حين كنتُ هذا الصباح أمشي متنعّماً برياضتي اليوميّة وما توفره ضاحيتنا من جمال الطبيعة، كنت كعادتي أنجز كثيراً من الأفكار التي تنتابني على شكل مشاريع قادمة سواء قطعة أدبيّة سأسرع إلى تدوينها حال عودتي إلى المنزل، أو ما يترتّب عليّ من اتصالات لإجراءات معيّنة. واليوم كان اتصالي مع "غليبووكس"، المكتبة التي سأقوم فيها بإطلاق كتابين ترجمتهما ونشرتهما هذا العام لتأكيد الحجز في أيلول القادم، على رأس القائمة. أحد هذين الكتابين هو "المدن"، ترجماتي لمختارات من شعر غسان علم الدين انتقيتها من كل مجموعاته الشعريّة.
لم يكن ليخطر ببالي أبداً أنّني سأنتهي إلى كتابة هذا الكلام عنك يا صديقي غسّان.
عدت إلى المنزل وانشغلت بأموري اليوميّة إلى أنْ صارت الساعة التاسعة صباحاً فأسرعت للاتصال بالمكتبة والاتفاق على موعد الأحد الثاني والعشرين من أيلول. وأعطيتهم خطّة البرنامج الذي يتضمّن عزفاً وغناء تقوم به أنت يا غسّان. كنت على يقين كم كان يعني لك كلّ هذا، خصوصاً الترجمة الإنكليزيّة لأعمالك. وكنت أشعر بسعادة كبيرة أنّني استطعت إدخال الحبور إلى فؤادك.
سبق أنْ غادرتَ سيدني إلى لبنان في بداية الأسبوع. حاولت الاتصال بك مراراً في اليوم التالي للاطمئنان عن وصولك، ولم أفلح إلاّ عشيّة الأربعاء، أيْ حوالي الواحدة والنصف بعد الظهر بتوقيت لبنان. وحين أجَبْتني سمعت في صوتك كثيراً من الاهتمام بما كنتَ بصدده تلك اللحظة، ألا وهو مرافقتك لقريب لك في تفقد مشروع سياحيّ يعزم على إقامته. لم يكن الإرسال جيّداً فاختصرنا حديثنا إلى دقائق قليلة، وهو أمر غير معهود بيننا إذ لا تقلّ كلّ مخابرة بيننا عادة عن نصف ساعة مهما نوينا أنْ تكون قصيرة. هنالك كثير مما نتبادل فيه من شؤون وشجون وفكر وفنّ.
وهذا المساء، الجمعة، لم يدم فرحي واطمئناني لأنّني تلقيت فجيعة وفاتك بعد أنْ اتصلت بي صديقة مشتركة. قالت لي إنّك كنت في طريق العودة من الجبل، حيث المشروع المزمع إقامته، نقلوك إلى المستشفى إثر ما تبيّن أنّه "ذبحة صدريّة"، ثم فارقت الحياة.
هل أكون أنا آخر من تحدّث إليك من أستراليا؟
وهل ستسمعني إذا ذكرتك كلّ يوم وأنا أفكّر في حال الفنّ والأدب العربيّ في أستراليا، وهي الأمور التي كانت تشغل بالك بحسرة كبيرة؟
هل ستشعر بفوران أفئدتنا حين نطلق الكتاب الذي ترجم مشاعرك إلى الإنكليزيّة، والذي دأبتُ على إصداره حين علمتُ أنّك ستغادر في زيارة إلى بيروت حتّى تحمل معك ما أعلم أنّه يسعدك؟
لم أكن أعلم أنّك ستسبقني إلى ملكوت الكون وأنت أخي الذي يصغرني بسنين.
ولم أكن أعلم أنّني هذا الصباح حين شبّهت ضاحيتنا هنا في سيدني بجبال لبنان التي كنت أستذكر نفوذها الأبديّ إلى مشاعري، ودوّنت شيئاً عن هذا على الفيسبوك، ستكون النهاية بالنسبة لك وأنت راجع من واحد من تلك الجبال.
ليكن لك بين المجرّات سلام يا غسّان، وليغطّيك رذاذ الشعر الكونيّ وأنت تستمع إلى نشيد الأبديّة الذي تتراقص به أوتار العود الذي كنت تعزف عليه.
أعلم المصاب الجلل الذي يحلّ الآن على ابنتكَ ووالدتها. لهما الصبر الجميل.
أمّا أنتِ يا أمان، يا من أتيت برداً وسلاماً على غسّان، أيّتها الصديقة الأديبة الشاعرة: كيف يرقى المرء إلى شعورك؟ لا أعرف كيف أعزّيك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق