جولة فكرية مع الألمعي طيب تيزيني في رحاب منتدى الجاحظ/ د زهير الخويلدي

" البدء من الصفر وإذا لم تفعلوا أنتم لا يأتيكم شيء...ابدؤوا بفتح الدائرة"

غادرنا الدكتور طيب تيزيني مساء الجمعة 17 ماي 2019 عن عمر ناهز 85 سنة وبعد أن أثرى المكتبة العربية بأكثر من مائة كتاب في الفلسفة وقراءة التراث والنقد الأدبي والحضارة ومجموعة من اللقاءات والمحاضرات والدروس التي ألقاها في جامعة دمشق والجامعات العربية وكانت محبته كبيرة للجمهور العربي والطلاب والمثقفين والكتاب والنقاد والقراء وربما أهمها هو مشروع قراءة جديدة للتراث والثورة.

والحق أني كنت وافر الحظ وسعيد الفرص متمسكا بالتفاؤل اللازم وكثرة العمل وشدة الحرص بأن قابلت واستمعت إلى قامات من الفلاسفة والأستاذة الغربيين مثل بول ريكور وجاك دريدا وميشيل ملارب وجورج لابيكا وألان رينو وبرنار بورجوا وأكسال هونيث وأليكيس فيلولينكو وأدغار موران وجان غريش وكذلك العديد من المفكرين والدكاترة والكتاب والنقاد من الأشقاء العرب والمسلمين رحل البعض منهم مثل محمد أركون ومحمد عابد الجابري وجمال البنا ومطاع صفدي وسالم يفوت ومازال من هو على قيد الحياة مثل حسن حنفي وعزيز العظمة ومحمد شحرور وعلي حرب ووجيه كوثراني ورضوان السيد ومنير شفيق ونصر حامد أبو زيد وفهمي جدعان وطه عبد الرحمان ومحمود درويش. بيد أن مقابلة الراحل طيب تيزيني كانت من طبيعة مغايرة وفي إطار مؤسساتي مستقر، وربما للمدة الهامة التي قضاها ضيفنا المبجل عندنا ، والمجال الذي عكفت على تقليبه مرة أخرى على أحسن وجه وهو الثورة والتراث.

لقد انطلقت رحلتي الفكرية معه من لحظة الاستقبال بالنزل إلى وقت تكريم منتدى الجاحظ إلى حد توديعه في المطار وشهدت تبادل غزير ومكثف من الحوارات العقلانية التي تتخللها جملة من الأسئلة والأجوبة وترافقها استفسارات واستشارات وتنتهي غالبا بإبداء ملاحظات هامة وبناء توقعات وافتراض انتظارات. 

لقد تمثلت قراءته للمشهد العربي زمن الحراك الاحتجاجي من إشادة بالزمن الثوري الذي تعيشه مختلف الدول العربية وتحمسه للربيع العربي وتعطش الشعوب للحرية وإبداء إعجاب كبير بالتجربة التونسية ونجاح المسار الثوري في كنف السلمية والمدنية وتمنى زرع شجرة الديمقراطية والتعددية على أراضي افريقية وعربية أخرى وأبديت له رفضي تسليح الثورة وعسكرة العصيان السلمي ووصله بالإرهاب في حين تمنى زيارة بؤر الانتفاضة وثورة الكرامة والوقوف أمام ضريح محمد البوعزيزي وبقية الشهداء.

لقد تحدث الدكتور عن جدل الهوية والحداثة في المجال العربي المعاصر وشخص الآفات التي أصابت الأمة وسببت السقوط ونقط الصفر وطرح علاقة السؤال التراثي بالمشروع الديمقراطي وحاول تحيين المشروع الفلسفي العربي وسط التحولات المجتمعية العنيفة وحاول تبيئة الفكر الماركسي ضمن محيطه.

لقد أشار إلى أهمية تجربة الإصلاح السياسي والديني في بناء الوعي الثوري التي قادها المفكر خير الدين التونسي وعرّج على دور الحركة الوطنية والتجربة النقابية والعمالية التي فجرها الحامي والحداد وحشاد وتوقف عند دور الجامعة والمؤسسات الثقافية في صناعة نخب مدنية تؤمن بالتغيير الديمقراطي السلمي.

كما تذكر مختلف المناضلين الذين اشتغلوا معه من أجل بناء جبهة عربية لمقاومة الرجعية وتحقيق التقدم وخاصة مهدي عامل وحسين مروة وصادق جلال العظم ونقاشه العميق مع الدكتور محمد عابد الجابري.

لقد نظمت الهيئة المديرة لجمعية الجاحظ موكبا تشريفيا في المكتبة الوطنية بتونس العاصمة وزادت عليه بلقاء تكريمي في مقر المنتدى بعد أن زار كل من القيروان وصفاقس أين احتفل به الجامعيون والنقابيون.

لقد ترك الراحل تيزيني انطباعا طيبا لدى المثقفين والناشطين بفضل ما يتمتع به من رحابة صدر وبشاشة وعلم وثقافة واسعة وقدرة على التحليل والإقناع خاصة بعد المراجعات الجذرية التي أجراها بشكل لافت على مشروعه الفكري وقيامه بالنقد الذاتي وإيمانه بأهمية البعد الديني في الانتقال من الاستبداد إلى الحرية وأوكل مهمة استكمال المهام الثورية إلى المثقفين والنقاد والمصلحين والإعلاميين وراهن عليهم في بلورة  تجربة التنوير الديني وإحداث نهضة عربية جديدة تقطع نهائيا مع التخلف والشمولية والاستعمار والتبعية.

لقد ترك فيلسوف حمص بصمته في الكثير من العقول العربية ونقل العدوى من الجامعة الألمانية التي أتم بها رسالة الدكتورا إلى الجامعات العربية وجعل من قراءة التراث والانفتاح على الآخر ومواكبة العصر شغله الشاغل وآمن بقوة الفكر العربي المعاصر على الاستئناف الحضاري وريادة الإنسانية من جديد بشرط ترك الفرقة والانقسام والتفاهة والأنانية والانغلاق والتوحد حول مشروع وطني جامع وواحد يضم المختلف والمتعدد والمتنوع ويبذل الجهود في سبيل حل جملة الإشكاليات العالقة مثل الطائفية والتمذهب والفساد وينكب على معالجة التحديات الحارقة للشباب العربي مثل الهجرة والبطالة والعولمة المتوحشة.

لقد ناهض المفكر السوري الدولة الأمنية العربية وحاول جاهدا تفكيك المرتكزات الأربعة للاستعباد السياسي للفضاء الاجتماعي التي تعيد إنتاج الطاعة ورفض منهج القمع ومصادرة الحريات التي تعتمده الأنظمة العربية للمحافظة على الحكم وربط الجمود الثقافي بالاستبداد الشرقي وفكك العلاقة بين الداخل والخارج ونادى على القوى الفاعلة في الداخل إلى مقاومة الهشاشة الذاتية التي تستدعي القوى المهيمنة من الخارج والتخلص من قابلية الغزو والخروج من وضعية الاستعمار وتغيير حالة التبعية والتشبث بالاستقلالية وحمل الفهم السكوني للدين مسؤولية الانحطاط ودعا لاستئناف الاجتهاد وممارسة التأويل.

سيظل اسم الفقيد طيب تيزيني يصرخ بضرورة النهوض من كبوة التخلف والإقلاع من التراث إلى الثورة.

+ ملاحظة: لقد زار المرحوم تونس أكثر من مرة ولكن زيارته الأخيرة كانت بدعوة من منتدى الجاحظ من 19 إلى 24 نوفمبر 2016.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق