إن تحرير فلسطين، هذا الشعار اللغوي الفخم، لم يكن في الحقيقة يوماً على جدول أعمال القادة العرب -باستثناءات قليلة-. ولم تكن يوماً فلسطين قضية العرب الأولى، إلا على الورق، في اجتماعات الغرف المغلقة، وفي الخطب النارية فقط. فلسطين التي تستغيث فلا تُغاث، والأقصى الذي يصرخ العون فما من سامع، والقدس التي تتوق للنجدة فلا مُلبي، والفلسطيني الصامد الصابر المعاند الثابت يترك اليوم وحيداً بلا عون ولا مدد من الأشقاء العرب. الاخوة الذين بات بعضهم يتبنى الرواية الصهيونية على حساب المصالح والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبعضهم أصبح يعتبر فلسطين وشعبها وقضيتها عبئاً يجب التخلص منه.
تتعمد معظم الدول العربية تهميش القضية الفلسطينية، وتتجاهل حقيقة أن حالة الصراع الفلسطيني الصهيوني لا يمكن بترها وعزلها عن المحيط العربي والعمق الإقليمي، فكل العواصم العربية هي في قائمة المصالح والاستهداف الصهيوني.
يخرج علينا بعض العرب كخروج جهينة في ترتيب أولوياتهم، يقول لك هذا النظام أو ذاك "نحن أولاً" لتبرير عجزهم عن نصرة فلسطين. ثم اهتدوا إلى طريق الخلاص الذي يبعد فلسطين عنهم تماماً، فزجوا بشعوبهم في صراعات داخلية ومعارك جانبية فيما بينهم، أحدثت الفوضى وقسمت المقسوم وعمقت الحالة القطرية.
وفلسطين المحتلة على مرمى حجر من الجيوش والميلشيات العربية التي تتقاتل فيما بينها باسم فلسطين، وتقتل أبناءها وهي تهتف لفلسطين، تثير الصراعات الطائفية والعرقية والإثنية باسم فلسطين، يقتلون الفلسطيني ويعتقلونه، ويريدون رصف الدرب نحو القدس بجماجم الفلسطينيين، ويزاودون عليه أيضاً باسم فلسطين.
سعيد لم يهلك
في زمن الجاهلية عاش شقيقان أحدهما يدعى سعد والأخر سعيد، خرجا ذات يوم لقتال الأعداء، غلبت الحماسة على سعيد ومن معه فسبقوا سعد إلى القتال، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين بفخ نصبه لهم الأعداء وأوقعوا بهم، مات سعيد ومن معه إلا واحداً فقط استطاع الفرار، وبينما هو يجري قابل سعد في الطريق، فقال له تلك الجملة الشهيرة التي صارت مثلًاً " انج سعد فقد هلك سعيد"، وبالفعل هرب سعد ونجا من الموت.
قيل إن أباهما خرج للبحث عنهما، فكان كلما مر به أحد لم يتبينه قال أسعدٌ أم سعيد، فمضى مثلاً للشيء غير الواضح. فلما بلغ أبوهما الحرم وجد معتمرا يطوف بالبيت وعليه ثياب ابنه سعيد فسأله فقص عليه قصته وهو يجهل أنه والد سعيد، فما كان من هذا الأخير إلا أن استل سيفه وقتله، فلما سئل أقتل في البيت الحرام؟! قال: سبق السيف العذل.
حال بعض العرب مع فلسطين وشعبها وقضيتها كحال سعد الهارب. ونحن نتابع تسابق بعض الأنظمة العربية على نقل علاقاتهم مع إسرائيل من مرحلة الزيارات السريّة والتطبيع المستتر إلى العلانية، والمشاركة في المحافل الدولية على الصعيد السياسي والاقتصادي والرياضي. ونرقب الزيارات التي قام بها مسؤولين حكوميين إسرائيليين إلى بعض العواصم العربية، تحضرنا قصة المثل العربي وتجعلنا نتساءل أسعدٌ أم سعيد، ذلك الذي استقبل في قصره "بنيامين نتنياهو" قاتل الأطفال الفلسطينيين، وذاك الذي يقف بخشوع بحضرة النشيد الوطني لمن يفترض أنهم أعداء الأمة، لذلك لم يشبّه لنا ويحق لنا وللشعوب العربية أن تسأل أسعدٌ هو أم سعيد!
الضلع الثاني من المثل العربي قولهم انج سعدٌ فقد هلك سعيد، يبدو أن معظم العرب مقتنعين كل الاقتناع أنهم "سعد" المعني بالمثل، وقد أدركوا أنهم هالكين لا محالة إن لم ينجوا بأنفسهم، فسارعوا إلى التوبة والتكفير عن ذنوب ارتكبوها خلال سبعين عاماً، بعد أن اكتشفوا أنهم قوماً ظالمون، وأن إسرائيل ضحية الفلسطينيين. وفات العرب أن سعيد الفلسطيني لم يهلك بعد، وأن سعدٌ العربي إن أراد النجاة عليه تدعيم وتقوية وإسناد شقيقه سعيد "الفلسطيني" للانتصار في معركة يخوضها نيابة عن سعدٌ ومسعودٌ وسعاد.
لكن يبدو أن سعداً لم يقرأ صفحات التاريخ، ولا يعلم شيئاً عن صلابة وبأس وثبات وصبر وجبروت الشعب الفلسطيني، وإن أراد سعداً أن يكون سعيداً وألا يكون شقياً فعليه قراءة الواقع جيداً ومنح نفسه فرصة مراجعة من تعجل التطبيع، وقديماً قالت العرب: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
سواء نجا سعدٌ أم لم ينج، فقد سبق السيف العذل، وفعل أهل "حارديم" ما فعلوا، وانتهكوا حرمة الأقصى مثلما انتهكوا حرمة كل شيء فوق البلاد المسماة فلسطين، واعتقلوا شعبها وشجرها، والعرب لم يحركوا ساكناً ولا أثاروا ضجيجاً.
سبق السيف العذل، ضلع المثلث الثالث يعبّر عنه سعدٌ المناصر المؤازر ويخبر سعدٌ المطبع المتصالح المتساوق، إني أخشى عليكم غضب ابن أبيه، ولا فكاك لكم من مصير كالحمم، لا تملكون من أمره وأمركم شيئاً ولا عذراً، حينها يصح السيف الذي سبق العذل، إلا إن عدتم. حينها لا تلوموا أحداً، فاللوم بعد التحذير بدعة.
ضربت العرب قبل سعدٌ وبعده أمثالاً كثيرة للأخرق والأرعن، وقالت في أخبار المغفلين والحمقى أن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه. واستدرك العقلاء من العرب أن لحكاية سعد الذي ظن أنه نجا تتمة، إذ قالوا أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض.
قالت العرب قديماً أن الخائف لا يحمل معه عقله. وللأشقاء العرب الخائفين نقول: لم ولن يكون الفلسطينيون الثور الأبيض، ولن يموت هذا الشعب الذي اختار طواعية أن يقاتل ويناضل نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، وأن يحافظ على مقدساتها، ويعتبر أن هذا مكرمة له وشرفاً ينفرد به دون الآخرين، الذين يتربص بهم العدو كما يتربص بالفلسطينيين، لعل العرب يستيقظون من غفلتهم ذات حين ويعلمون أن المرء بأخيه كما قال الأجداد.
كانت وستبقى
فلسطين كانت قبل 7500 عام قبل الميلاد في جبل القفرة جنوبي الناصرة وسفح الرمل قرب طبريا. فلسطين الكنعانية كانت في العام 3000 قبل الميلاد. وكانت تحت الاحتلال اليوناني عام 332 قبل الميلاد. فلسطين كانت تحت الاحتلال الروماني في منتصف القرن السابع الميلادي. فلسطين وصل إليها عمر بن العاص حاملاً معه رسالة الإسلام العام 643 ميلادي، وتحررت فلسطين من الروم على يد خالد بن الوليد في معركة اليرموك الشهيرة. كانت فلسطين أموية في العام 661. وعباسية في العام 750. ثم دخلها الطولونيون والقرامطة. ثم احتلها الصليبيون العام 1095. وخاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين الشهيرة، واسترد بيت المقدس العام 1187ميلادي. وصدّ سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الغزو المغولي على فلسطين العام 1259 ميلادي في معركة عين جالوت بعهد الدولة المملوكية. فلسطين دخلها العثمانيون العام 1516 ميلادي، مكثوا فيها أربعة قرون وخرجوا وظلت فلسطين. وهزمت مدينة عكا الفلسطينية بأسوارها حملة نابليون بونابرت العام 1799 ميلادي. فلسطين دخلها الجيش البريطاني العام 1917 ميلادي وخرج منها العام 1948، حين احتلها الصهاينة وأعلنوا فوق أراضيها دولة لهم. كان قد سبق هذا الإعلان حوالي نصف قرن من التخطيط والتنظيم والتدبير، وسوف يخرجون كما خرج غيرهم.
فلسطين التي كانت محور التقاطعات والتجاذبات والصراعات تاريخيا، سوف تظل في قلب الأحداث التي تجري مستقبلاً. فلسطين كان اسمها وسوف يظل، ولا يمكن للمنطقة أن تستقر دون حل عادل وشامل وكامل للقضية الفلسطينية، يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المسروقة، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة فوق أرضه وعاصمتها القدس الشريف.
راهن عربي غير مؤهل للدعم
تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني أثبت أنه لا يمكن لنا مواجهة القوة الإسرائيلية بأسلوب ناعم يعتمد على قوة الحق وفضيلة الأخلاق، فالتاريخ يظهر بوضوح أن لا حقوق دون قوة تساندها. لقد وصل عجز السياسات الرسمية لمعظم الأنظمة العربية إلى مرحلة تتسابق فيها الدول العربية على الاعتراف بإسرائيل وتبادل الزيارات والوفود، وفتح قنصليات ومكاتب تجارية إسرائيلية في بعض العواصم العربية، واستقبال وفود رياضية وتجارية وثقافية إسرائيلية، وسواها من العلاقات التي كانت محرمة فيما مضى حين أعلن العرب لاءاتهم الثلاثة، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف. ووصل إخفاق وانكسار العرب أقصاه في هذه المرحلة حيث لا وجود لأي استراتيجية عربية حول إسرائيل، لا استراتيجية مواجهة ولا استراتيجية سلام. والمرعب أن يشهد الوضع العربي انحداراً وسقوطاً وتراجعاً في الدعم لفلسطين. والذل أن يتآمر بعض الاشقاء العرب على فلسطين وقضيتها وشعبها. لقد جرى تقزيم المسألة الوطنية الفلسطينية على أنها قضية الفلسطينيين فقط، في وقت تواصل فيه إسرائيل إصدار القوانين العنصرية، ويستمر تهويد الأرض وطمس هويتها العربية، وما نخشاه هو أن تتحول فلسطين إلى أندلس جديدة فيما العرب يتفرجون، ونفقدها للأبد.
ندرك كفلسطينيين أن الواقع العربي مثقل بالأعباء والأمراض والإشكاليات والتعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويواجه الصراعات الداخلية والتحديات الاستثنائية بفعل سياسات الاستبداد لمعظم هذه الأنظمة التي جعلت الشعوب العربية تلهث خلف لقمة العيش. هذه الأمة غير قادرة على اختيار حاضرها ومستقبلها، وهي عاجزة عن دعم القضية الفلسطينية، التي طالما جعلت منها معظم الأنظمة مطية لتحقيق المآرب على حساب مصالح الشعب الفلسطيني، وطالما رفعت هذه الأنظمة الشعارات المزيفة لتستميل شعوبها وتتاجر بالقضية الفلسطينية. لكن الأحداث تُظهر أن الشعب الفلسطيني هو من سيقوم بتخليص وتحرير الشعوب العربية من أنظمة القمع والبطش، ويُطلقها من معتقلاتها التي تسمى أوطاناً، بعد أن ينال حريته ويقيم دولته فوق أرضه.
العرب وفلسطين
يواجه الفلسطينيون الآن مرحلة شديدة الخطورة، حيث يتعرضون لأقذر المؤامرات وأفتكها وأكثرها سمية منذ قرن من الزمن، بهدف اغتيال القضية الوطنية الفلسطينية، وإماتة الحقوق الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، ووأد حلمه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. بالرغم من أن معظم الأنظمة العربية قد وظّفت القضية الفلسطينية لغايات لا ترتبط بفلسطين لكن معظمهم تخلى عنها الآن. وفي الوقت التي اكتشفت فيه معظم الشعوب العربية بعد أكثر من سبعين عاماً على ضياع فلسطين، أن لديها هموماً تشغلها عن نصرة فلسطين وأهلها، اكتشف الشعب الفلسطيني من حُسن قدره، أن مقدرات وقوة معظم العرب على دعم وعون قضيتهم ليست أكبر من قدرتهم ومن قوة الفلسطينيين على إسناد وغوث أنفسهم. كما اكتشفوا حجم كذب ورياء معظم الأنظمة العربية الذي تسبب في إزهاق أرواح آلاف الشهداء الفلسطينيين، وأن تدخّل العرب سابقاً لم يكن تأييداً للقضية بقدر ما كان بسبب دوافع ترتبط بالعرب أنفسهم، الذي لم يخجل معظمهم من إسقاط جدار العداء لإسرائيل علناً. لذلك فقد حان وقت توقف هذا النفاق، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية. وهنا من المهم التأكيد على أن فلسطين التي سدّدت أثماناً باهظة للحفاظ على قضيتها، لن تتراجع ولن تنكسر ولن تتخلى ولن تفرط بالحقوق وبالوحدة، ولن ترهن قرارها لأية جهة مهما بلغت قيمة الفواتير.
انحدار مرعب
أخفقت معظم الأنظمة العربية الاستبدادية في تحقيق شعاراتها المرتبطة بالوحدة والاشتراكية والاستقلال الوطني والحريات، وعجزت عن إحداث أية تنمية وتطوير في البنى الرئيسية، ولم تتمكن من إحراز مهام التقدم الاجتماعي. لكن هذه الأنظمة حققت نجاحاً لافتاً في بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تخصصت وأبدعت في قمع وقهر المواطنين وسحقهم، وحلت كافة مؤسسات المجتمع المدني، وأغلقت أي إمكانية لتطور الوعي السياسي للناس، وقوّضت مفهوم المواطنة، وقضت على الحوار المجتمعي، وشجعت الولاءات العرقية والإثنية والعشائرية والمناطقية، ونشرت الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع، وسمحت للمفسدين أن يسمنوا ويتغولوا، وقامت بإعلاء المصلحة الخاصة على حساب قيم المنفعة العامة.
أقدمت هذه الأنظمة وبطانتها على تسخير مؤسسات الدولة وخيرات الوطن لخدمة مصالحهم الخاصة ومصالح الاقرباء والموالين، وفككت الروابط الوطنية والاجتماعية والأخلاقية بين مكونات المجتمع، مما أدى إلى ظهور النزعات العرقية والطائفية والقبلية والمذهبية والعشائرية البغيضة، التي فتتت الأوطان وحولتها إلى إمارات وقبائل وطوائف.
الأخطر قيام هذه الأنظمة بتليين وتطويع معظم المثقفين والمفكرين وتدجينهم، ومن لم تتمكن منهم إما زجت بهم في السجون لسنوات طويلة، وإما أنهم تمكنوا من الهرب خارج أوطانهم إلى بلدان غربية حيث حريتهم، وإما أنهم تركوا الشأن الثقافي وانعزلوا عن الحياة العامة. لم تستثني هذه الأنظمة حتى رجال الدين والمشايخ الذين قام بعضهم بإجراء تعديلات على معتقداته لتتوافق مع خطاب المرحلة.
لقد تحولت الأوطان العربية بكل ما تحتويه من بشر وحجر وثروات إلى ملكية خاصة لبعض الحكام العرب، الذين طوعوا كل شيء وحولوه إلى أداة منفعية تخدم مصلحتهم التي أصبحت فوق الوطن والمجتمع والدولة. لذلك فإن مهام التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي التي رفعتها معظم الأنظمة العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين لم يتحقق منها شيء، وأن كل الأحلام التي بنتها الشعوب العربية بعد الاستقلال الشكلي، في حياة تضمن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، قد جرى إجهاضها ووأدها مرتين في الحقيقة، مرة عن طريق الأنظمة العربية الاستبدادية التي قتلت واعتقلت كل شيء، ومرة أخرى تم هزيمة هذه الأحلام والتطلعات بواسطة الشعوب العربية نفسها التي رضيت أن تُصادر الأنظمة العربية حقها في أن تكون شعوباً حرة، وقبلت أن تكون مجرد قطيع خانع.
حضور إسرائيلي طبيعي
من أبرز سمات المرحلة الراهنة عربياً، غياب معظم الشعوب والأحزاب والقوى العربية غياباً فعلياً كاملاً عن المشهد السياسي والفعل المرتبط بفلسطين والقضية الفلسطينية، وحضور الأنظمة العربية الاستبدادية المنهزمة أمام إسرائيل، والمنتصرة على شعوبها. حضور الحكام العرب الذين يبدون ممانعة للاستجابة لأية مطالب من شعوبهم في تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمساواة، وإحداث بعض التحولات التي تخترق جدار التسلط والقمع والتحكم وتفضي إلى مناخات ديمقراطية، لكنهم يُظهرون الليونة والقابلية والتأييد لإقامة علاقات طبيعية "للغاية" مع الكيان الصهيوني، وعلى حساب المصالح والحقوق الفلسطينية.
غاب الجميع وحضرت إسرائيل في أكثر من عاصمة عربية، وحضر النشيد الوطني الإسرائيلي المعروف باسم "هاتكفاه" ويعني الأمل، في داخل القصور الرئاسية والمدرجات الرياضية العربية.
تواصل إسرائيل نجاحها في اختراق العواصم العربية، في وقت تمعن فيه بقتل الفلسطينيين وتهويد القدس، وتعربد في سماء العواصم العربية، وتهدد وتتوعد هذا وذاك من دول المنطقة، ومعظم العرب لا قدرة لهم ولا بأس، لا يكترثون إلى ما يجري في فلسطين، وصناع السياسة العرب وأصحاب المعالي لا يعنيهم الأمر، كأن الاعتداءات الإسرائيلية تقع في جزيرة غرينلاند وليس في الأرض العربية وأجواءها.
وإسرائيل أصبحت تتأقلم سعيدة مع وضعها الجديد كعضو مقبول ومرحب به من معظم الدول العربية، لذلك هي تعمل على تجاهل القيادة الفلسطينية، وشطب العمل الفلسطيني من حساباتها، وتتغافل عن أي حلول لصراعها مع الفلسطينيين، طالما أن علاقاتها مع معظم الأنظمة العربية والإسلامية في أحسن حال.
تماماً كما أسقط معظم العرب من حساباتهم شرط إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، والتوصل إلى حل عادل وشامل يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، كشرط مسبق لقيام تطبيع عربي وعلاقات مع الكيان الصهيوني.
تثبيت الثابت
أي مثقف أو مواطن أو مسؤول عربي أو إسلامي يرضى بتهويد القدس، ويوافق على التسليم بالأمر الواقع بوجود إسرائيل فوق كافة الأراضي الفلسطينية، دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.
وأي زعيم عربي أو إسلامي يتساوق مع الأفكار والتبريرات الإسرائيلية التي تتجاهل الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير مصيره، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين والتعويض عن ممتلكاتهم التي فقدوها. ويقبل التطبيع مع إسرائيل.
كل مفكر عربي أو إسلامي كان يدعو إلى الأفكار الليبرالية التحررية، وإلى الحداثة وقيم العدالة والاشتراكية، ولا يبدي اليوم تضامناً واضحاً معلناً مع الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الثابتة.
كل مثقف وكاتب وإعلامي وأديب يتصالح مع الإرهاب الإسرائيلي، ويداهن الاحتلال، ويتردد في الثوابت الوطنية، ويتقلّب في مواقفه من القضية الفلسطينية.
كل من يفرط بالحقوق الفلسطينية والعربية، ويبدد تضحيات من سبقونا من الشهداء والجرحى والمعتقلين، ويحاول مقايضة الحق بالباطل. وكل من يحرف معركة الأمة المركزية عن مسارها، وكل من يشتت جهد الأمة في صراعات جانبية ومعارك ثانوية.
كل زعيم أو مسؤول عربي أو إسلامي يتعامل مع فلسطين في العلن بالخطب الحماسية والتظاهرات الحاشدة والاعتصامات وحرق الأعلام والصور والإطارات، ويتعامل في السر بمزيج من المؤامرات والصفقات والتسويات والاتفاقيات والزيارات الودية والشراكات والعقود والمساعدات.
من تاجر بالقضية الفلسطينية من الأنظمة العربية ومن المعارضات، ومن اعتبر يوماً أن فلسطين أم القضايا ثم خذلها لحسابات ومصالح ترتبط به وحده، من الأحزاب والقوى العربية التي كثرت أقوالهم وانعدمت أفعالهم. من يحاول تبخيس وتجاهل نضالات شعب عظيم عرف كيف يحافظ على هويته، بالرغم من أن العالم كله وقف ضده وسعى إلى إلغائه.
من يتآمر على الشعب الفلسطيني وقضيته وقيادته من العرب والمسلمين. من يحاول تمرير صفقات مشبوهة لتصفية القضية الفلسطينية.
جميع هؤلاء معادون للشعب الفلسطيني، ويقفون ضد تطلعاته وحقوقه المشروعة، متآمرون مع العدو الوطني والقومي لفلسطين والعرب. خائنون للعهود والمواثيق مع فلسطين وأهلها ومع شعوبهم وأنفسهم، نكثوا شعاراتهم ونقضوا التزاماتهم، هم دون ضمير عربي أو إسلامي أو إنساني، لا مبادئ لهم ولا قيم، أصحاب شعارات زائفة، لا بصر لديهم ولا بصيرة، ويل لهم من شرب قد اقتراب.
نقول فهل نتعظ؟
من المعيب الفاضح أن يحتاج الشعب الفلسطيني وقيادته إلى كثير الجهد من أجل لفت أنظار الأشقاء العرب أنظمة وشعوباً إلى قضيتهم العظيمة بعد مرور حوالي سبعين عاماً على النكبة البغيضة، التي أسهمت بعض الخيانات العربية في إخراج مشاهدها بالكيفية المؤلمة التي تمت. الكارثة المبكية أنه أصبح لدينا عدداً غير قليل من العرب لا يعرفون شيئاً عن فلسطين وشعبها وقضيتها.
في ظل الظروف الراهنة عربياً والاستثنائية في الانحدار والتشرذم والسقوط الأخلاقي، والوداعة مع الاحتلال الإسرائيلي، والإذعان المهين للضغوط الأمريكية، هل نحتاج اليوم لرجل يشبه زياد بن أبيه "زياد بن عبيد الثقفي" الذي صاح في خطبة البتراء الشهيرة، حين ولاه معاوية بن أبي سفيان على البصرة التي كانت معقلاً للخارجين عن طاعة الخلافة الأموية، فصعد زياد على منبر المسجد وخطب في الناس قائلاً "إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم"، أم أن العرب اعتادت كثير القول دون أن يتعظ أحد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق