قد تعتقد أنها رواية تُقرأ من عنوانها- رغم الدلالة المكثّفة للعنوان- وأنّ حبكتها تدور حول رحم نقيٍّ قد تلوّث بنطفة سوداء، ولكنّك ستقع في تفاصيل السرد، وتجاذباته ومفارقاته صعودًا وهبوطًا، قبل أن تصل إلى عقدة الرواية، وسيرافقك التشوّف للتفاصيل حتى نهايتها، فالكاتبة خبّأت في كلّ منعطف سرًا، تماما كما اختبأت (أمل) بطلة الرواية، وأمّها (الحاجة آمنة)، في قعر البئر، في صفحات الرواية الأولى، كشاهدتين على مذابح (الأيّام الستّة)، في حيّ وادي الجوز في القدس، وعادت (أمل) لتختبئ فيه وهي طبيبة عام 1987، بعدما قتلت بحجر، جنديا صهيونيا اغتصبها تحت شجرة حول سور القدس لأنّها دفعته وصرخت في وجهه قائلة:" أنت حقير وواطي" بعد محاولة منها لتخليص يوسف، فكانت ثمرة هذا الاغتصاب نطفة سوداء، في رحم (أمل) الأبيض، جعلتها أمًّا للمرّة الثانية، لصبيٍّ أسماه الطبيب (وليد)، تحوّل بعدما أعاده (يوسف) الحبيب إلى الصهاينة إلى جنديّ صهيونيّ، فيقتل أمّه بعد عشر سنوات، عندما يلتقيها للمرّة الثانية على حاجز (قلنديا)، ويلقي في حجرها سكينا، مدّعيا أنّها حاولت تنفيذ عمليّة طعن.
تمتدّ أحداث الرواية الصادرة عن دار كلّ شيء في حيفا، في صفحاتها البالغة (285) صفحة على فترة زمنيّة طويلة كعذاب الفلسطينيّين، من عمر النكسة عام 1967، وحتى عام 2015، تبدأ بمذابح النكسة حيث يستشهد والد (أمل) وشقيقها (يوسف) أمام عينيها، بشظايا صاروخ، فيؤويها (العمّ سالم) الناجي الوحيد من المذبحة التي طالت كلّ أسرته عام 1948، فكما آواه أهلّ الحيّ طفلا، يغدق (العمّ سالم) على (أمل) محبّته وأبوّته، ويرعاها طوال حياته.
تتعدّد الأماكن في الرواية، ولكن تبقى القدس محور الأحداث كلّها، ففي حيّ وادي الجوز في القدس تدور معظم أحداث الرواية، حيث تصادق (أمل) (يوسف) الذي يحبّها بشعف عظيم، فيما تعتبره هي أخًا، تستعيض به عن أخيها (يوسف) الذي فقدته في مذابح النكسة، ترافقه من وإلى المدرسة، ويصطحبها إلى مصر، للمشاركة في جنازة جمال عبد الناصر، التي تصرّ الطفلة (أمل) ذات الستة عشر عاما على حضورها، ثم تنتقل الأحداث إلى العراق، حيث تدرس (أمل) الطبّ، بعدما حصلت على منحة تفوّق، وهناك تلتقي (جاد) الطبيب العراقيّ، الذي يتزوجها، فتعاني الغربة رغم سعادة الحبّ، وتنجب ابنتها (حريّة)، ثم تعود إلى وادي الجوز بعدما يتحرر (يوسف) من معتقله، والذي كان قد اندفع في العمل الثوريّ هربًا من مرارة الفقدان والخسارة التي تلبّسته بعد زواج (أمل) وغربتها، وفي هذه الزيارة يقع المحظور، إذ يغتصب جندي صهيوني (أمل) على قارعة الطريق، فتقتله، وتهرب إلى البئر، مخبئها الأول، ويتلقّفها (العم سالم) الذي يتدبّر لها طبيبا يغيّر ملامحها، ليضمن عودتها للعراق، وهناك تختبر (أمل) تجربة قاسية حين تشعر بحركة الجنين في أحشائها، وتكتشف أنّ نطفة سوداء قد غرست في رحمها، فيتخلى عنها زوجها، في إشارة رمزيّة إلى تخلي العرب عن فلسطين بعدما اغتصبها الاحتلال الصهيوني، في وقت كانت فيه في أمسّ الحاجة إلى نصرتهم وعونهم، لترجع بعدها أمل إلى القدس، ولكن إلى البلدة القديمة، ولتلحق بها ابنتها (حريّة) ابنة الاثني عشر ربيعا، فتكون سندا لأمها في محنتها.
بعد ميلاد النطفة السوداء، تدخل (أمل) اكتئاب أمومة قاسيًا، تساندها فيه (حريّة)، والتي تتعرف في المستشفى إلى (يحيى) الطبيب الذي يحبّ (حريّة) ويتدبّر لها ولأمّها سكنًا في القدس العتيقة، وتتوالى الأحداث، ليخرج (يوسف) من معتقله، بعد حادثة الاغتصاب، فيخلّص (أمل) من (وليد) بتسليمه للاحتلال، ويوهم أمّه أنه استشهد في اقتحام (شارون) للأقصى عام 2000، وتنتهي القصّة بربط المشهد الأوّل بالمشهد الأخير، حيث تسافر (حرية) وزوجها (يحيى)، بعد قضائه عشر سنوات في المعتقل، تمكنت خلالها (حرية) من إنجاب (خالد) و (ياسر)، من نطف مهربة، تسافر للعلاج، إذ تتبرّع هي بكلية يحيى، ويتبرع أحد أبنائها بكليته للآخر، ويخرجون جميعا من المستشفى في ميامي، رفقة (كلارا) الطبيبة الأمريكية، رفيقة (يحيى) من أيام الدراسة، والتي تلحّ عليه لكتابة قصّة (أمل) في رواية، ثم يكتشف (يحيى) في نهاية الرواية، أنّ (كلارا) تتاجر بالأعضاء، وأنّها يهوديّة عدوة للفلسطينيين.
ترجع العائلة المقدسيّة لتجد بيتها مستباحًا ومصادرًا من قبل الصهاينة، لتقرّر البقاء في فنائه حتى تستعيده.
تحتشد الأحداثُ في الرواية لتُقدّم سردًا لحقبة تاريخيّة طويلة ومهمّة من حياة الشعب الفلسطيني، وتطرح نموذجًا صلبًا وقويًّا للفرد الفلسطينيّ المتشبّث بأرضه وحقّه، مهما واجهه من صعاب، في تسلسل سلسٍ للأحداث، ولغةٍ سهلة ممتنعة، تتكئُ على البلاغة، والإيحاءات، والرموز الدالّة، والمواءمة لتتناسب مع لغة الشخوص، تِبْعًا لمستوياتهم، والأقطار التي ينتمون إليها، بما يُحقّقُ الجاذبيّة والتشويق، وقد اختارت الكاتبة أسماء أبطالها بعناية فائقة، جعلت من تلك الأسماء رموزًا مُشبعة الدلالة والإيحاءات العميقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق