قد تكون فلسطين الدولة الوحيدة في العالم التي تعتمد ذكرى "الإسراء والمعراج" كيوم عطلة رسمية في جميع أرجائها؛ ولا غرو في ذلك، فهي صاحبة الحظوة السماوية، وقدسها كانت أرض المعجزة، وصخرتها أم البركات وشهد الملتقى.
لا أذكر متى تجوّلت آخر مرة في شوارع القدس العتيقة، ولا أعرف متى تولّد داخلي ذلك الشعور الذي دفعني، قبل سنوات بعيدة، للابتعاد عن التجوال في حاراتها وفي شوارعها، رغم أنها كانت عندي، وعند "جليليّين" كثيرين مثلي، بمكانة الرئتين "وبيادر صبانا" وأملنا المشتهى.
صادفت العطلة في فلسطين يوم الاربعاء الفائت. كانت زرقة السماء بعيدة والأقرب إلينا كان بياضها الصافي. تركت بيتي تتنازعني رغبة قوية لزيارة القدس في هذا اليوم المميز. ركنت سيارتي في أحد المواقف مقابل " الباب الجديد" وقبل دخولي منه إلى "حارة النصارى"، وقفت مع أصدقاء عرفتهم مذ كانوا موظفين في قسم أمن "بيت الشرق" أيام الراحل الكبير فيصل الحسيني. حاولوا استضافتي على فنجان قهوة في مكان عملهم الجديد، لكنني استمحتهم عذراً وبدأت مشواري على طريق الحنين والوجع.
ما زالت حجارة سور المدينة ملساء وضخمة وآثار دموع السماء بادية عليها فألوانها نارية واضحة وقد تخلصت من غبار الصيف ورمادية الخريف.
أحسست، وأنا أقف قبالتها من بعيد، كأنها تخبيء بقايا وجوه آدمية، وأنها حجارة ذكية تهزأ بمن يختالون على عِبَر الزمن، وهي الحجارة وحدها بقيت رغم تبدّل الأحوال وتعاقب الدول.
من مكاني رأيت عددًا من رجال الشرطة الإسرائيلية وهم يقفون، كالأقزام، في عروة السور. اقتربت منهم فكانوا مدججين بكامل عدّتهم وعتادهم. كانت أجسامهم ضخمة وكان بعضهم يلبسون، رغم برودة الجو، قمصانًا قصيرة الأكمام تظهر عضلات سواعدهم. كانوا كالروبوتات وعيونهم تحملق ببرود آلي في وجوه المارة.
وقفوا من غير حراك، إلى أن انقضّ أحدهم كصياد لمح فجأة فريسة كانت عبارة عن ثلاثة شبان، قمحيي البشرة، في ثياب عمال عائدين الى بيوتهم. طلب منهم الشرطي أن يقفوا الى جانب الرصيف، ففعلوا وخلال ثوان حاصرهم رفاقه كأجسام مشبوهة. لم يستوقف هذا المشهد أفواجَ السائحين والزائرين ولا حتى سكان البلد المحليين.
أخرج الشبان وثائقهم الشخصية. كنت قريبًا منهم فسمعتهم يناقشون افراد القوة بعبرية احتلالية وكان أحدهم يتهم الشرطي، بلهجة متحدّية خالية من الخوف أو من التردّد، ويصرّ أنّ الشرطة تنكّل بهم اعتباطيًا، فهم يخرجون ويعودون من هذه البوابة بشكل يوميّ ويواجهون هذه المعاملة كل مرة من جديد.
لكل مدينة عريقة رائحة مميزة وبصمة أثيرية خاصة بها إلا "مدينة الصلاة " فهي، لأنها مقدّسة، لا تحتفظ برائحة واحدة خالصة، ولا تميّزها بصمة، بل أنّة يسمعها كل من يحفر في جدران تاريخها.
إنها ابنة السماء المدللة ونطفتها الفريدة؛ فمن منكم يعرف كيف تكون رائحة السماء الحقيقية ؟ ومن قادر على وصف نكهة نطفتها المفضلة؟
مررت أمام مدرسة "الفرير" وانعطفت بعدها يسارًا فنزلت الى شارع "البطريركية الأرثوذكسية"، الذي كان خاليًا من البشر. لاحظت أمامي مباشرة علمَي البطريركية ودولة اليونان مزروعين فوق مدخلها، في مشهد يذكّرنا برائحة البخور وبطعم الهزائم التي تشهد عليها جميع قباب المدينة وانحناءات قناطرها وعطور الياسمينات المنسية في حواشيها.
كنت وحيدًا، أمشي في شوارعها ببطء يناسب كهولتي وعجز رئتي، وكذلك لطمعي في أن أثير غيرتها؛ فلقد جئتها يافعًا حائرًا، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، لكنها صارت عشيقتنا التي نحلم بريقها في كل صباح ونعدو بلهفة في الأماسي الباردة وراء دفئها وحنانها.
وصلت إلى ساحة عمر بن الخطاب. كان أمامي "باب يافا " أو "باب الخليل"، كما يسمّيه الفلسطينيون، فاغرًا فاه كأسد هرم منهك. كانت على يساري "قلعة داهود" وبجوارها مركز شرطة القشلة وأعلام اسرائيل مرفوعة عليها وعلى عدة مبان أخرى. عشرات اليافطات المكتوبة بالعبرية تزين مداخل الحوانيت ابتداءً من حيّ الأرمن ونزولًا إلى بطن السوق حتى تصل الى دير "مار يوحنا" ومبان تاريخية أخرى.
لا مكان للندم ولا وقت للجوع. لم يعُد باب الخليل موئلاً لرياحنا ولا مبعثاً لأملنا. اسمعوني أيها العرب ! لقد وقفت في ساحة عمر كزائر من كوكب بعيد وأمامي تتدلى أعلام اسرائيل ترفرف بترف، وثلة من رجال الشرطة الاسرائيليين ينتصبون كالرماح وكأصحاب المكان؛ ويتصرفون كأحفاد داهود وكأمناء الهياكل.
لا أعرف كيف مرّت الدقائق، لكنني شعرت بالدوران وسمعت قهقهات تلفّني من جميع الجهات. كانت أعداد كبيرة من الناس تدخل في أمعاء المدينة وفي أمعائي ومثلهم يخرجون منها ومني. كانوا يتكلمون بكل لغات الأرض فخفت على عربيتي وعلى "قاف" المدينة، فنظرت إلى الأعلى عسى أن تسعفني السماء، فلم أر إلا ثقبًا أسود كبيرًا. شعرت ببرد شديد وبقشعريرة، فهرولت شرقًا كأنني أركض وراء نعشي.
وصلت الى مدخل "سوق القصابين" ففتشت عن ذاكرة المكان القديمة فلم أجدها؛ ثم دخلت إلى ما بقي من "سوق العطارين" الشهير فأحزنني هَيْله. لم أشعر بتعب، رغم برودة الطقس واحتجاج "ابن صدري" الخائف. دلفت من سوق إلى سوق ومن ورد قنطرة إلى لعنة منطرة، وكنت في كل خطوة أشعر بغصة ومع كل شهقة كنت أبلع دمعة.
لم يعرفني أحد من أصحاب الحوانيت ولم أتعرف على أحد منهم. قضيت أكثر من أربع ساعات في رحابها كغريب يزور ميناءًا مهجورا. إنها قدس جديدة ومدينة تعودّت على مجوسها. لم أجد عروستنا التي احببناها حين كانت "قافها" تعني القدوة والقدرة والقمر، و"الدال" تعني الدولة والديَن والدليل، و"سينها" السيف والسماح والسناء.
وقفت تحت يافطة كتب عليه "سوق الخواجات" كي أصوّرها قبل الرحيل. كانت معظم أبواب المحلات في هذا السوق مقفلة باستثناء عدد قليل منها.
" هل انت سائح ؟ " بادرني رجل في مثل عمري بلكنة مقدسية عصرية. ابتسمت، فخياري الآخر كان أن انفجر بالبكاء أمامه. عرّفته بنفسي، فاعتذر وقال: " نعم نعم أشهر من نار على علم يا استاذ". فقلت: أي نار وأي علم !
اسمه ابو جهاد ، ورث دكان بيع الأقمشة عن أبيه. حدثني أبو جهاد عن قصة "سوق الخواجات" الذي بنته الجالية الأرمنية قبل مئات السنين، وكان اسمه الأصلي "سوق الصاغة". هجر الصاغة الأرمن السوق واستأنفوا تجارتهم في "سوق أفتيموس"، فتحوّل سوقهم إلى سوق أقمشة فسُمّي "بسوق الخواجات" لأنه تخصّص ببيع الأقمشة الفاخرة للمقتدرين ولأصحاب المال والجاه وهم "الخواجات" بلغة الباعة أهل المكان.
في السوق سبعون دكان لم يبق منها ناشطًا إلا ستة صمد أصحابها، مثل أبي جهاد، أما الباقون فهجروها ورحلوا.
هل انت حزين يا أبا جهاد ؟ سألته ؛ فأجاب بهدوء الحذرين: "وصفك لما يجري في القدس بالحزين غير كاف وغير صحيح .. يجب أن تجد وصفًا آخر"؛ قلت: "غاضب ومقهور ؟ " فوافقني بهزة رأس.
سألته على من أنت غاضب ؟ كانت اجابته عبارة عن سيرة هذه المدينة الكسيرة لكنه وافقني، على أنّ أول المسؤولين عما جرى ويجري في المدينة هم اهلها، فلا يصحّ الاكتفاء بتوجيه القصور الى أعتاب السلطة الفلسطينية وتحميله كذلك على ظهر قمع إسرائيل.
اتفقنا أنّ الصمود هو صمود أصحاب البيت والقلعة أولًا، وبعده يكون العتب واللوم على قادة الوطن وعلى رعاته .
عدت بعد قصة "سوق الخواجات" إلى سيارتي، فسألني رفاق الزمن البديع عن رحلتي وعما رأيته وأحسسته فيها. لم اخبرهم أنني لم أر "الإسراء" في جولتي ولم اشعر "بمعراج" المدينة. سكتّ فتحدث صمتي وفضحت عيناي سرّ المدينة.
ولأحاديث القدس بقية ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق