جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن خضر بن إبراهيم بن خضر الكاهن الحفتاوي (هكهن فنحاس بن أبراهام بن فنحاس هحڤتئي، ١٩٢٣- ١٩٩٢، شاعر ومعلم دين (شريعة)، مرتل ومتقن لتلاوة التوراة ،عمل شمّاسًا في كنس نابلس وحولون، انتقل مع عائلته إلى حولون عام ١٩٦٧) بالعبرية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص. ٧١-٧٣. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”مقدّمة
استمعت إلى هذه القصص القصيرة الثلاث التالية في أوقات متباينة على لسان القاصّين الثلاثة المذكورة أسماؤهم لاحقًا، وسجّلتها إثر سماعها بفترة وجيزة، وهي تدور حول شخصية مركزية واحدة: الكاهن إبراهيم بن خضر بن إسحق اللاوي الحفتاوي (أبراهام بن فنحاس بن يتسحاك هليڤي هعڤتئي، ١٨٧٨-١٩٤٠). إبراهيم الكاهن كان أحد أعضاء الهيئة التدريسية في المدرسة التي أسّسها المحسن الأمريكي تشارلز وارن. وكان الكاهن إبراهيم ذا تقليد من الدرجة الأولى وسامريون كُثر تعلّموا منه الشعر والصلاة. كما عمل لسنوات كثيرة جزّارا في الطائفة وشماسًا بارعًا ومرنّما مطلوبا لعذوبة صوته. وقد رثاه شقيقه الكاهن الأكبر توفيق بن خضر (متسليح بن فنحاس) عند موته بعمر اثنين وستّين عامًا وحزن عليه حزنًا شديدا و”لحقه“بعد ذلك بثلاث سنوات.
لا أمرّ من الموت
من يحبّ الموت على الإطلاق؟ أثمّة من يريد الموت إطلاقًا؟ ولكن لا بدّ من التعوّد على كلّ شيء وعلى الحقيقة أيضًا بأنّ الموت نهاية كلّ حيّ. أبي الكاهن إبراهيم مات شابّا، ابن اثنين وستّين عامًا فقط. وجدّي خضر أيضًا غادر هذه الدنيا بعمر ثمانية وخمسين عاما، ١٨٤٠-١٨٩٨. وهنالك أسباب كافية تجعلنا جميعًا نكره الموت. الله منحنا إمكانية الاختيار بين الموت والحياة وقطعًا نحن أحياء نرزق فإنّنا نزدري الموت، إلا أنّه آتٍ في آخر المطاف كما قال أحد حُكمائنا: كلّ ما يفكّر به الإنسان يبطله الموت. باستطاعة كلّ واحد منّا أن يضع خططًا متنوّعة ولكن وعلى حين غرّة وبدون أيّ إبلاغ مسبق يأتيه الموت مُبقيًا أقرباءه مذهولين متألّمين. مهما التفتنا هنا وهنا فإنّنا نجد دائمًا أنّ هناك سببًا ما للموت. لا أحد يفارق الحياة هكذا، ثمة سبب لكل شيء.
ما لا أفهمه بالمرّة هو موقف بعض أبناء طائفتنا حيال كتاب الحِداد. هل تسنّى لك أن ترى صدور بعض العشرات من كتب الصلاة ومن أسفار مقدّسة أخرى؟ كتاب الحِداد لم يكن بينها. إسألني ما السبب لأجيبك! بسبب الاعتقاد التافه لدى بعض أبناء جلدتنا أنّه كلّما قلّلنا من التطرّق والانشغال بما يمتّ بالموت بصلة، كلّما قلّ حلول الميت علينا. هوذا هُراء هُذاء. في المحصّلة ينبغي إصدار كتاب الحِداد كي يتعلّم الشباب كيف نتعامل مع الحداد في الطائفة، والكتاب صغير أيضا.
عندما مات خالي عابد صدقة (عوڤاديا تسدكه)، رحمة الله عليه، قررت أخيرًا قائلًا ماذا سيحدث إذا نسخت الكتاب لي؟ كم من الوقت استغرق هذا النسخ في ظنّك؟ ثلاثة أيّام!، نعم ثلاثة، ”شو في“، ليكن بحوزتي نسخة من كتاب الحِداد في البيت. عندما أشاهد بعض شبابنا جالسين كالبُكم في مراسم الحِداد أعلم أنّ لا أحدَ منهم قد أمسك الكتاب بيده ولم يره أيضا.
ها هو صديقي راضي صدقة (رتسون تسدكه) كان قد أراني قبل أربع سنوات تحريره لكتاب الحِداد بغية إصداره. وتستطيع أن تسألني لماذا أجّل الإصدار كل هذه السنوات. حسنًا، ماذا كنت أنوي سرده عليك؟ آه، نعم، عن أبي الكاهن إبراهيم وجدّي خضر. لسنا بصدد قصّة رأيتها بأُمّ عيني ولكن أبي أحبّ دائمًا أن يحكي لي عن جدّي هذه الحكاية القصيرة المتعلّقة بسفر الحِداد، أو كما اعتدنا القول بالعربية كتاب الكره.
يقينًا، قد سمعتَ عن جدّي خضر. مات قبل ولادتي بسنين كثيرة، ولكن تكلّموا عن الكم الهائل من الأشعار والتفاسير والمدراشيم التي خلّفها وراءه. أضف إلى ذلك أنّه نسخ كتبًا كثيرة، وكتاب الكره لم يكن من بينها. ابتعد جدّي خضر عن كتاب الكره دوما. لم يرد نسخه. لم ينو لمس أيّ شيء ذي صلة بالموت. أحبّ الحياة. في واقع الأمر مَن منّا ليس على هذه الشاكلة؟
كان والدي إبراهيم ابنَ عشرين ربيعًا عندما تيتّم من أبيه، لأنّ جدي مات صغير السن، بالكاد بلغ تمانية وخمسين سنة، ومع ذلك تمكّن من إنجاز الكثير في حياته. كلّ أبناء جدّي، أعمامي وأبي قدّروه كثيرا وصانوا شرفه. في الواقع كان أبي الوحيد الذي كان يجرؤ على قول شيء ما بحضوره.
كان أبي بالرغم من صغر سنّه يسأل جدّي باستمرار، لماذا لا وجود لكتاب كره واحد ضمن مئات الكتب التي نسخها؟ وكان جواب جدّي خضر أنّه لا يحبّ هذا الكتاب ويفضّل ألّا ينسخه. ماذا يحدث لو كان في بيتنا كتاب كره واحد؟ سأل أبي جدّي. لجدّي كانت مكتبة ليست بصغيرة. وحينما كان يعتزم أبي على القيام بعمل ما فلا شيءَ كان يمنعه من ذلك. قعد أبي ثلاثة أيّام فنسخ كتاب الحِداد، كتاب الكره وعرضه على جدّي.
الجدّ خضر لما يكن راضيًا عن عمل ابنه، أخذ الكتاب من يدي أبي وأخفاه تحت إحدى الوسائد التي على أحد الأسرّة. ”هذا الكتاب لا محلّ له في مكتبتي“، قال الجدّ.
”لماذا خبّأته تحت الوسادة“؟ استفسر أبي.
”من الأفضل ألّا يراه أحد، لا أمرّ من الموت، علينا الابتعاد عنه“! قال الجدّ. ومنذ ذلك الوقت حرص على أن يبقى الكتاب مختبئًا في موضعه الثابت تحت الوسادة.
ּأتظنّ أنّ أبي إبراهيم الكاهن أحب ّ هذا الكتاب أكثر من جدّي؟ لا وألف لا! في كلّ مرّة كان ينسخه كان يبيعه حالًا لأحد السوّاح الذين كانوا يتردّدون باستمرار على نابلس. وهكذا لم نعثر في ترِكة أبي أيّة نسخة من كتاب الكره. كما أخبرتك، قمت بنسخ الكتاب لي قبل بضع سنين فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق