مع اقتراب شهر مايو من العام الجاري والذي سيشهد اجراء الانتخابات العامة الـ 17 في تاريخها تتجه الأنظار أكثر فأكثر نحو الهند، كبرى ديمقراطيات العالم وصاحبة التجربة السياسية الرائدة على مستوى العالم الثالث، وتكثر بالتزامن التساؤلات عمن سيفوز بها ويتولى بالتالي حكم الهند خلال السنوات الخمس القادمة: هل هو حزب بهاراتيا جاناتا الذي إكتسح إنتخابات 2014 وفاز فوزا مدويا بقيادة رئيس الحكومة الحالي "ناريندرا مودي"؟ أم هو حزب المؤتمر العريق الذي خسر خسارة غير مسبوقة بحصوله على سبعين مقعدا فقط (من أصل 543 مقعدا) تحت قيادة زعيمه الشاب راهول غاندي سليل الأسرة النهرو/غاندية؟
حتى وقت قريب كانت التكهنات تشير إلى أن مودي سوف يكرر إنتصاره الكاسح مجددا، مستفيدا مما حققه من إنجازات داخلية وخارجية لبلده خلال السنوات الماضية. لكن يبدو أن حزب المؤتمر، وتحت تأثير ما حدث له في الانتخابات الماضية، عازم على الثأر واستعادة مكانته وسمعته التاريخية، وذلك عبر عقد صفقات وتحالفات مع بعض الأحزاب الإقليمية ذات الشعبية الطاغية جهويا، مثل حزب ساماجوادي بقيادة "أخيليش ياداف" وحزب "بهوجان ساماج" بقيادة السيدة "ماياواتي"، وهما حزبان ذا نفوذ في ولاية "أوتارش براديش" الشمالية، أكبر ولايات الهند لجهة عدد السكان وأكثرها تمثيلا في البرلمان (80 مقعدا)، وكذلك مع حزب "المؤتمر ترينامول لعموم الهند" الذي يحكم ولاية البنغال الغربية منذ عام 2011 بقيادة زعيمته "ماماتا بنيرجي".
قد تشكل هذه الصفقات تهديدا لحظوظ مودي، رغم أن معظم إستطلاعات الرأي ترجح فوزه. غير أن المشكلة تكمن في أن تلك الصفقات إذا ما أبرمت وحققت المراد فإنها ستقود الهند إلى دوامة من عدم الاستقرار السياسي بالشكل الذي جربته في نهايات الثمانينات ومطلع التسعينات حينما كانت الحكومات المركزية تسقط كل عام كنتيجة لطموحات زعمائها الشخصية، أو كنتيجة لفشلها في عملية كسب الثقة داخل الغرفة البرلمانية المنتخبة (لوك سابها) بسبب طبيعتها الائتلافية الهشة. في تلك المرحلة من تاريخ الهند سطع، نجم العديد من الساسة الجهويين لكن سرعان ما أفل، بل جاءت الصراعات برؤساء حكومات لم يكن يجيدون التحدث باللغة الهندية ــ مثل رئيس الوزراء الأسبق "ديفي غاودا" ــ وإنْ أجادوا الإنجليزية ولغتهم المحلية. فكانت المحصلة أمورا كارثية ألحقت الضرر بسمعة البلاد واستقرارها واقتصادها.
هذا الأمر قابل للتكرار اليوم، خصوصا إذا ما علمنا أن ساسة محليين كثر يشترطون على حزب المؤتمر أن يتولوا هم زعامة الهند في حال نجاح الأخير في الانتخابات بمعنى ألا تؤول رئاسة الحكومة لراهول غاندي الموصوف بيفاعته ونقصان خبرته السياسية. من هؤلاء: "ماماتا بنيرجي"، و"اخيليش ياداف"، و"ماياواتي".
على أن مشكلة الخوف من الخسارة لا تقتصر على حزب المؤتمر وحده، وإنما على الحزب الحاكم أيضا وذلك على وقع تقارير ومزاعم بعض المحللين من أن شعبيته في انخفاض، وأن شعبية مودي تراجعت في أوساط الطبقة الوسطى من 44% في 2017 إلى 34% في 2018، مع اعترافهم بأن عهد مودي حقق نموا غير مسبوق لكن دون أن يخلق وظائف يتناسب عددها مع عدد الداخلين لسوق العمل سنويا. وهذا دفع بعض رموز بهاراتيا جاناتا لطرح أسمائهم كبديل لمودي في قيادة الحزب في الانتخابات المقبلة.
وللسبب ذاته، عمدت الحكومة الهندية والحزب الحاكم في الآونة الأخيرة إلى اتخاذ عدة قرارات تستهدف كسب المزيد من أصوات المقترعين البالغ تعداداهم 850 مليون نسمة. ومن أمثلتها القيام بحملات توعوية جماهيرية تستهدف التركيز على إنجازات مودي بدلا من التذكير بسيرته كرجل عصامي كان يبيع الشاي على أرصفة محطة القطارات في غوجرات (مقابل سيرة راهول غاندي الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب)؛ وتخصيص 10% من موازنة الاحتياطي العام للإنفاق على الفقراء والمهمشين؛ وكسب رضا وأصوات صغار التجار ورجال الأعمال عبر وضع ضوابط جديدة تحد من التجارة الإلكترونية وبالتالي تنعش مبيعات التجزئة وتخفض من البطالة؛ ومحاولة جس نبض بعض الاحزاب المحلية في جنوب البلاد لتكوين تحالفات، خصوصا وأن بهاراتا جاناتانا لا تملك قواعد صلبة في الولايات الجنوبية.
وإذا ما عدنا إلى حزب المؤتمر فإن أحد دلائل خوفه من الهزيمة هذه المرة أيضا هو قرار زعيمه مؤخرا بتنصيب أخته "بريانكا غاندي" (43 عاما) صاحبة الكاريزما الجماهيرية التي تذكر الهنود بجدتها الحديدية أنديرا غاندي في منصب الأمين العام للحزب. ويمكن القول أن راهول سعى من وراء هذه الخطوة المدروسة إعادة شقيقته إلى حلبة السياسة، التي هجرتها قبل سنوات قليلة بحجة التفرغ لشئونها الأسرية، من أجل أن تساعده في إستمالة الناخب الهندي. لكن السؤال يبقى هل يستطيع المؤتمر إستعادة الوهج المخطوف منه من خلال هذه الخطوات أم أن بهاراتيا جاناتا وحلفائها صاروا رقما يصعب اجتيازه؟
إن الهند، في هذا المنعطف الحاسم من تاريخها الذي تقاوم فيها الإرهاب العابر للحدود بيد، وتبني إقتصادها باليد الأخرى، وتحاول في الوقت نفسه بناء تحالف وشراكات إستراتيجية مع الغرب واليابان وتكتل آسيان بهدف تثبيت دعائم الأمن والاستقرار في المحيطين الهندي والهاديء والوقوف في وجه المنافسة الجيوسياسية الصينية، في حاجة ماسة إلى حكومة مركزية قوية تتمتع بتخويل شعبي كاسح على المستوى الوطني. وهذا لن يتأتى، من وجهة نظري الشخصية، إلا من خلال التجديد لمودي كي يواصل ما بدأه بنجاح.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2019
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
المشكلة تكمن في أن تلك الصفقات إذا ما أبرمت وحققت المراد فإنها ستقود الهند إلى دوامة من عدم الاستقرار السياسي بالشكل الذي جربته في نهايات الثمانينات ومطلع التسعينات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق