1 حين اشتاق ... بقلم : زهرة النرجس ربيعة أزاد .
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للأفكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
البوح الأقصى :
وهو طريقة كتابة تشتمل على تعابير شديدة البوح وتحمل أقصى اشكال إبراز المكنونات النفسية بكلمات وتعابير في أقسىرجات البوح .
حينما تنغلق الذات الشاعرة على نفسها ستضحى مشاعرها متأججة تحمل همّها لوحدها وتنغمس في عالمها البعيد وتمنحها مديات واسعة من التأمل والأنصات لعوالمها العميقة , فالقصيدة هي الملاذ الآمن الذي تلجأ اليه لتعبّر عمّا يعتريها ويجول في اعماقها المتأججة , وتبقى هذه الذات هي البطل الوحيد الذي يتحرك داخل النسيج الشعري ومعربة عن وحدتها وغربتها في هذا العالم , نتيجة هذا الواقع الملغم بالخيبة والخسارات والكبوات والانكسار . وتبقى في صراعها الذاتي ومخاطبة نفسها عن طريق لغة خاصة بها مفرداتها تعبّر أيما تعبير عن شخصيتها ومحنتها . ونجد بوضوح جسدنة هذه الذات من خلالها إصرارها على سرد لوعتها , ويرتفع صوتها عاليا مشحونا بكمّ هائل من المشاعر الرقيقة التي تتناوب ما بين النرجسية الفرطة والعذاب المبرح وما بين الخيبات المتلاحقة والاحلام العذبة . وتبقى الذات الشاعرة تصارع في محاولة منها للخروج من شرنقة هذا الواقع المؤلم والانتصار .
واليوم نحن امام نصّ الشاعرة : زهرة النرجس ربيعة أزاد ... / حين أشتاق / .. فمن خلال عتبة العنوان نتلمس بوضوح ملامح هذه الذات المتعطشة والمبتلية بزمهير مواجعها وتشظّيها ووحدتها . فالذات الشاعرة اختارة طريقة الكتابة الافقية / السردية التعبيرية / ذات الكتلة الواحدة كي تستطيع أخذ مساحة واسعة في التعبير والكشف عن مكنوناتها وتعبّر بحرّية , وتتخذ من اللغة فضاء للكشف والإيحاء تتسرب من خلالها المشاعر العميقة والمرهفة وتعظّم طاقاتها بتراكيب تنزاح فيها هذه اللغة بطريقة مذهلة وغريبة ومستفزّة وتتجلّى من خلالها جمالية صوت المرأة وتبثّ فيها طاقة تجعل المتلقي يعيش داخل النصّ ويتفاعل معه . فلو حاولنا تسليط الضوء والاضاءة لوحدات هذا النصّ سنجد صوت المرأة التي تحاول التصريح عن كينونتها المضطهدة , فمثلا ... / حين أشتاق إليك، أصير كزهرة دثرها الندى في صبيحات ربيع يزهو بأردية كل الفصول أحتضن الشروق احتضانا يغرقني في بحر حنين والرعشة الغامرة التي تسكن لحظاتي كظل الآثار القديمة المتمردة على سطوة العصور،فلا أذكر شيء من هذا البعد اللعين الذي عبث بألوان فستان لبسته لألقاك أضحى قوامي فيه كركام عجوز تحاول النهوض من بركة وجع لترقد فوق حجر أخضر../ .. نجد الذات الشاعرة كيف استطاعة البوح والكشف عن مكنوناتها عبر هذا البناء الجملي الطويل والجميل , وكيف استخدمت الانزياحات اللغوية بطريقة عجيبة , وكيف تجلّت اللغة القادمة مما وراء الحلم معبّرة أصدق تعبير عن كينونتها , وكيف طوّعت خيالها الخصب في رسم كل هذه الصور المدهشة ..؟؟ !! . ونختار مقطعا اخر من هذه القطعة الجميلة ../ خفقان عنيف يجردني من ذاكرتي بلا ذاكرة أنا كي أعرف طريقي لمائدة النهر، كي أفسح الطريق لجداول عشق علا لغوها في دواخلي، أشعر كأني سجنت مذ غابر السنين في زنزانة الاشتياق، رحماك أطفئ لظى هذا الشوق لأسبق الغيوم هطولا ينفخ الحياة في السرر المتجمدة، هطلة توقظ فواكه القلب،تفتح نوافذ الرغبة التي أغلقتها طلقات الرصاص../ .. ان الذات الشاعرة هنا تعي محنتها جيدا لذا استخدمت مفردات خاصة شديدة البوح والتأثير .. فمثلا ../ خفقن عنيف / يجرّدني / مائدة النهر / جداول العشق / دواخلي / أشعر / سجنت / زنزانة الاشتياق / رحماك / اطفىء / لظى / الشوق / هطولا / ينفخ / السرر المتجمدة / هطلة / توقظ / فواكه القلب / تفتح / الرغبة / اغلقتها / .. نجد هنا كل مفردة لها بُعدها الدلالي والـاويلي داخل النصّ وكأن الشاعرة اختارتها بعناية فائقة لتعبّر بهذا البوح الشديد . وفي هذا المقطع نجد جمالية اللغة الحالمة والمتيقظة دوما والمشرئبة تبحث عن النور والخلاص من ظلام يكتنفها , نجد هنا لغة الأمل المتجدد , نجد الاصرار على تحقيق هذا الحلم ولو بعد حين ../ أحاول أن ألوح لك بمنديل أبيض من خلف أسوار الشوق لأقصى نجمة زرعت النور في صحاري العمر،أرسل لك قبلات وراء سر البحار وعلى أجنحة الهزار أكتب قصيدة بشفتين ورديتين ترتشفان نخب الدنو من جنة الخلد ،في كل الليالي أحمل ساقية ماء وأسافر مقتحمة شهيتي لأحتضن أقمارك، أعانق ذراع البحر ترهبني أمواجه بين مد وجزر وأنا في دائرة الشمس أحاول جاهدة مقاومة عتمات ليل أسود حجبت الطريق نحو النور وكل هذا الذي بي اشتياق يركض حول المسافات الممتد لأقصى المستحيل وكل هذا الذي أملكه حقول نرجس لم تتفتح بعد وهذا الحلم النائم الذي ينتفض طفوليا يعلو كشجرة كورو في جبالي الأطلسية تسمو شموخا لمعانقة السماء تطوقها قناديل الحنين ../ .. انها تحاول وتصرّ في محاولاتها بأقصى ما يمنها من البوح العميق وتسافر بعيدا في أحلامها العذبة ما بيم مدّ وجزر ../ ألف قصيدة أكتبها لك بدموع القلب الذي لم يتربع فوق عرشه سواك وألف سؤال يساورني كيف نلتقي؟ كيف نكسر هذا الصمت الذي انتصب شامخا يتلذذ حين تهيج أمواج الشوق وأصبح مائدة لطيور الحب؟ متى ...متى ياعبق روحي ألقاك؟؟؟؟ ../ .. انّ القلوب النقيّة حتما سيدخلها الحبّ والسلام , كونها رقيقة وشفّافة وناعمة يتغلغل في حناياها , لذا نحن نجد هذا التآلف والتجانس في قصيدة الشاعرة كونها منبعثة من قلبها المفعم بالحيوية والمحبة , لقد كانت الشاعرة على قدر التحدي في كتابة القصيدة السردية التعبيرية , فكانت تمتلم مقدرة على هكذا كتابة تلبّي حاجتها في انتاج هذا الكمّ الهائل من الصور الشعرية المتماسكة والمتتالية التوليد وفي ابتكاراتها اللغوية الجميلة . ونحن متأكدون بانّ الذائقة الابداعية لدى المتلقي ستكتشف الكثير من جماليات صوة المرأة / الشاعرة / في هذا القطعة المتوهّجة .
حين اشتاق ... بقلم : زهرة النرجس / ربيعة .. موليصون/فرنسا
حين أشتاق....
حين أشتاق إليك، أصير كزهرة دثرها الندى في صبيحات ربيع يزهو بأردية كل الفصول أحتضن الشروق احتضانا يغرقني في بحر حنين والرعشة الغامرة التي تسكن لحظاتي كظل الآثار القديمة المتمردة على سطوة العصور،فلا أذكر شيء من هذا البعد اللعين الذي عبث بألوان فستان لبسته لألقاك أضحى قوامي فيه كركام عجوز تحاول النهوض من بركة وجع لترقد فوق حجر أخضر، خفقان عنيف يجردني من ذاكرتي بلا ذاكرة أنا كي أعرف طريقي لمائدة النهر، كي أفسح الطريق لجداول عشق علا لغوها في دواخلي، أشعر كأني سجنت مذ غابر السنين في زنزانة الاشتياق، رحماك أطفئ لظى هذا الشوق لأسبق الغيوم هطولا ينفخ الحياة في السرر المتجمدة، هطلة توقظ فواكه القلب،تفتح نوافذ الرغبة التي أغلقتها طلقات الرصاص، أحاول أن ألوح لك بمنديل أبيض من خلف أسوار الشوق لأقصى نجمة زرعت النور في صحاري العمر،أرسل لك قبلات وراء سر البحار وعلى أجنحة الهزار أكتب قصيدة بشفتين ورديتين ترتشفان نخب الدنو من جنة الخلد ،في كل الليالي أحمل ساقية ماء وأسافر مقتحمة شهيتي لأحتضن أقمارك، أعانق ذراع البحر ترهبني أمواجه بين مد وجزر وأنا في دائرة الشمس أحاول جاهدة مقاومة عتمات ليل أسود حجبت الطريق نحو النور وكل هذا الذي بي اشتياق يركض حول المسافات الممتد لأقصى المستحيل وكل هذا الذي أملكه حقول نرجس لم تتفتح بعد وهذا الحلم النائم الذي ينتفض طفوليا يعلو كشجرة كورو في جبالي الأطلسية تسمو شموخا لمعانقة السماء تطوقها قناديل الحنين،ألف قصيدة أكتبها لك بدموع القلب الذي لم يتربع فوق عرشه سواك وألف سؤال يساورني كيف نلتقي؟ كيف نكسر هذا الصمت الذي انتصب شامخا يتلذذ حين تهيج أمواج الشوق وأصبح مائدة لطيور الحب؟ متى ...متى ياعبق روحي ألقاك؟؟؟؟ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق