مُدخل
قال المتنبي بيتين من الشعر تحت عنوان " نالَ الشرابُ منّي " ثم أضاف : سقاهُ بدر ليلةً فأخذ الشرابُ منه ثم أراد الإنصراف فلم يقدرْ على الكلام فقال هذين البيتين [ أكتفي بواحدٍ منهما ]:
نالَ الذي نِلتُ منه منّي
للّهِ ما تصنعُ الخمورُ
ثم قال المتنبي وكان على ما يبدو ما زال حاضراً في مجلس بدر بن عمّار الأسدي زمانَ كان ( يتولى حربَ طَبَريّة من قِبَل أبي بَكْر محمد بن رائق المَوصلي سنة 328 هجريّة 939 ميلاديّة ) :
وَجدتُ المُدامةَ غلاّبةً
تُهيّجُ للقلبِ أشواقَهُ
تُسئُ من المرءِ تأديبَهُ
ولكنْ تُحسّنُ أخلاقَهُ
......
" للهِ ما تصنعُ الخمورُ " ... كلام بليغ لا يقوله إلاّ مَنْ تعاطى الخمور وعرف أو عانى مما تفعل بصاحبها. إذاً تعاطى المتنبي الخمرة ولكن تحت ظروف خاصة أجبرته على تناولها كما سنرى. لم يتناولها تناول المدمنين عليها كأبي نؤاس مثلاً إنما من باب المجاملة أو الإكراه. قال أبو نؤاس في الخمرة بيته الشعري الشهير :
ألا فاسقني خمراً وقُلْ لي هيَ الخمرُ
ولا تسقني سِرّاً إذا أمكنَ الجهرُ
الأطرف والأكثر غرابةً هو قول الشاعر المتنبي [ تُسئُ من المرءِ تأديبَهُ ولكنْ تُحسّنُ أخلاقَهُ ] ! كيف فرّق بين أدب المرء وأخلاقه ؟ أيكون المرء خلوقاً لكنه سيّء الأدب ؟
هل نلتمس الإجابة عند علماء النفس والإجتماع والفلاسفة ؟ كيف يُسئُ شاربُ الخمرة الأدبَ ويبقى خَلوقاً ؟ قيل إنَّ الخمرةَ تكشف طبع ومعدن شاربها وهذا صحيح، فلقد رأيت في حياتي سُكارى يميلون للصمت والعزلة والهدوء كما رأيت غيرهم يغلب عليهم الطبع الشرس وسوء الأدب والنزعة العدوانية حدَّ الإستعداد لممارسة جريمة القتل وقد حصل هذا الأمر بضعة مرات في حياتي ولم أكن بعيداً عن مسرح الأحداث. سيء الأخلاق هو سيء الأدب في عين الوقت والعكس صحيح ... سيء الأدب هو سيء الخُلق معاً. لا أحسب المتنبي صائباً فيما قال. المهم، لنتابع أحوال المتنبي مع الخمرة ومجالسته لبعض متعاطيها إدماناً من كبار وعليّة القوم يومذاك.
على الصفحة 154 من ديوانه قال المتنبي " وسقاهُ بدر ولم يكنْ له رغبة في الشرب فقال "
لمْ ترَ مَنْ نادمتُ إلاّكا
لا لسوى وُدّكَ لي ذاكا
ولا لحُبيّها ولكنني
أمسيتُ أرجوكَ وأخشاكا
كما قال على نفس الصفحة 154 :
عَذَلتْ مُنادمةَ الأميرِ عواذلي
في شُربها وكَفَتْ جوابَ السائلِ
يلي هذا البيت بيتان إثنان لا علاقةَ لهما بالخمر والمنادمة فصرفت النظر عنهما.
وطبيعي أنْ يتأثرمّن ينادم الخمّارة لأوقات طويلة وأنْ تؤثّر فيه طقوس إعدادها وتناولها وما يُعد معها من أطعمة وغناء وربما راقصات فيحلو السمر ويطيب السهر حتى ينخرط المنادم ويستسلم لهذه الأجواء التي تحرّك الصخر كما تحرك البشر لذا لا نُدهش أنْ نجد المتنبي المتعفف والزاهد في الخمور يلين ويُجامل فيتناول شيئاً منها بل وأكثر يوماً منها حتى فقد القدرة على الكلام ! مع ذلك إنه ليس شروباً أو شرّيباً وليس مُدمناً كصاحبه الأمير بدر بن عمّار الأسدي. جاء في الصفحة 155 كلام طريف أنقله حرفيّاً فيه دلالة قوية على شدّة تعلق الأمير بدر بالخمرة أي إدمانه عليها :
( وكان بدر قد تاب من الشراب مرةً بعد أخرى ثم رآهُ أبو الطيب يشرب فقال ارتجالاً ثلاثة أبيات أقتبس منها عجز البيت الأخير:
أَمن الشرابِ تتوبُ أم من تركهِ ؟
معروف على أوسع نطاق كيف يتوب الخمّارون ومدمنو المخدّرات والمدخنون والمقامرون ثم يعودون على ما كانوا عليه من الإدمان بعد حين. صوّر المتنبي هذه الظاهرة أبلغ وأبدع تصوير [[ أَمِنَ الشرابِ تتوبُ أم من تركه ؟ ]].
نقرأ على الصفحة 158 كلاماً ذا علاقة بما نحن فيه . " نال الشرابُ منّي " عنوان بيتين قالهما المتنبي مع شرح فيه شئ من الطول :
( سقاه بدرٌ ليلةً فأخذ الشرابُ منه ثم أراد الإنصراف فلم يقدر على الكلام فقال هذين البيتين وهو لا يدري فأنشده إياهما ابنُ الخراساني وهما قوله :
نالَ الذي نِلتُ منه منّي
للهِ ما تصنعُ الخمورُ
وفي انصرافي إلى مَحلّي
أآذِنٌ أيها الأميرُ ؟ )
سؤال : إذا عجز المتنبي عن الكلام تحت تأثير الشراب فكيف ارتجل بيتين من الشعر قرأهما على الجميع في مجلس ابن عمّار ثم ضاعا عليه فأنشدهما أحد حضور ذلك المجلس؟
في مقطوعات شعرية قصيرة ثلاث يصف المتنبي فيها لُعبة على هيئة فتاة تدورعلى لولب فإذا " وقفت حِذاءَ الإنسان نقرها فدارت فقال أبو الطيّب فيها ارتجالاً " :
فإنْ أسكَرَتنا ففي جهلها
بما فعلتهُ بنا عُذرُها
وقال في مقطوعة تالية وقد " أُديرتْ فوقفت حِذاءَ أبي الطيّب فقال " :
سأشربُ الكأسَ عن إشارتها
ودمعُ عينيَ في الخدِّ مسفوحُ
وقال يُمهّدُ للمقطوعة الثالثة " وشربَ وأدارها فوقفتْ حِذاءَ بدر فقال " .....
سهرة طريفة في أحد مجالس منادمة أمير نُسرُّ بها حتى لكأنا كنا حاضرين هناك نشرب معهم ونلهو ونضحك ونسكر ! بدر بن عمّار رجل ذكي خبير بنفوس البشر وبالشعراء خاصةً لذا كان يُلح على نديمه المتنبي في أنْ يشرب ما يقدم له من الخمور فالكحول يُلهب حماس الشعراء ويقدح في قرائحهم ويغيّر من أمزجتهم وبعض طبائعهم ويهيج فيهم دواعي الخفة والطرب .... هذا الأمير داهية فارس قائد يلعب الشطرنج ويصيد أو يصارع الأسود فضلاً عن تعاطيه الخمرة والحرص على إقامة مجالس المنادمة والشراب . لشديد الأسف لا نعرف الكثير عن هذا الشخص فهل أرّخَ له أحدٌ وضاع ما قد ألّفَ وأرّخ ؟ في إحدى قصائد مديحه له جمعه المتنبي في بيت واحد مع ابن رائق وخليفة بغداد حينذاك المُتّقي وكانت المرة الوحيدة التي ذكر المتنبي فيها اسم أحد خلفاء بني العباس. قال في قصيدة " ومَنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ " :
حُسامٌ لأبنِ رائقٍ المُرّجى
حُسامُ المتّقي أيامَ صالا
آخر ما قال المتنبي ( الصفحة 163 ) في السكر ومتعاطيه الأمير بدر بن عمّار بضعة أبيات أقتبس منها بيتين فقط جديرين بالذِكْر هما :
فَخَرَ الزجاجُ بأنْ شَرِبتَ بهِ
وَزَرتْ على مَنْ عافها الخمرُ
وسَلِمتَ منها وهي تُسكرنا
حتّى كأنكَ هابكَ السُكْرُ
فيهما مبالغة في تعظيم الممدوح من أنَّ كؤوس الخمر تفتخر أنَّ الأميرَ يشرب بها الخمر ... ثمَّ إنَّ ابن عمّار لا يتأثر بمفعول الخمر ولا تًسكره هذه الخمرة في حين تُسكرُ سواه ( وسَلِمتَ منها وهي تُسكرنا ) ... هل قال شاعر غير المتنبي شعراً في ممدوح مثل هذا الكلام المفرط في المجاملة والمبالغة ؟ حقيقة معروفة أنَّ المدمن على تناول الكحول يكتشف ذات يوم أنَّ الخمرة لا تُسكره ! قد يكون هذا هو حال ابن عمّار.
في ديوان المتنبي مقطوعات أخرى صغيرة يحكي في بعضها تناوله كؤوس الخمر في مجالس أناس آخرين لا علاقة لهم ببدر بن عمار المعاقر الدائم للخمرة . كتب المتنبي في الصفحة 212 من ديوانه بيتين من الشعر قدّمَ لهما بقوله ( سقاني الخمر... وسأله أبو محمد أنْ يشربَ فامتنع، فقال له بحقّي عليكَ إلاّ شربتَ فقال ) :
سقاني الخمرَ قولُكَ لي بحقّي
وودٌّ لم تشُبْهُ لي بِمَذْقِ
يميناً لو حَلفتَ وأنت تأتي
على قتلي بها لَضربتُ عُنْقي
ملاحظة : أبو محمد هذا هو [ الأمير أبو محمد الحسن بن عُبيد الله بن طَغَج بالرملة ].
يشرب المتنبي الخمر ولكن تحت ظروف لا يستطيع التملّص والهروب منها فهذا يحلف عليه بحقه عليه وآخر يُقسم بالطلاق وثالث يُلح وكلهم ذوو فضل عليه.
تلا هذين البيتين بيتان آخران قال المتنبي فيها " ثم أخذ الكأس منه وقال " :
حُييتَ من قَسَمٍ وأفدي مُقسِما
أمسى الأنامُ له مُجلِاًّ مُعظِما
وإذا طلبتُ رِضى الأميرِ بشُرْبِها
وأخذتُها فلقدْ تركتُ الأحرَما
أخيراً قال في بيت من ثلاثة أبيات ( وهمَّ بالنهوض فأقعده أبو محمد فقال ) :
...
مالَ عليَّ الشرابُ جِدّا
وأنت للمكرماتِ أهدى
فإنْ تفضّلتَ بانصرافي
عَدَدْتهُ من لّدْنُكَ رِفْدا
مال عليَّ الشرابُ ... تعبير بليغ ينمُّ عن شدّة السكر وتمكّن الخمرة من أعصاب شاربها وصعوبة سيطرته على حركاته خاصة حركة القدمين .
هل أضيف دليلاً قوياً آخرَ على تعاطي المتنبي للكحول وحنينه بين حين وآخر له تبعاً لحالاته النفسية ، ففي قصيدته الأكثر شهرة " عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ " التي هجا فيها إخشيد مصر كافوراً بعد أنْ ضاق به الحال في مصر وبث الإخشيد جواسيسه يترصدون أقواله وأفعاله ولم يفِ بما وعد المتنبي من منحه إقطاعاً أو إمارةً فقال ما قال :
يقولُ لي الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤكَ فبي شرابكَ والطعامِ
وما في طبّهِ أني جوادٌ
أضرَّ به بجسمهِ طولُ الجَمامِ
فليس يُطالُ له فيرعى
ولا هو في العليقِ أو اللجامِ
وقال :
أمسيتُ أروحَ مُثرٍ خازناً ويَداً
أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ
وقال في قصيدة أخرى يمدح كافوراً بها :
وغيرُ كثيرٍ أنْ يزوركَ راجلٌ
فيرجعَ مَلْكاً للعراقينِ واليا
وقال في أخرى مادحاً كافورَ وفاضحاً نواياه :
أبا المسكِ هل في الكأسِ فضلٌ أنالُهُ
فإني أُغنّي منذُ حينٍ وتشربُ
وهبتَ على مقدارِ كفْيْ زماننا
ونفسي على مِقدارِ كفيكَ تطلبُ
إذا لم تَنُطْ بي ضيعةً أو ولايةً
فجودكَ يكسوني وشُغلُكَ يسلبُ
هذه نماذج من معاناة المتنبي مع كافور في فسطاط مصر .
أخلص من كل هذا الكلام إلى القول إنَّ المتنبي المتأزم جداً جداً لجأ نفسيّاً إلى الخمرة التي تذكّرها إذْ لم يجدها فقال وقد ترك فسطاط مصر هارباً :
إذا أردتُ كُميتَ اللونِ صافيةً
وجدتها، وحبيبُ القلبِ مفقودُ !
*
ديوان المتنبي. دار بيروت للطباعة والنشر. بيروت 1980 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق