جلست كعادتها كل صباح تتناول افطارها الخفيف قرب شرفتها الواسعة التي تطل على حديقة البرتقال تتأمل أزهارها البيضاء التي أينعت معلنة قرب نهاية الخريف الذي لم يكن باردا هذا العام ، كانت تبدو كالأميرة في قصرها العالي، أنثى كما تشتهيها العيون تختزل بتفاصيلها جمال الحياة وقوة نبضها ، وجد الكثير في اختلاس لحظة النظر اليها متعة وفي القراءة الجمالية لحسنها والتمعن فيه ما يوجب رفع قرار المنع ، لم تكن بعد استبدلت لباس نومها البمبي الذي يبتكر من ذاته لون عطره والذي لا ترتديه إلا الأجساد الغضة التي تثقب بدلالها قميص الليل إلى كمال المعنى وسدرة المشتهى ، ذلك اللون الذي أرادته صيحة تنبيهية تفكك ألغاز أجواء لياليها الطلسمية كلما سكن في روحها كل مساء ليل الغياب.
فارسها لا تريده ذو شخصية منطفئة وكاريزما ذابلة بل من يملك فلسفة قوة الحياة البسيطة إن تقديرها لقيمة رجل محب هو بقدر وقوفه الى جانب قلبها ،هكذا حدثت نفسها وهي تتجول بين أشجار البرتقال وتلامس برفق أزهارها ، حينها بدا لها من خلال الأغصان المتشابكة ذلك الشاب الأسمر الوسيم الذي التقت به ذات مساء خلال زيارته الأولى لأخيها ، انه سمير مدرس الموسيقى البسيط المتواضع الذي استقدمه أخوها ،لم تنس أنه عزف لها ببراعة في نهاية الدرس لحنا عذبا على البيانو أهداه لها بمجاملة دافئة كان يتجول بخطوات بطيئة ولم ينتبه لوجودها فقد شغله عنها قلق الانتظار ، داعبت حكايات ذلك اللقاء الذاكرة فهاجت في نفسها أفكار عميقة زادت من حيويتها معايشتها للأحداث ، أخذت طريقا آخرا يجعلها تتقاطع معه ليتحقق لها لقاء آخر معه أرادته عفويا ، ترددت قليلا وهي لا تدري ما الذي يدفعها لذلك ولماذا تفعل هذا ، ولكنها أسرعت خطاها وكأنها تسابق الوقت قبل أن يحضر شقيقها عساها تحظى بلحظات في الحديث معه ،وكان لها ما خططت له وتمتعت بدفء كلماته واستغرقت في وجاهة أفكاره ولمست تميزه بالإقناع المصحوب بالجاذبية وبجماله الخاص وأسعدها أنه وعدها بإهدائها لحنا آخر سيعده خصيصا لها. قضت الليالي ساهرة تتساءل عن سر ما طرأ عليها من انشغال به ، أهو الحب الذي لامس شغاف قلبها من أول لحن يهدى لها ؟ أم هي أسيرة شخصيته المتميزة ؟ تدق المنضدة بقبضة اليد وهي تتأسف على أنه لم يصارحها بعد بحبه لها .
لاحظت ذات يوم من شرفتها حركة تدب في الفيلا المقابلة لها ، لقد عاد أصحابها اليها بعد غياب دام سنوات،الكل يهم بإنزال الحقائب والأمتعة من السيارة الفارهة، لمحها مراد صديق الطفولة ومن شدة فرحه هلل لرؤيتها بأعلى صوته واقترب من سور حديقة منزلها غير مكترث لنداءات مد يد المساعدة بقدر ما كان متلهفا أن يتأملها جيدا من أقرب مكان ، لم يخف منذ البداية اعجابه بجمالها وحدثها كثيرا بدون تحفظ حتى احتواها ، لقد ترك في نفسها أثرا لازمها وشغلها ، كان في مثل عمرها ، وجدته شابا رشيقا أنيقا مفعما بحيوية الشباب ، اكسبته سنوات اقامته مع عائلته بالخارج شخصية متحررة ،لمست من خلال الزيارات المتبادلة بين عائلتيهما أنه طموح ،مندفع ،محب للحياة ولا يعبأ كثيرا بنظرات الناس ولا بآرائهم ،كان يتعامل مع الأمور بشكل مباشر فيما كان ينظر آخرون في نفس الاتجاه بزاوية حادة ، منعها خجلها أمام جسارته العاطفية من مجاراته عدة مرات ومع ذلك نجح في أن يحقق من تواصله العاطفي معها بلغة مشفرة من المستحيل أن يفهمها آخرون أن يثير اهتمامها نحو مكنونات المرأة و طبيعة أسرارها عندما تحب ، كان يسيطر على مخيلتها وترتسم صورته أمام عينيها كلما استمعت إلى عزف سمير على البيانو ، حتى استشعرت في نفسها حياء الأنثى فأبت أن تسقط بملء ارادتها في بؤرة دور الضحية .
كانت صدفة أن التقته ذات صباح رفقة صديقه أحمد بلباسه السلفي المعروف ، قاومت رغبتها في الانجذاب نحوه ردت تحيته عن بعد بهدوء ورزانة وأكملت سيرها دون أن تلتفت خلفها،أعجب أحمد بجمالها وأخلاقها وأخذ يتأملها برهة وهو يقوم بتخليل لحيته الكثة الطويلة وسأل مراد عنها حتى عرف منه على ما يريد ،أرسل أخته المحجبة إلى أمها تريد خطبتها لأخيها أحمد ،وفي الموعد المحدد للتعارف بين الأسرتين تذكرته أميرة ، أعجبت بهدوئه وبشخصيته الرزينة وثقافته الدينية الواسعة وأدبه واحترامه الشديد لها إلا انها باتت ليلتها حائرة قلقة من ما سمعته منه ، انه تقي ويخاف الله فيها لكن شرطه لبس الحجاب ونقاب الوجه وجدته غريبا عليها، سرى في نفسها دبيب الشك في ما سيحمله لها المستقبل معه تذكرت حكايات صديقاتها اللائي خضن نفس التجربة وانتهت بالطلاق فتملكها الخوف من طريق ربما لو سلكته يؤدي بها الى الغلو والتشدد ثم ينتهي أمرها الى التطرف أو الطلاق. عادت أميرة للجلوس قرب شرفتها التي انقطعت عنها أياما تتأمل أزهار البرتقال وقد انعقد بعضها ثمارا صغيرة تنشد النمو ولم تك شيئا ومنت النفس أن تثمر زهرة شبابها يوما حياة هانئة وسعيدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق