جمالُ صوت المرأة في السرديّة التعبيريّة: د. غادة علوه/ كريم عبدالله

أولاً : التوافق النثروشعري

1-   أصبحتَ إيقاعَ شغفٍ.. بقلم : د. غادة علوه - لبنان
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .

مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه ,  وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .

فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية ,  لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على  الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .

سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .

انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .

التوافق النثروشعري

مادام الشعر يعتبر مفهوما قابلا للتطور والتغيير , ظلّت القصيدة تتطور عبر مراحل تاريخية , وكان التجديد ضرورة اسياسية لجأ اليها الشاعر ليعبّر عن الهمّ الأنساني في هذا العصر , وظلّ يبحث عن حرّية تمنحها له القصيدة كي يتنفس هواء التغيير والتجديد , مناخا يلائم تطلّعاته ويشبع غروره اللامحدود , فبعد الأنفتاح الهائل على التجارب العالمية وعلى ثقافات الأمم الأخرى , ظهرت حركات التجديد والتمرّد في الشعر العربي . انّ مفهوم التجديد اليوم لم ينحصر داخل محاولات إيجاد أبحر جديدة ولا التلاعب بالتفعلية والأوزان , ولا ضد فلسفة الغنائية في القصيدة ولا حتى عن مفهوم الصورة الشعرية , انما كان التمرّد على كل التجارب الماضية وما وصلت اليه القصيدة . فظهرت لنا اليوم القصيدة السردية التعبيرية والتي نؤمن بأنّها ستكون قصيدة الستقبل , القصيدة السردية التعبيرية ليس القصد منها السرد الحكائي والوصف وبناء الحدث , وانما القصد الإيحاء ونقل الأحساس وتعمّد الأبهار , فتتجلّى عوالم الشعور والأحساس , فيكون السرد موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة التعبيرية , فكأنّ النصّ يريد الحكاية وسرد حادثة معينة , وتبرز لدينا الشخصيات والحدث النصّي , لكن في النهاية تتجه جميعها نحو بوح شعري , فلا نجد السرد الحكائي ( القصصي ) , وانما تعبير عميق وشاعرية هي غاية الكتابة برمزية وإيحاء وبوح شعري .

انّ ما نقصده من التوافق النثروشعري هي حالة التوافق ما بين الشعر والنثر , حيث يتحقق الشعر الكامل في النثر الكامل وهذا ما تمتاز به السردية التعبيرية عكس الشعر الصوري فكلما زادت الشعرية في النصّ قلّت وبشكل واضح النثرية , لذا نجد حالة التوافق واضحة ما بين الشعر والنثر ومتناسبة تناسبا طرديا وممكن تحقيقها وهذا ما نجده في النصّ , ومن أوضح الأساليب التي تحقق حالة التوافق النثروشعري هي اللغة التي تتموّج بين القرب والتوصيل وبين الرمز والايحاء وبين التجلّي والتعبير / وقعنة الخيال / أي إظهار الخيال بلباس واقعي , مما يعطي النصّ عذوبة وقربا وألفة , ويزيل عنه أي حالة جفاء أو جفاف أو إغتراب يطرأ عليه بفعل الرمزية والإيحائية . نجد في عنوان نصّ الشاعرة / د.غادة علوه / أصبحتَ إيقاعَ شغفٍ.. / هذه النثروشعرية حاضرة من خلال / اللغة – مابين القرب والتوصيل / والعذوبة المحببة بعدما صاغها خيال الشاعرة بهذه الرمزية الموغلة بالإيحاء وجمالية التعبير . انّ لغة النصّ لم تعد لغة جامدة وانما تجاوزت الأنماط والقوالب القديمة , وأصبحت لغة حرّة منفلتة متشظّية غامضة ساحرة لا تعترف بالقيود هاربة منها , لغة مراوغة كلّما تقترب من الواقع تعود ترتفع وتسمو وتحاول تهزّ وجدان المتلقي بغرابتها . نجد هنا الزخم الشعوري مترافقا مع اللغة الجديدة وامكانياتها المفتوحة على فضاءات شاسعة كما في هذا المقطع ../ تسكنني نظراتكَ الواعدة بانجلاء الليل ../ . ونجد ايضا مقدار كبير من الشعرية ينبعث من داخل هذا النسيج الشعري المتلاحم والمتراص بطريقة رائعة كما في هذا المقطع ../ يتدفق في داخلي كوثر لهفتها دافئاً ../ . يبدو بانّ لغة الشاعرة حالة انفلات لطاقات مختزنة في أعماق النفس استطاعت شحنها بطاقات اضافية فأخرجتها عن النمطية الركيكة في اللغة وادخلتها في سلسلة علاقات لغوية مثيرة ومستفزّة وغريبة لدى المتلقي كما في هذا العنقود اللغوي المثير ../ يئد شهقات الصمت، ينتبذ جذور جسدي، يستبيح نبضي، يعانق جنون الشوق إلى الفرح ../ . لنرى هنا كيف يتحقق الشعر الكامل في النثر الكامل من خلال هذا التجلّي والأبهار ../ أنتَ معشوقٌ، يوسّق عطر الروح، يقضم تنهدات وجعها العميق، يُطلق فصاحة عصافير حبّها من الأنامل، فتكتب معلقات الألم المشتعلة، وهي تتربّص جندول فرحك المشاغب .. / . ولنقرا هنا كيف منحت السردية التعبيرية – الكتابة الأفقية – الكتلة الواحدة – هذا الأبحار في عوالم الجمال والصعود والتحليق عاليا والنفوذ وصناعة الدهشة والصدمة عند المتلقي ../ من قال إنّكَ حزن عقيم؟ أصبحتَ إيقاع شغف، يلد في أعماقي ألحاناً من حبّ وفرح، يوصد أبواب زمن يذوي، وترقص على أوتاره سكينة تلوّن بدويّها السماوي بصمات أناملي../ . اننا فعلا نقف عند شعرية كثيرة إنبعثت من خلال هذا النثر الكثير والذي حافظ على متانتة وقوّته أمام هذه الشعرية , فكلما زادت الشعرية داخل النصّ زاد النثر . استطاعت الشاعرة من خلال خزينها المعرفي والثقافي ان توظف كل امكانيات السرد التعبيري في هذا النصّ فكان قطعة تتوهّج كلما اقتربنا من عوالمها الشاسعة . بالتاكيد انّ جمالية الصوت ها هنا نتلمسها من خلال هذا الزخم الشعوري المنبعث من داخل النصّ , فكان صوتا حرّا يبعث الهدوء والسكينة في النفس ويتغلغل فيها وهذا ما تسعة اليه السردية التعبيرية .

أصبحتَ إيقاعَ شغفٍ.. بقلم : د. غادة علوه/لبنان

تسكنني نظراتكَ الواعدة بانجلاء الليل، يتدفق في داخلي كوثر لهفتها دافئاً، يئد شهقات الصمت، ينتبذ جذور جسدي، يستبيح نبضي، يعانق جنون الشوق إلى الفرح. أنتَ معشوقٌ، يوسّق عطر الروح، يقضم تنهدات وجعها العميق، يُطلق فصاحة عصافير حبّها من الأنامل، فتكتب معلقات الألم المشتعلة، وهي تتربّص جندول فرحك المشاغب.من قال إنّكَ حزن عقيم؟ أصبحتَ إيقاع شغف، يلد في أعماقي ألحاناً من حبّ وفرح، يوصد أبواب زمن يذوي، وترقص على أوتاره سكينة تلوّن بدويّها السماوي بصمات أناملي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق