تُعزى النادرة التي سنعرضها أدناه إلى عدد من كبار القادة العسكريين والبحارة المغامرين على مر التاريخ، لكنها ترتبط أكثر ما يكون بالمستكشف الإيطالي كريستوفر كولمبوس.
تقول النادرة إن كولمبوس كان على متن سفينة القيادة في طريقه إلى العالم الجديد عندما شاهد عدداً من كبار مساعديه يحاولون "إيقاف" بيضة مسلوقة على طاولة مسطحة. طبعاً هذا أمر مستحيل خصوصاً في سفينة تتقاذفها الأمواج. ظل كولمبوس مدة وهو يراقب المحاولات العبثية قبل أن يتقدم منهم قائلاً: أنا أستطيع ذلك! أمسك البيضة المسلوقة وضربها بعنف على الطاولة... فوقفت بالطبع وإن مهشمة تماماً.
فلنبقِ هذه الصورة في أذهاننا ونحن نستعيد قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ما يتعلق بحل "أزمة الشرق الأوسط"، وهو الحل الذي يطلقون عليه اسم "صفقة القرن". وآخر ما تم في هذا السياق خطوة ترامب التي اعترفت بـ "السيادة الإسرائيلية" على هضبة الجولان السورية المحتلة. وذلك بعد الاعتراف الأميركي بمدينة القدس "عاصمة أبدية لدولة إسرائيل"، والبدء بسياسة ممنهجة تهدف إلى تغييب مسألة "اللاجئين الفلسطينيين" مع ما يعنيه ذلك من حذف "بند العودة" من أية تسوية مستقبلية.
يحاول بعض المعلقين السياسيين، في عالمنا العرب وخارجه، التعاطي مع قرارات ترامب وكأنها نتاج شخصية مهتزة، نرجسية، عشوائية، غير متوازنة، لا تقيم اعتباراً لأي قوانين دولية أو أعراف سياسية أو حتى لقرارات مجلس الأمن الدولي. لكننا نعتقد أن هذه النظرة الجزئية تفشل في وضع الأصبع على مكمن الداء في كل المساعي الدولية (ومن بينها الأميركية) التي عجزت خلال العقود الماضية عن تحقيق أي اختراق في "أزمة الشرق الأوسط". ومع أن تفاصيل "صفقة القرن" ما زالت محاطة بالغموض المقصود، فنحن نرى إلى أن واضعي خططها استوعبوا نقائص المحاولات السابقة منذ "مشروع روجرز" سنة 1970 الذي قبله الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر... لكن وفاته المفاجئة وضعت حداً لأي ترتيبات لاحقة، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن قضاء النظام الأردني على المقاومة الفلسطينية كان جزءاً من المشروع الأميركي آنذاك!
كل الأفكار التي أطلقت منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم كانت تقف عاجزة أمام مسائل أساسية لا يملك أي طرف القدرة أو الجرأة على تقديم تنازلات فيها: وضع الأراضي المحتلة بعد حرب حزيران سنة 1967، مصير "اللاجئين الفلسطينيين" وحق العودة، وضع مدينة القدس نظراً إلى حساسيتها الدينية بالنسبة إلى كل الأطراف، وأخيراً "التطبيع" مع العالم العربي بعد تحقيق "التسوية". ولا شك في أن سياسة الخطوة خطوة التي إنتهجها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر بعد حرب 1973 التحريرية أسّست لما قامت به القيادات الأميركية المتعاقبة، والتي يبدو أن دور ترامب الراهن يكمن في إيصالها إلى غايتها القصوى.
سياسة الخطوة خطوة في الواقع ما هي إلا سياسة التفتيت والتشتيت. فما أن تحقق فك الارتباط بعد حرب 1973 حتى أقدم الرئيس المصري الراحل أنور السادات على إخراج مصر من معادلة الصراع بتوقيعه معاهدة كامب ديفيد. بعد ذلك أُدخل لبنان في حربه الأهلية سنة 1975 بهدف استنزاف المقاومة الفلسطينية تمهيداً للقضاء عليها. وجاء الغزو الصهيوني للأراضي اللبنانية سنة 1982 بالتواطؤ مع القوى الانعزالية سعياً إلى جعل لبنان الدولة الثانية التي "تطبع" مع إسرئيل. ثم صدر القرار الأردني سنة 1988 بفك الارتباط الإداري مع الضفة الغربية المحتلة. وبينما كان مؤتمر مدريد للسلام منعقداً برعاية أميركية بعد أزمة احتلال الكويت سنة 1991، فتحت منظمة التحرير الفلسطينية قناة سرية منفردة مع إسرائيل أوصلت إلى اتفاق أوسلو السيء الذكر. ويبدو لنا أن القرار الإسرائيلي الأحادي بالإنسحاب من جنوب لبنان سنة 2000، على الأقل في جزء منه، مرتبط بسياسة التفتيت والتشتيت خصوصاً مع فشل المفاوضات الأميركية ـ السورية ـ الإسرائيلية حول هضبة الجولان في العام نفسه. وكانت الغاية فصل المسارين السوري واللبناني، تمهيداً لاستفراد دمشق.
دعونا الآن ننظر إلى واقعنا القومي تحديداً، وإلى واقع العالم العربي عموماً. سياسة التفتيت والتشتيت وصلت إلى مداها الأقصى على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. تعامل بعض الدول العربية مع إسرائيل تجاوز مرحلة "التطبيع" ليصل إلى مرحلة "التحالف". وتم ابتلاع مدينة القدس، بل ومعظم الضفة الغربية، قبل قرار ترامب وبعده. واشنطن قطعت كل مساعداتها للفلسطينيين، وتعمل جاهدة على إنهاء دور وكالة غوث اللاجئين (الأونروا). كما وأن الأراضي المحتلة في لبنان وسوريا وفلسطين تتعرض لاستيطان يهودي مكثف... ومن الواضح أن الإدارات الأميركية المتعاقبة ساعدت، أو على الأقل تجاهلت، سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية التي أوجدت وقائع مختلفة على الأرض.
لكن هذا لا يعني أن لإسرائيل وداعميها اليد الطولى على مستوى الساحة القومية. ذلك أن محور المقاومة، على رغم التحديات الداخلية والخارجية الكثيفة، استطاع الوقوف في وجه تجليات "السلم الإسرائيلي" في لبنان وفلسطين والشام. وهو قادر على إفشال "صفقة القرن" في حال ركز جهوده على إسقاط سياسة التفتيت والتشتيت، وذلك لا يتحقق إلا بوحدة المجتمع والتفاف الشعب حول مبادئ واضحة تصون المصلحة القومية أولاً وأخيراً.
ما قام به ترامب، وما يتوقع أن يقوم به قريباً، ليس إلا محاولة لإيقاف بيضة كولمبوس... قد تقف البيضة فعلاً لكنها ستكون مهشمة تماماً .
الحزب السوري القومي الاجتماعي / مفوضية سدني المستقلة
موسى مرعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق