وديع سعادة: عَزْفٌ منفردٌ على قانون الكون/ د. رغيد النحّاس


العدم آلة حدباء تحتضن أوتار الوجود. وجاء ذلك العازف الذي يجيد مداعبة الأوتار من قُبُل والنقرَ على جسم الآلة من دُبر فتنتصب في جوفها جنّية الأسماء كلِّها: الله والوهم والحياة والموت، و و و، لكنّها تصدح رَغماً عنها بصوتٍ فريد: وديـــــــع، وديــــــع، وديــــــــــع ..... وتتفاجأ بأنّ العازف والمعزوفة كائن واحد، وكيانٌ واحد، تعجز عن فصل مادته عن روحه، وتسمّيه وديع سعادة، وترتبك كثيراً حين تنظر في وجهه. ويجفل هو حين يرى في وجهها وجهَه. ويقول لها:

"وفي تحسُّس غيابي، أيقنتُ جمال لمس الفراغ."

 غيابُ  وديع سعادة في أستراليا وهو اللبنانيّ الشبطينيّ، لا يغيّر أو يبدّل من مشكلة منفاه الأبديّ لأنّ النفي بالنسبة للمفكّرين إحساسٌ قبل أنْ يكون انتقالاً فيزيائيّاً. وعلى كلّ حال هو يَعْتَبِرُ أنّ "المكان" ليس مجرّدَ مساحة جغرافيّة، بل فُسحةً داخليّة نأخذها معنا أينما ذهبنا.

أما الشعر فيعتبره "حلمَ تغيير العالم". ووديع في هذا الحلم كائن تكامليّ، فهو يتعاطى مثلاً مع كلّ أشكال المادّة: صلبة وسائلة وغازيّة ويربطها مع شكلها الأهم، الذي هو سبب وجودها: العدم. وحين يعمل، تراه يسعى ضمن ما يشبه حالة البلازما وهي حالةٌ غازيّةٌ على درجة عالية من التشرّد الكيميائيّ، وبهذا المعنى تصبح الروحُ أو الوهمُ أو كلُّ العوالمِ الأخرى جزءاً من تحليقه الدائم. يقول وديع:

"أُغيّر بالوهم فيزيائي وكيميائي، وأطير."

أضاف بيكاسو نمطاً إنقلابيّاً في مسيرة الفنّ، وسلفادور دالي ميّع الزمان والمكان في لوحاته المبتكرة، ووديع سعادة يقول: 

"في هذه الأيام / الخاليةِ من مشنقةٍ عشيقة / أريد أن أعرف فقط / كيف ألوك ألسنةَ الساعات كلَّها / لحظةً لحظة."

فالرحلةُ مع وديع رحلةُ ارتباك وإرباك لا بدّ منها. حتّى الدعابةُ التي لا تخلو كتابتُه منها تعتمد على نوع من الإرباك. يقول:

"أرغبُ أن يخرج من هذه القصيدة كلب / أتملَّقُه بعظم، بحَلْمَةِ راقصة / أُغريه بحرفٍ ناعم، بواوٍ كذنَب كلْبَةٍ تستعدُّ للمضاجعة."

فلسفةُ وديع هي فلسفة الواقع ببهجته ومرارته. الألمُ الذي ينضح به شعر وديع يسري في العروق بلسماً عجيباً وكأنّه وصفة طبّية يسعى إليها المرء للتداوي بسعيرها: كأنّه السمّ الذي يَشفي من التسمّم. يقول:
"كنتُ ريَّانًا مليئاً بالغيوم / فانحنيتُ على نبعي / ودلقتُ الدموع."
هل هذا لأنّه صرخة الحقّ الخارجة بعفويّةٍ من معاناة ذو العقل الذي يشقى في النعيم بعقله؟ وديع يعبّر عن هذا على طريقته فيقول: "غير أن العارف يهلك في قلق معرفته، أما الجاهل فيهلك في اطمئنان الجهل."

كنت أتمنّى لو أنّي لا أعرف وديع سعادة شخصيّاً وعندها كنت سأسأل نفسي هل يمكنني معرفتَه فعلاً ممّا أقرأ؟ لكنّ مشكلتي أنّني أعرفه، وأعرف شِعرَه وأجد صعوبة في التفريق بينهما. مثلاً يقول:

"النائم على الرصيف يفتح عينيه بين وقت وآخر / يحدّق بي / ويتمتم: ألا تعرفني؟ / ألستَ أنا حين كنتُ أمشي؟ "

"الطريق" في شعر وديع، بكلّ وجودها الماديّ، هي الوعاء الرومانسيّ لحركته الدائبة والتي تميّزت حين انكسرت في يده زجاجة العالم ولم يكن بلغ العشرين من عمره. يقول:

"في هذه القرية التي تستيقظ / لتشرب المطر / انكسرتْ في يدي زجاجةُ العالم."

ويبدو أنّه بعد ذلك شرع في رحلة حميمة مع الطرقات التي مشى عليها. يقول في قطعة "الرحلة":

"وَضَعَ الطريقَ في صدره / ومشى عليها طوال العمر."

والآن بعد خمسين عاماً على أوّل قصيدة كتبها ووزّعها باليد، أرى أنّ العالم كلَّه ينكسر بين خافقيه. هل هو في أوّل الطريق أم في آخرها؟ يقول:

"للدم لسان / كلُّ نقطة منه وهي تسقط تقول: / البشرية كلّها سقطت."

والإحساس بهذا السقوط قد يعزّز الإحساس بفقدان الأشياء والضياع في متاهات الزمان والمكان. يقول:

"فقط لو الهواء يعيد إليَّ / الكلمةَ الأولى التي قلتُها / للريح ."

ورَغم رغبته في استعادة الكلمات، نراه بالنتيجة يريد الرحيل بلا كلام. يقول:

"لم يقل وداعاً /  فقط / رفع قليلاً إصبَعَه ."

يستنتج كثيرون أنّ في شعر سعادة "سوداويّة" جليّة وعدميّة حتميّة. لكنّي أعتبرها الواقعيّة الصارخة التي لا تحتمل الأقنعة. كما أقرُنها برغبة داخليّة في إحقاق الحق وفي ثورته على الله والوجود وغيرها من المفاهيم التي تستبدّ بنا وتشكّل نفاقَنا وتَعدُّدَ شخصيّاتنا. لهذا أعتبرها ذاتَ تأثير إيجابيّ يساعد على شفاء النفس وصيانة ممارساتها الدنيويّة. يقول:

"أوقدوا النار أريد أن آكل وأشرب وأسكر معكم. أريد أن أشرب نخبكم يا صيَّادي الآلهة في مجاهل العدم، في رحلة الانقلاب العظيم، حيث يحيا القتيل ويموت القاتل، وينحني السيّد ويشمخ العبد، وتصير الرعيَّةُ اللهَ واللهُ الرعية."

ومع هذه الثورة، وكلِّ هذا الثراء في الواقع والخيال، نتلمس في مشاهد عديدة تلك الوِحدة القاتلة كالتي تصرَخُها السطور التالية المنتقاة من قطعة عنوانها "رفقة":

"كان لا يخرج إلاَّ في الأيام المشمسة ليكون له رفيق: / ظلُّه الذي يتبعه دائماً. / ينظر وراءه ليتحدَّث إليه، ليبتسم له. /  يلتفت بخفَّةٍ لئلا يغافله على دَرَج ويتسلَّل إلى بيت / يخبره حكايات مشوِّقة لئلا يضجر منه هذا / الظلّ ويهرب، / في الصباح يُعِدُّ كوبين من الحليب، على الغداء يُعِدُّ صحنين، / وكان يعود إلى بيته عند غياب الشمس / يقعد على حجر / ويبكي حتى الصباح."

يقال إنّ أرنست همنغواي انتحر ليسود الموت. ويقول وديع: 

"ولا ينتحر غير من يعلو على الموت، ... المنتحر يهب الموت معنى. ويدحرُه.". 

وهل انتحر وديع أصلاً حين كان يكتب وهو من قال "لا حياة في الكلمات"، أم أنّه كان ميْتاً وبُعث من جديد؟ وهل يجب على كتابته أنْ تموت من أجل بقائه؟ يقول وديع:

"أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئاً ولم يستأثر بهم شيء. الذين خَطَوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه." 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق