صداقة على المِحكّّ/ ترجمة بروفيسور حسيب شحادة

Friendship is in Test

جامعة هلسنكي


في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها عبد اللطيف بن إبراهيم السراوي الدنفي (عبد حنونه بن أبراهام هستري هدنفي، ١٩٠٣-١٩٩٥، حولون) بالعبرية على بِنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي أعدّها، نقّحها، ونشرها في  الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، في العددين ١٢٤٠-١٢٤١، ٥ حزيران ٢٠١٧، ص. ٩٥-٩٨.

هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني. 

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستّين بيتًا تقريبًا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى أقطار العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين)  ويِفِت (حُسني)،  نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتصون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

”الكاهن الأكبر توفيق (متسليح)

ماذا يعرِف أصلًا جيل الشباب عن الكاهن الأكبر، توفيق بن خضر بن إسحاق (متسليح بن فنحاس بن يتسحاك) المعروف بكنيته ”أبو واصف“؟ لم يعرفوه؛ ولكن من عاش في فترته ورآه يستطيع، في نظرة إلى الوراء، أن يعي مدى عظمة شخصيته. لا نظيرَ له في أيّامنا هذه. كان عملاق العمالقة، فذًّا من الأفذاذ، أكبر من كلّ من تسنّى لي معرفتُه في خلال الأربع وثمانين سنة من حياتي.

أُنظر، إلى أيّ مدىً الأمر مُدهش حتّى في أيّامنا. في كلّ مرّة تجتمع فيها مجموعة من الناس ويُذكر اسم أبي واصف في مجرى الحديث، تسمَع على الفور كلَّ الحضور يقولون بصوت جهوري واحد وبلهفة لتلك الأيّام الجميلة في كهنوته السامي: رحمةُ الله عليه. كما ويشكرون الخالق الذي منحهم فرصة التعرّف عليه. كان إنسانًا استثنائيًا من حيث الصورةُ، المهابة والخشوع الذي كان يملأ كلّ فؤاد، هالة من الوقار، إلا أنّ أبا واصف مع هذا عُرف بتواضعه أكثر من أيّة ميزة أخرى. لم يترفّع قطّ، ولم يبحث عن الترفّع والتفاخر. كان بمقدوره الحصول على أيّ شيء لو رغِب فيه، إلّا أنّه حرَص على التحلّي بالتواضع والبساطة والبراءة.

أكرم زعيتر - رئيس بلدية نابلس

دعني أقُصّ عليك قصّة تعكِس كلّ هذه الخصائص المغروسة في شخصية أبي واصف، رحمه الله. نعود إلى ثلاثينات القرن الفائت، كلّ أهالي نابلس، الكبير والصغير وحتّى رئيس البلدية السيّد أكرم زعيتر (١٩٠٩-١٩٩٦، أديب وسياسي، من مؤلفاته: القضية الفلسطينية، ١٩٥٥؛ وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية، ١٩١٨-١٩٣٩، عام ١٩٨٠؛ بواكير النضال، من مذكرات أكرم زعيتر، ١٩٠٩-١٠٣٩، عام ١٩٩٣؛ من أجل أمّتي، من مذكرات أكرم زعيتر، ١٩٣٩-١٩٤٦، عام ١٩٩٣.) احترموا وقدّروا الكاهن الأكبر توفيق. دأب رئيس البلدية على قضاء وقت طويل مع صديقه الكاهن الأكبر السامري، وعلى دعوته  لمرافقته في كلّ لقاء رسمي. وفي كثير من الأحيان، كان الاثنان يمشيان معًا في شوارع نابلس مشية جذبت أنظار الناس. اعتبر السيّد أكرم زعيتر أبا واصف نبيًّا بحقّ وحقيق واعتاد الإصغاء بكلّ رضًى لنصائحه.

مجرّد هذا التقارب ما بين رئيس البلدية المسلم والكاهن الأكبر السامري، أثار غيرة الكثيرين. بعض أهالي نابلس لم يُخف تذمّره من ذلك، وفي كلّ مرّة مرّ بهم هذان الاثنان في أحد شوارع المدينة كانوا يذكرونهما بالشرّ والسوء. رئيس البلدية لم يلاحظ ذلك، إلا أنّ الكاهن الأكبر توفيق انتبه جيدًا لذلك بفطنته الكبيرة. علِم الكاهن أنّ سبب الغيرة الأساسيَّ ليس هو ولكن علاقته الطيبة مع رئيس البلدية. ببساطة، أولئك الوجهاء الذين كانوا يقدحون بهما رغبوا في الحصول على العلاقة ذاتها مع رئيس البلدية. 

بالرغم من أنّ أبا واصف عرف السبب إلا أنّه خشِي وبحقّ أن الأمور ستصل رئيس البلدية وستضرّر علاقته به. علم أنّه لا بد من اتّخاذ خطوة ما لإيقاف سيل الهمز واللمز السرّي ضد رئيس البلدية. لذلك عزم أبو واصف على التقليل بقدر الإمكان من لقاءاته برئيس البلدية، وعند اللقاء كون الكاهن عضو شرف في البلدية، عامله رئيس البلدية كمعاملة غيره من أعضاء البلدية. 

نيّة أبي واصف كانت حسنة، إنّه لم يرغب في أن يقوم أحد مباشرة  بمسّ شرف رئيس البلدية صديقه، ومن ناحية أخرى وبنفس القدر أراد أن يحافظ على علاقات طيّبة مع وجهاء نابلس وذلك لصالح طائفته الصغيرة. أكرم زعيتر، ذلك الرجل الحليم، شعر بابتعاد الكاهن الأكبر السامري عنه وقرّر أن يستقصي ما وراء الأكمة.

صداقة على المحكّ

ذات يوم استدعى رئيسُ البلدية الكاهنَ الأكبر توفيق إلى بيته عن طريق إرسال مساعده الشخصي. لبّى الكاهن توفيق دعوة رئيس البلدية مُكرهًا، إلّا أنّه تظاهر بجهله سبب الاستدعاء العاجل إلى هذا الحدّ. توجّه إليه رئيس البلدية فورًا قائلا ”لا أعرف ما اقترفتُ وأخطأت بحقّك حتّى باتت علاقتنا باردة إلى هذا الحدّ، لا علم لي بأيّ شيء يُمكنني ذكره بخصوص تعكير صفو علاقتنا. هلّا أوضحتَ لي ماذا حدث؟“ 

أومأ أبو واصف بحركة رأسه من الأعلى إلى الأسفل مبتسمًا: ”لا يا سيّدي، رئيس البلدية المبجّل، لم يحدث بيننا شيء، ما فعلته في المرّة الأخيرة كان لمصلحتك الشخصية“. تعجّب رئيس البلدية جدّا من الإجابة ولكن سُرعان ما أضاف أبو واصف: ”لست أدري في ما إذا استرعى انتباهك أنّ كلّ المدينة تبثّ القيل والقال عنك وعنّي. حدث ذلك في كلّ مرّة كنّا نسير في شوارع نابلس بسبب الغيرة والحسد، وأنا لست الشخص الذي ينقد ذلك. إنّي أسعى لصالحك وسلامتك، لذلك امتنعت عن الظهور في بيتك كما كان سابقًا، وكذلك السير معك في الشوارع، لا أريد أن يلحقك أيّ شرّ“، أنهى أبو واصف حديثه منفعِلا.

بدا رئيس البلدية مرتبكًا عند سماع ذلك. بعد برهة استجمع قواه وجرى نحو أبي واصف: ”من هم   هؤلاء الناس النمّامون؟“ صرخ بانفعال وغضب - ”ּأعلم أنّك لن تُفصح عنهم ولكن عليك أن تعرف أنّي أوثرك ألف مرّة أكثر من كل واحد منهم. سأُريك الآن أيّة معاملة سيعاملوننا من اليوم فصاعدًا“.

دعا رئيس البلدية صديقه الكاهن لمرافقته للتوّ في مشوار في شوارع المدينة: ”على سكّان المدينة أن يعوا أنّه ليس بمقدور أحد منهم المسّ بالعلاقة الخاصّة التي تربطنا. إنّك بالنسبة لي المواطن الأفضل في مدينة نابلس“. حاول أبو واصف أن يثْني السيّد أكرم زعيتر عن تنفيذ مشيئته، إلّا أنّ رئيس البلدية كان حازمًا في رأيه. خرج الاثنان إلى الشارع، ويا للعجب ففي كلّ مكان مرّوا به تقدّم المارّون إليهما وقبّلوا أيديهما منحنين وهم يطرحون التحيّة والسلام. 

أحيانًا، توقّف ٱلاثنان عن السير لأنّ رئيس البلدية حرِص على أن يُعلن على مسامع المحتشدين مكانة الكاهن الخاصّة عنده وتفهّم الجميع ذلك. عندما عاد الكاهن ورئيس البلدية إلى عِمارة البلدية التفت أكرم زعيتر إلى الكاهن الأكبر السامري قائلا له: ”هل تراهم، هؤلاء الكلاب؟ إنّهم يفهمون هذا فقط، من الممنوع التنازل لهم“.
بدا أبو واصف خجِلًا بعض الشيء لمشاركته  في مكيدة رئيس البلدية: ”ما قمت بهذا إلّا لمصلحتك الشخصية فقط، ربّما أنّك تعرف أهل المدينة أفضل منّي“، قال هامسا. ضحك رئيس البلدية فرحا، ولكن منذ ذلك اليوم فصاعدًا عادت المياه إلى مجاريها بالنسبة لعلاقة الاثنين. إذن، ما قولك؟ أتبدو القصّة جميلة لدرجة أنّها غير حقيقية؛ إنّك لا تدري ما تنطق به. إنّ القصة حقيقية لا غبار عليها، لم أسمعها من أحد، كنت شاهدَ عِيان لها“. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق