهم الكلمة الفصل وفي فلكهم تدور التكتلات. كثيراً ما كان رئيس الجمهوريّة الماروني يفصِّل على هواه وبقية قيادات المذاهب الاخرى تلبس. مع استثناءات هنا وهناك. القرارت الهامة تصدر دائماً عنهم. ورغم أن المارونية السياسية كانت مدعومة من قوى داخلية وخارجية ومن قوى عسكرية وميليشياوية فانها لم تتخذ القرار الذي كان من المفترض  أن تتخذه  ولم تفعل، وهو قرار بناء وطن للجميع. وهذا الفشل أوصل البلد الى حرب أهلية  مدمرة دفَّعت اللبنانيين جميعهم أثمانا باهظة ولا زالوا يدفعون.                                                                                  
الحرب التي رفعت يافطات كثيرة، الدخول السوري الى لبنان، وما تلاه من حروب جانبية وما أفرزته من قوى أمر واقع، المقاومة وتغيير بوصلتها من مقاومة وطنية لبنانية الى مقاومة اسلامية، الانسحاب الاسرائيلي من معظم الجنوب اللبناني، حرب تموز، الحرب السورية وتداعياتها، الدور الاقليمي لحزب الله والوجود الايراني على رمية حجر، وتدخلات وتصفية حسابات خارجية على الساحة اللبنانية، الأموال الهائلة،  أفرزت معادلات مختلفة وبدَّلت موازين القوى الداخلية وفرضت حزب الله القوة العسكرية الطاغية في لبنان.                        
الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، هو المسيطر اليوم على الساحة اللبنانية. الكثير من القوى الاخرى تدور في فلكه. يمارس السلطة بالاسلوب نفسه الذي كانت تمارسه المارونية السياسية. يبيح الدولة غنيمة حرب لأتباعه. يعطِّل الدولة ساعة يشاء. أو بالأحرى لا تهمّه الدولة لأن دولته البديلة، دولة الفقيه، هي الهدف. تدعمه قوة عسكرية داخلية، نظامية وميليشياوية، في هزِّ العصا لمن عصا. أخذ قرارات مهمة كثيرة، داخلية وخارجية. لكن القرار الأهم في بناء دولة المواطنة لم يأخذه بعد ولن يأخذه على الأرجح.                         
هذا لا يعني أن القوى الطائفية الاخرى، كلها، تريد أن تبني دولة ووطن. فالدولة مجموعة مزارع. وكل صاحب مزرعة فخور بما أنجز. وإذا انحشر أحدهم  تنادت بقية المزارع لنجدته. فهم يتقاتلون، بنا، على الغنانم.  ويتوحدون، ضدّنا، عند بناء الوطن.                  
قبل سنة 1975 تتحمل المارونية السياسية المسؤولية الاولى عن عدم بناء وطن يليق بكل أبنائه. والسبب لأنها كانت القوة الاولى وكان بامكانها فعل ذلك لو تمتَّعت ببعد النظر، والرؤية المستقبلية، والحس الوطني الشامل. وحده فؤاد شهاب حاول بناء دولة مدنية حديثة فوقف له أقطاب المارونية السياسية بالمرصاد، بمؤازرة أصحاب المزارع الاخرى يالطبع، وأفشلوا تجربته رغم عدم عمق تلك التجربة.                                                                     
بعد اتفاق الطائف، ابتدأ ميزان القوى يميل لصالح الثنائي الشيعي، بدعم من قوى الأمر الواقع، وبزحف القوى الأخرى لإرضاء القوى المسيطِرة ولتي تخلَّت منذ وقت طويل عن مشروع بناء الوطن. وبعد الهالة التي ارتسمت حول حزب الله، لتصديه للاحتلال الاسرائيلي، والمشروعية التي اكتسبها عن جدارة بدماء الشهداء، وبعد اجبار اسرائيل على الهرب من لبنان دون قيد او شرط، وبعد حرب تموز التي سطَّر فيها المقاومون ملاحم بطولة،  فرض نفسه رقماً صعباً في اية معادلة داخلية.                                                                  
رغم احتكار الحزب للمقاومة، ورغم نزع صفة الوطنية عنها، يبقى دوره في التصدي لاسرائيل مرحباً به من معظم اللبنانيين وحظي بشبه اجماع، داخلي وخارجي، خلال  حرب تموز 2006. ولكن الحزب لم يكتفِ بذلك بل استخدم فائض القوة في الداخل لفرض سياساته وفي الخارج لدعم من دعموه. ومن دعموه قوى قمعية استبدادية لا يمكن ان تكون هي صاحبة مشروع تغييري أو تحديثي في المنطقة.                                                                      
واليوم أصبح الحزب، وبالتالي الثنائي الشيعي، المسؤول الاول عما يجري، أو ما لا يجري في لبنان. من حقِّه أن يكون له دور وازن في السياسة الداخلية والخارجية. من حقِّه أن يتمثَّل في المجلس والحكومات بشكل وازن. من حقِّ مناصريه أن يجدوا العمل والسكن والمدرسة  والطبابة. لكن مثلهم مثل كل اللبنانيين. من حقِّهم كل الحقوق ولكن بالمقابل عليهم كل الواجبات. ودولة الحقوق والواجبات هي دولة المواطنة. هي الدولة المدنية العلمانية الحديثة، التي ترفضها الشيعية السياسية اليوم كما رفضتها المارونية السياسية من قبل.                  
الذي لم تتعلمه المارونية السياسية أنها لا تستطيع أن تكون بديلاً عن الكل. ولا تختذل الكل. ورفضت الاعتراف بالاخر، وحقوق الآخر مما قاد الى حرب أهلية مدمِّرة. طبعاً لم تكن وحدها المسؤولة عمّا جرى. ولكن مسؤوليتها أساسية. واليوم تتصرَّف الشيعية السياسية بالعقلية نفسها وأكثر. فهل نحن أمام احتمالات مماثلة؟                                               
دولة المواطنة الحقيقية. دولة الحقوق والواجبات. دولة المحاسبة والمسؤولية. الدولة المدنية الحديثة. هي وحدها صمّام الأمان. فهل من قوة، أو قوى فعلية في لبنان تعمل بهذا الاتجاه؟ الشيعية السياسية، بما ظهر من ممارساتها، وبما لم يظهر بعد، ليست، وحتى اشعار آخر، من بُناة هذه الدولة.                                                                                 
سدني في 08/01/2019  

هناك 4 تعليقات:

  1. أصدق ما قرأت في موضوع الحالة اللبنانية حتى الان
    مقالة تضع الاصبع على الجرح. كعادته استاذ جورج هاشم لا يجامل ولا يتحامل

    ردحذف
  2. الشكر لك د. نجمة ولقلمك الذي يدافع دائما عن قيم الحق والحرية والعدالة. ولنا على كل حال لقاء حول أعمالك الأدبية في السادس من شباط / فبراير القادم.

    ردحذف
  3. كم هو مؤسف أن لا نرى أي تفاعل على هذه المقالة المثيرة للجدل والتي وضعت النقاط على الحروف.

    ردحذف
  4. أشكرك د. نجمة على اهتمامك. هناك تعليقات عدة على الفايس بوك حول المقال. وعدم ظهور تعليقات عادة مرده اما ان القارىء موافق ويغتقد انه لا ضرورة لاظهار موافقته. او معارض ولا يجد حجة قوية لاظهارها للرد على ما ورد. او غير مبال.

    ردحذف