سادساً : النصّ التجريدي والجمالية التجريدية:
سرية العثمان أحلام مبتورة ..
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
النصّ التجريدي والجمالية التجريدية :
انّ حضور الصورة التجريدية في نصّ الشاعرة : سرية العثمان يشي بجمال آخر يتجلّى في الكتابة السريدة التعبيرية وهي صفة جمالية جديدة غير معهودة نتنفّسها في هكذا كتابات متطورة وفذّة . هنا نجد المتخيل الأنثوي نهج طريقا غير معهود في الكتابة , حيث نجد الكتل الشعورية طاغية على حساب الكتل المعنوية , فلا موضوع محدد ولا قصدية ولا زمان ومكان فقط مكونات شعورية مرتبة في نظام إحساسي , فالنصّ قد تحوّل من نظام لغوي متكوم من وحدات دلالية الى وحدات شعورية مرتبة في نسق إحساسي . كما نعلم بانّ الكتابة الشعرية المتعارف عليها هو ان نسعى الى التعبير عن مشهد معين بوحدات لغوية بيانية الغاية منها ايصال فكرة معينة , لكن في الكتابة التجريدية الامر مختلف , فتصور الفكرة لدى الشاعر لايكون هناط شيئية معينة يراد التعبير عنها انما يتحول هذا المشهد الشيئي الى مشهد شعوري يعبّر عنه الشاعر . فمثلا وبالعودة الى نصّ الشاعرة : سرية العثمان نجد اختفاء التصور الشيئي للشمهد ../ حينَ غفا البُرتقال في تجاعيد بيارات الروح .. / هنا الشاعرة تتعمّق في عالمها الشعوري والأحساسي الذي تحاول تصويره لنا الى درجة انها تنسى او تتناسى المشهد واشياءه , فنحن لانجد الا الانفعال الشعوري الاحساسي .. / شاهدتُ الدروب في أزِقة اللهفة ../ فلا شيئية مشهدية نتصورها فالمعاني تتخلّى عن وظيفتها التوصيلية التي اصبحت شبه معدومة ../ .. كانت الأحلام مبتورة تَقضِمُ سرابَ خيبتها في نعاس الليل ../ .. اننا ندرك بوضوح عدم وجود مشهد معين فقط ندرك ادراك لنظام شعوري يتحقق في داخل انفسنا ونحن نقرأ النصّ ../ .. في الشعرية العادية يحصل طغيان التركيز على شيئية الشمهد وتضاؤل التركيز والاهتمام على الاحساس المصاحب , اما في الشعرية السردية التعبيرية يكون التركيز على الاثنين متساوي / المشهد والاحساس / , لكن في الكتابة التجريدية نجد طغيان الاحساس على حساب المشهد والذي يبدأ بالتضاؤل والتلاشي كما في هذا الجزء من النصّ ../ لمْ أعبأ بتفاصيل النهارات ولا بانحسار الضوء حينَ أسدلَ سوادهُ في وجه النور..ولمْ يعُد الحُلم يستوطن أغصانَ قلبي حينَ رافقته اللامبالاة وعَكرت مزاجه أجنحة الفراشات المُتكسرة على ألوانها والمشدودة إلى جاذبية الحُزن.. / . ان التعبير الشعري الدلالي هو ان نعبّر عن الفكرة بالايجاز والمجاز والخيال والرمزية معتمدين على الكائية المعنوية , فالالفاظ تشير بطريقة واخرى الى اشياء خارجية مقصودة , بينما في الشعرية التجريدية يحصل تحرر من من التوصيل ومن منطقية توصيل الفكرة والرسالة بالحكائية المعنوية , فيصار الى توصيل هذه الرسالة عن طريق ثقل إحساسي شعوري ينبعث من أعماق النفس عن طريق اللغة وكما في هذا المقطع ../ كم كانت بالأمسِ القريب مبتهجة في حقوليَ الخضراء وهي ترسمُ الألوان في ريشةٍ من نور فوقَ ضفائر الماء ../ . لم يعد لدينا حدث ولا فاعل ولا شيئية مركزية في النصّ , انما لدينا كيانات شعورية واحساسية , فالنصّ لا يتكون من معاني مرتبة بمنطقية لغوية كما في النصّ العادي , انما يتكون من مكونات شعورية مرتبة في نظام إحساسي وهذا سرّ اللغة التجريدية كما في هذا المقطع ../ لا تُبالي بالدوامات ولا تَهابُ الريح.. مَنْ يُعيد تحليق تلك الأجنحة في ريشة الأيام ليَكونَ للطيران والتحليق خَفقاً يفتتنُ به قلبي ../ . ان الادراك التجريدي هو ان يتمّ ادراك الاحساس من دون مثيره وادراك الجمال بذاته من دون ادراك الجميل , فلا نلتفت في النصّ التجريدي الى الجميل بل نلتفت الى الجمال فقط . اننا حينما نقول لا يدرك الجميل لا نعني به فقدانه وعدم وجوده , فهو موجود لكننا لا نلتفت اليه ونما يعرف ويثبت وجوده بالمادية اللفظية بان هناك لفظ يدلّ عليه .
النصّ :
سرية العثمان أحلام مبتورة .. بقلم :
حينَ غفا البُرتقال في تجاعيد بيارات الروح، شاهدتُ الدروب في أزِقة اللهفة، كانت الأحلام مبتورة تَقضِمُ سرابَ خيبتها في نعاس الليل، لمْ أعبأ بتفاصيل النهارات ولا بانحسار الضوء حينَ أسدلَ سوادهُ في وجه النور..ولمْ يعُد الحُلم يستوطن أغصانَ قلبي حينَ رافقته اللامبالاة وعَكرت مزاجه أجنحة الفراشات المُتكسرة على ألوانها والمشدودة إلى جاذبية الحُزن.. كم كانت بالأمسِ القريب مبتهجة في حقوليَ الخضراء وهي ترسمُ الألوان في ريشةٍ من نور فوقَ ضفائر الماء، لا تُبالي بالدوامات ولا تَهابُ الريح.. مَنْ يُعيد تحليق تلك الأجنحة في ريشة الأيام ليَكونَ للطيران والتحليق خَفقاً يفتتنُ به قلبي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق